سبتمبر 11, 2024
فقدت زوجي ونزحت من الشمال للجنوب بسبب الجوع
مشاركة
فقدت زوجي ونزحت من الشمال للجنوب بسبب الجوع

صابرين نبيل سميح أبو دية، 29 عامًا، أم لطفلين، سكان بيت لاهيا، شمال غزة.

أنا أرملة أنس سلامة عبد أبو ربيع الذي استشهد في 30/05/2024 في معسكر جباليا جراء استهداف الاحتلال لمدرسة فلسطين. أم لطفلين: مجد (خمس سنوات) وآية (ثلاث سنوات). طالبة جامعية.

بتاريخ 7/10/2023، استيقظت أنا وزوجي على أصوات الصواريخ التي كانت تدوي من جميع الاتجاهات. وبما أننا نسكن في شقة مرتفعة نسبياً ضمن عمارة عائلة زوجي، قررنا ترك شقتنا والانتقال إلى بيت شقيق زوجي، بسبب عدم فهمنا لسبب هذه الأصوات. بدأنا نستوعب طبيعة الحدث بعد تصفح الأخبار على الإنترنت، وشعرنا بالخوف من ردة فعل الجيش الإسرائيلي. أتذكر أننا تحدثنا مع بعضنا البعض قائلين: “الجيش الإسرائيلي سيقوم بإبادتنا”.

بسبب خبراتنا السابقة في الحروب وأوقات الطوارئ، هرعنا جميعًا في غزة إلى المخابز ومحلات بيع المواد التموينية لتخزين ما يلزمنا لمواجهة الأيام القادمة. كان من النادر جدًا أن ندخر المال للأوقات الصعبة، حيث إن دخل زوجي من عمله لم يكن يكفي سوى لسد احتياجات يومنا. كان أنس، رحمه الله، يعمل في مسارح البراوي، حيث كان يقوم بتركيب وتفكيك المسارح الخاصة بالحفلات.

في أول أيام الحرب، تمكنا من البقاء في المنزل رغم القصف المتصاعد والقريب. بعد أربعة أيام، كنا ننام في منتصف البيت، ولم ننتقل إلى الطابق الأرضي أو نذهب إلى مكان آخر رغم القصف الذي استهدف البيوت المجاورة. عندما جاء الخميس الأول للحرب، ووسط تساؤلات الحارة حول رسائل الجيش الإسرائيلي التي تطالب بالإخلاء نحو جنوب وادي غزة، لم نأخذ الأمر بجدية كبيرة، فليس لدينا معارف في الجنوب، ولا نريد ترك المنطقة التي نعرفها جيداً. قررنا الانتقال داخل بيت لاهيا إلى منطقة النادي، التي اعتبرناها أقل خطراً، بعيداً عن منطقتنا الأصلية في الشيماء الغربية. كان هدفنا حماية الأطفال، حيث كانت منطقتنا الأصلية مرتفعة على تلة وشارع عام، كنا نرى منه قصف منطقة العطاطرة والكرامة، ونشعر بالألم لمشاهدة النازحين الفارين من الموت نحو المجهول.

تزامن إخلاؤنا من منطقة الشيماء مع إلقاء غاز الفسفور على حارتنا، وكانت وجهتنا إلى منزل أخت زوجي، جميلة العطار، في وسط بيت لاهيا بمنطقة النادي. لكننا لم ننعم بالراحة في تلك الليلة، إذ كانت ليلة شديدة القسوة. كان منزل عمة الأولاد في الطابق الثالث، وكان القصف يأتي من كل جهة، حيث لم يسلم أي مدني من هجمات الجيش الإسرائيلي، الذي كان يتبع أسلوب “الحزام الناري” في قصفه العشوائي دون أي اعتبار إنساني. عشنا ليلة من الرعب حتى الرابعة فجر يوم الجمعة، ولم نتمكن من النوم سوى نصف ساعة فقط. أذكر أن الناس خرجوا إلى الشوارع ينادون بعلو الصوت، قائلين: “توجهوا إلى المدارس، المدارس أكثر أمانًا”، لكن التجربة أثبتت أن لا مكان آمن في غزة.

