مقدمـة
يجدد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان موقفه الرافض لعقوبة الإعدام، ويؤكد على استمرار مساعيه التي بدأت منذ إنشائه لإلغاء هذه العقوبة اللاإنسانية. ويأتي ذلك بمناسبة حلول اليوم العالمي لإلغاء عقوبة الإعدام، الذي يطل علينا سنوياً في 10 أكتوبر، ليأتي هذا العام وقد بلغ عدد الدول التي ألغت عقوبة الاعدام بشكل قانوني أو فعلي 134 دولة.[1] وينحصر الإسراف في استخدام هذه العقوبة واقعياً، في خمس دول فقط على مستوى العالم.[2]
وما يزال القانون الفلسطيني يسمح بتطبيق عقوبة الإعدام من خلال ثلاثة قوانين سارية، وهي:
أولاً: موقف المركز من الدعوات المطالبة بتطبيق وتنفيذ أحكام الإعدام
رغم الاتجاه العالمي المتنامي للتخلص من عقوبة الاعدام، ما زالت الأصوات تتعالى من وقت لآخر، وخاصة في قطاع غزة، لتطالب بالإسراف في استخدام هذه العقوبة وتنفيذها. وتحاول هذه الأصوات أن تُرجع أسباب جرائم القتل والفلتان الأمني وفوضى السلاح إلى غياب التطبيق الحاسم والسريع لعقوبة الإعدام، وكأنها الحل لجميع المشاكل الأمنية التي تؤرق المواطن الفلسطيني.
وقد تابع المركز ببالغ القلق تصريحات من مسؤولين في قطاع غزة صدرت مؤخراً تطالب بتنفيذ أحكام الإعدام دون مصادقة الرئيس. ويستنكر المركز محاولة الربط بين مظاهر الفلتان الأمني وفوضى السلاح من جهة، وعدم تطبيق عقوبة الإعدام من جهة أخرى. وقد صدرت إحدى هذه التصريحات بتاريخ 26 سبتمبر، من المستشار محمد فرج الغول، رئيس اللجنة القانونية في المجلس التشريعي، الذي تم حله بقرار من المحكمة الدستورية، حيث نقل عنه القول بأن “الرئيس عباس يرفض المصادقة
على أحكام الإعـدام، ومن المتوقع خلال المرحلة القادمة تنفيذ أحكام إعدام بحق مدانين بالقتل.” وفي تصريح آخـــر، بتاريخ 3 أكتوبر، نقل عن الناطق باسم السلطة القضائية في غزة، إيهاب عرفات القول بأنه “تتوافر عشرة أحكام إعدام جاهزة للتنفيذ.”
جدير بالذكر أن السلطة الفلسطينية قد نفذت منذ تأسيسها (41) حكماً بالإعدام، منها (39) حكماً في قطاع غزة، وحكمين اثنين في الضفة الغربية. ومن بين الأحكام المنفذة في قطاع غزة، (28) حكماً نفذت منذ الانقسام دون مصادقة الرئيس الفلسطيني خلافاً للقانون. ولهذا يأخذ المركز هذه التصريحات على محمل الجد، ويتخوف من أن تكون مقدمة لتنفيذ أحكام إعدام جديدة في قطاع غزة دون مصادقة الرئيس الفلسطيني، مع العلم أن آخر أحكام بالإعدام قد نفذت في القطاع كانت في العام 2017، حيث نفذت 6 أحكام إعدام خلال شهري مايو ويونيو من العام المذكور.
موقف المركز
يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن عقوبة الإعدام ليست الحل، وأن التلويح بها هو محاولة للتهرب من المسؤوليات الحقيقية للسلطات تجاه معالجة مظاهر الفلتان والجريمة، والتي لا يمثل الردع فيها إلا النسبة الأقل مقارنة بالعوامل الأخرى. ويشدد المركز على أن جل الدراسات في علم الإجرام والعقاب أكدت أن عقوبة الاعدام ليس لها ردع خاص، وأن الردع ليس الوسيلة الوحيدة أو الكافية لحفظ الأمن والسلام في المجتمع.[3] كما يؤكد المركز أن للجريمة أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية تحتاج لعلاج حقيقي، ويتطلب ذلك أولاً، تحديد المشكلة بشكل صحيح، والعمل على علاجها بشكل علمي، بدلاً من الالتفاف على الحقائق والقفز للاستنتاجات دون أساس علمي.
ويشدد المركز أن تنفيذ أحكام إعدام بدون مصادقة الرئيس يكيف قانونياً قتل خارج إطار القانون يعتبر كل من اشترك فيه، بمن فيهم المحرض ومصدر الأمر والمنفذ، مرتكباً لجريمة تستوجب العقاب ولا تسقط بالتقادم. وفي هذا السياق، يثني المركز على موقف الرئيس المتمثل بعدم التصديق على أحكام الإعدام منذ العام 2005، ويؤكد على ضرورة الامتناع بالمطلق عن التصديق على أحكام الإعدام، تمهيداً لإلغائها من التشريعات الفلسطينية.
ويحذر المركز من التوظيف السياسي لعقوبة الإعدام، واستخدامها كأداة لتكريس الانقسام، من خلال تنفيذ أحكام إعدام دون مصادقة الرئيس الفلسطيني، والاصرار على استخدام هذه العقوبة رغم وقفها فعلياً في الضفة الغربية منذ العام 2015، ووقف تنفيذها منذ العام 2005.
ثانياً: الالتزام الدولي على فلسطين فيما يتعلق بعقوبة الإعدام
تدرج التزام فلسطين فيما يتعلق بعقوبة الإعدام، وبدأ منذ انضمامها للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 منذ أبريل 2014، والذي وضع شروطاً صارمة لاستخدام عقوبة الإعدام. وفي يونيو 2018، انضمت فلسطين للبروتوكول الثاني الملحق بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1989، والقاضي بإلغاء عقوبة الإعدام، وحظر تطبيقها. ومنذ ذلك الحين باتت فلسطين ملزمة بإلغاء عقوبة الإعدام من تشريعاتها.
وضع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، في المادة 6 منه، (8) شروط لتطبيق عقوبة الإعدام وهي:
أن تكون الدولة من الدول التي لم تلغ عقوبة الإعدام.
ألا يحكم بها إلا لأشد الجرائم خطورة.
أن يتم تطبيقها وفق التشريعات النافذة في الدولة وقت ارتكاب الجريمة.
ألا تتعارض القوانين السارية المتعلقة بعقوبة الاعدام مع العهد.
ألا يتم تنفيذ عقوبة الاعدام إلا بعد استنفاد كافة طرق الطعن والالتزام بكافة الاجراءات ذات العلاقة.
أن يكون للمتهم حق التماس العفو أو ابدال العقوبة.
ألا تطبق على من هم دون الثامنة عشر.
ألا تستغل الاحكام السابقة لتبرير عدم العمل على إلغاء هذه العقوبة.
إما البروتوكول الثاني الملحق للعهد الدولي فقد نص في مادته الأولى على: “1. لا يعدم أي شخص خاضع للولاية القضائية لدولة طرف في هذا البروتوكول. 2. تتخذ كل دولة طرف جميع التدابير اللازمة لإلغاء عقوبة الإعدام داخل نطاق ولايتها القضائية.” وأجاز البروتوكول للدول المنضمة أن تودع تحفظ يسمح لها بتطبيق عقوبة الإعدام بثلاثة شروط: أن تكون جريمة عسكرية؛ أن ترتكب في وقت الحرب؛ وأن تكون جريمة شديدة الخطورة. ولم تودع فلسطين أي تحفظ عند توقيعها للبروتوكول، وبالتالي لا يجوز تطبيق عقوبة الاعدام في فلسطين مهما كانت الجريمة ومهما كان المبرر.
وبالرغم من انضمام فلسطين للبروتوكول المذكور، فقد صدر في قطاع غزة خلال العام 2020، 15 حكماً بالإعدام، منها 10 أحكام جديدة، و5 أخرى تأييداً لأحكام سابقة. ومنذ توقيع فلسطين على البرتوكول المذكور، صدر 19 حكماً بالإعدام، جميعها في قطاع غزة، 13 حكماً منها جديدة، و5 أحكام بتأييد أحكام سابقة، وحكم واحد بعد إعادة المحاكمة. وقد صدر 6 أحكام من الأحكام التسعة عشر عن محاكم عسكرية، منها حكمان تأييداً لحكمين سابقين.
جدير بالذكر أن أحكام الإعدام الصادرة من محكمة أول درجة في مناطق السلطة الفلسطينية منذ العام 1994 (229) حكماً، منها (198) حكماً في قطاع غزة، و(30) حكماً في الضفة الغربية. ومن بين الأحكام الصادرة في قطاع غزة، صدر (141) حكماً منها منذ الانقسام الفلسطيني في العام 2007.
موقف المركز
يؤكد المركز على موقفه الرافض لاستخدام عقوبة الاعدام، ويدين استمرار استخدامها في قطاع غزة رغم انضمام فلسطين للبرتوكول الثاني سابق الذكر. كما يشدد المركز على وجوب احترام فلسطين لالتزاماتها على المستوى الدولي وإلغاء هذه العقوبة فوراً من التشريع الفلسطيني، واستبدالها بعقوبات أخرى تهدف إلى إصلاح الجناة وتحقيق الردع والحفاظ على الكرامة البشرية في آن. كما يشدد المركز على ضرورة أن يعمل النظام القضائي في غزة بمنهج علمي، إذا أراد فعلاً التعامل مع ظاهرة الجريمة بنجاح، بدلاً من التسرع في القفز للنتائج دون البحث الحقيقي عن المسببات لعلاجها. ويؤكد المركز أن تطبيق عقوبة الاعدام إهدار لإنسانية القائمين على العدالة، قبل أن تكون إهداراً لكرامة الإنسان التي تطبق ضده.
ثالثاً: أسانيد المركز الموضوعية والقانونية في رفض عقوبة الإعدام
يرتكز المركز في رفضه لهذه العقوبة إلى مبررات قانونية وموضوعية. فبالإضافة لكونها عقوبة غير إنسانية، تتناقض مع فكرة الإصلاح والتأهيل التي يبنى عليها الفكر العقابي الحديث، فإن الإمكانات اللازمة للحكم بمثل هذه العقوبة الخطيرة لا تتوافر في قطاع غزة، حيث تغيب إمكانات الأدلة الجنائية اللازمة لإثبات الجرائم، كما تغيب ضمانات المحاكمة العدالة أمام الجهات القضائية. فيما يلي تبيان موقف المركز في نقطتين: موقف المركز من عقوبة الإعدام بشكل عام؛ موقف المركز من عقوبة الإعدام في مناطق السلطة الفلسطينية بشكل خاص.
وقد رصد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عدداً من الحالات التي أسيء فيها استخدام عقوبة الإعدام من خلال محاكمات مختصرة كان آخرها بتاريخ 8 اكتوبر 2020، حيث حكم على شخص بالإعدام من محكمة البداية في خان يونس في أول جلسة محاكمة، بعد وقوع الجريمة المتهم فيها بأسبوعين فقط. ولم تكن هذه الحالة الأولى، حيث سبق أن تم الحكم على ثلاث أشخاص بالإعدام أمام محكمة عسكرية وتنفيذ الحكم خلال اسبوع واحد في العام 2017. وقد تم تنفيذ أحكام إعدام في قطاع غزة دون مصادقة الرئيس الفلسطيني رغم وجود نص واضح في القانون الأساسي يحظر ذلك.[4] وتعود هذه الممارسات في العادة إلى الاستجابة السياسية للضغوط الشعبية، ولقدرة السلطة التنفيذية على التأثير بسهولة في قرارات السلطة القضائية. وهذا يؤكد عدم جدارة القضاء الفلسطيني في غزة باستخدام مثل هذه العقوبة التي لا يمكن الرجوع عنها.
موقف المركز
يستند المركز في موقفه ضد عقوبة الإعدام إلى مبررات إنسانية وأخلاقية وقانونية. فيما يلي أسانيد موقف المركز:
عقوبة الإعدام غير إنسانية وهي عبارة عن قتل لا يمكن تبريره باسم العدالة.
يرى المركز أن عقوبة الإعدام ضرب من ضروب التعذيب المهين للكرامة البشرية، ولهذا يجب التوقف عن استخدامها.
عقوبة الإعدام لا يمكن التراجع عنها، وبالتالي إذا تبين براءة المحكوم في وقت لاحق، فمن المحال جبر الضرر. ويكشف التاريخ القضائي حول العالم عن كثير من القضايا التي تبين فيها براءة بعض المدانين بعد أن تم تنفيذ عقوبة الإعدام بحقهم.
عقوبة الإعدام لم تثبت قدرة خاصة على الردع، بل أثبتت الدراسات المتعلقة بتطبيق عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية، أن الولايات التي تطبق عقوبة الإعدام لم يقل فيها معدل الجريمة عن الولايات الأخرى التي لا تطبق عقوبة الإعدام.
سيادة القانون والقدرة على إنفاذه هي الرادع الحقيقي للجريمة وليس عقوبة الإعدام.
عقوبة الإعدام تحط بالكرامة البشرية، والتي وجدت منظومة الحقوق لحمايتها، حيث أنها تعتبر أخطر أنواع المعاملة القاسية واللاإنسانية.
يعارض المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان استخدام عقوبة الإعدام في مناطق السلطة الفلسطينية لعدم توافر الضمانات الكافية لتطبيق هذه العقوبة الخطيرة التي لا يمكن الرجوع عنها ولا تصحيح الخطأ فيها. فيما يلي أبرز أسانيد موقف المركز:
ضعف الإمكانيات والكفاءات اللازمة في السلطة الفلسطينية لإجراء تحقيق دقيق في كثير من الجرائم، خصوصاً عدم استقلال هيئة الطب الشرعي، وضعف الامكانيات في المعمل الجنائي الذي تعرض للقصف خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع عام ٢٠٠٨، وهو ما يعني عدم إمكانية الخروج بنتائج تحقيق دقيقة، الأمر الذي لا غنى عنه للوصول إلى إدانة مبنية على اليقين، ففلسفة العدالة الجنائية تستلزم بناء الإدانة على اليقين وليس الشك. ومن الجدير بالذكر أن الاعتراف أو التلبس وحدهما لا يكفيان لوجود إدانة مبنية على اليقين. والتاريخ القضائي حول العالم يؤكد أن كثيراً ممن اعترفوا على أنفسهم بارتكاب جرائم أو ضبطوا في حالة تلبس تبين بعدها براءتهم.
إن الآثار الخطيرة التي رتبها الانقسام الفلسطيني على القضاء، خاصة فيما يتعلق بوحدة الجهاز القضائي ودستورية تشكيله، تفرض وقف العمل بعقوبة لا يمكن الرجوع عنها كعقوبة الإعدام.
التخوف من استخدام هذه العقوبة بدوافع سياسية، خاصة في ظل الانقسام السياسي الفلسطيني، مما قد يؤدي إلى غياب السكينة والأمان في المجتمع، واللذين يعتبران الهدفين الأساسيين من وجود العدالة القضائية.
التشريعات المطبقة في مناطق السلطة الفلسطينية لا تصلح أن تكون مرجعاً عقابياً في فلسطين، خاصة عندما نتحدث عن عقوبة بخطورة عقوبة الإعدام، فالقوانين المطبقة في مناطق السلطة الفلسطينية والتي تقر عقوبة الإعدام أحدها من عهد الانتداب البريطاني، وهو قانون العقوبات 74 لسنة 1936 المطبق في غزة، والذي يعتبر قانون غير أخلاقي وضع حينها لردع أية محاولة للمطالبة بالحقوق الفلسطينية، وهذا انعكس على مواد القانون التي جاءت لتجرم أية أفعال تمس نظام الحكم. أما قانون العقوبات الثوري لسنة 1974 فهو قانون غير دستوري، لصدوره عن جهة غير مخولة بالتشريع في السلطة الفلسطينية، كما أنه يخالف في كثير من أحكامه أبسط قواعد العدالة. وكذلك قانون العقوبات 1960 المطبق في الضفة الغربية، والذي جاءت أغلب نصوص الإعدام فيه لردع تحركات المعارضة السياسية.
التوصيات:
إذ يشيد المركز بعدم مصادقة الرئيس على أحكام الإعدام، وبعدم استخدام القضاء في الضفة الغربية لهذه العقوبة منذ العام 2015، فإنه يطالب بالعمل فوراً على إصدار قرار بقانون يحظر استخدام عقوبة الإعدام في الأرض الفلسطينية.
يطالب المركز السلطات في قطاع غزة بوقف استخدام عقوبة الإعدام أو التلويح بتنفيذها دون مصادقة الرئيس الفلسطيني، إذ أن تنفيذ أحكام إعدام بدون مصادقة الرئيس جريمة تستوجب العقاب ولا تسقط بالتقادم.
يطالب المركز المجتمع الدولي ببذل الجهود من أجل حث السلطة الفلسطينية على إصدار قانون بإلغاء عقوبة الإعدام.
يطالب المركز مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني بتكثيف العمل من أجل إلزام السلطة الفلسطينية بإلغاء هذه العقوبة.
—————————————————
[1] World Coalition Against the Death Penalty, 18th World Day Against the Death Penalty: Access to counsel – A matter of life or death, http://www.worldcoalition.org/worldday.html
[2] World Coalition Against the Death Penalty, 18th World Day Against the Death Penalty: Access to counsel – A matter of life or death, http://www.worldcoalition.org/worldday.html الدول الأكثر اسرافاً في استخدام عقوبة الإعدام في العام 2019: الصين، إيران، مصر، العراق، السعودية
[3] National Research Council 2012. Deterrence and the Death Penalty. Washington, DC: The National Academies Press. https://doi.org/10.17226/13363; Amnesty International, THE DEATH PENALTY AND DETERRENCE, published in 18 May 2017 https://www.amnestyusa.org/issues/death-penalty/death-penalty-facts/the-death-penalty-and-deterrence/
[4] القانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2003، المادة (109)