انتظرنا حتى الصباح، وفي يوم الجمعة، 13/10/2023، عدنا إلى منزلنا بدءًا من السابعة صباحًا. بدأت بيننا محادثات حول الوجهة التالية، وشاهدنا جميع سكان الحارة ينزحون، لكن شقيق زوجي وعائلته رفضوا الخروج بشكل قاطع، وقررنا البقاء معهم. في الخامسة عصرًا من اليوم نفسه، جهزت حقيبة الطوارئ وانتقلنا إلى بيت أخ زوجي، حيث لم نتمكن من البقاء في شقتنا. إلا أن الأحداث المتسارعة أجبرتني على إعادة التفكير، فخرجنا مجددًا بأرواحنا، خوفًا من رد فعل عنيف للجيش الإسرائيلي، حاملين الأولاد وحقائب الطوارئ، وخرجنا إلى الشارع دون وجهة محددة. كانت الحارة فارغة تمامًا، خالية من الأصوات المعتادة، لا أطفال يلعبون ولا نساء يتحدثن. لم يكن هناك سوانا وجارين آخرين، نتحرك بدافع الخوف فقط.

في نهاية نهار الجمعة الأولى للحرب، قررنا اللجوء إلى مدرسة تل الربيع في بيت لاهيا لقضاء الليل هناك. نمنا على بسطة الدرج، حيث وضعنا لحافًا رقيقًا على البلاط، مما جعلنا ننام على الأرض. كانت تلك الليلة مروعة، حيث تعرضت مناطق قريبة منا للقصف، بما في ذلك محطة بنزين الكيلاني في شارع المدرسة وعمارة مسلّم. ولحسن الحظ، لم تستهدف المدرسة مباشرة، لكن المنطقة المحيطة بها لم تسلم من القصف. كنا 11 شخصًا، من بينهم زوجي وأبنائي وأخوه وزوجته وأبناؤه، جميعنا على بسطة صغيرة في الطابق الرابع والأخير من المدرسة. كان البرد والخوف ينهشنا من الداخل، ونفذنا بأعجوبة من الموت.

صباح يوم السبت، 14/10/2023، عدنا إلى منزلنا، حيث وجدنا الحارة قد تحولت إلى دمار شامل. فقد قصف الجيش الإسرائيلي خمسة بيوت لعائلة رجب وبيتين لعائلة كيلاني، وكان بيتنا أيضًا متضررًا جراء الحزام الناري، حيث خرج بلاط المطبخ من مكانه وتحطمت النوافذ، وأصبح المنزل مكانًا كئيبًا. أصر زوجي على أخذ الأطفال والانتقال إلى جنوب مدينة غزة، لكنني رفضت التحرك بدون زوجي. تواصل زوجي مع عائلتي ومعارفنا لمحاولة التنسيق، لكن تكلفة المواصلات كانت مرتفعة للغاية، مما جعل من الصعب تأمين النقل. بالإضافة إلى ذلك، تم استهداف الممر الآمن، مما زاد من مخاوفنا. وبناءً على ذلك، قررنا البقاء في شمال غزة. بالتشاور مع العائلة، قررنا الانتقال إلى مدرسة فلسطين للاجئين في معسكر جباليا، حيث كانت أختي، فداء حمودة، تقيم هناك مع عائلتها. انتقلنا إلى المدرسة ظهر يوم السبت، 14/10/2023، وقبل مغادرتنا، تعرض بيت خلفنا، الذي يعود لعائلة دواس، للقصف أيضًا. حملنا أمتعتنا والأطفال وهرعنا نحو المدرسة.

بدأت حياتنا تتنقل بين البيت والمدرسة، خاصة خلال فترة الهدنة أواخر نوفمبر 2023. في البداية، كنا في نفس الصف مع أختي، وعائلتها، وأخ زوجي، وعائلته. لكن مع زيادة عدد النازحين، لم يعد هناك مكان كافٍ لنا. طلبنا من إدارة المدرسة توفير مكان آخر، وبعد خلاف بين العائلات، اضطرت إحدى العائلات إلى ترك المدرسة، فتوفرت لنا مساحة في صف آخر (تقريبًا ربع صف) والذي انتقلنا إليه مع زوجي والأطفال، وسلفي، وزوجته، وأولاده.

في 01/12/2023، كان اليوم الأول لاختراق الهدنة، وصادف استشهاد عمي، منصور أبو دية، الذي كان يتواجد في بيت لاهيا. عمي كان يؤذن للناس في الحارة في ظل غياب دور العبادة والخشية من التواجد فيها. بعد هذا الخبر الحزين، بدأت اقتحامات الجيش للمعسكر، بدءًا من شارع الفالوجة الذي كانت تقع فيه المدرسة، وكانت المدرسة آخر الفالوجة عند بداية المعسكر مقابل عمارة حمدان. كانت أول مرة أشاهد فيها دبابة عندما كنت طفلة، حيث اعتقل الجنود والدي قبل هدم المستوطنات والانسحاب من غزة. هذه كانت المرة الثانية التي أعي فيها معنى الجيش والدبابات واحتلال الأرض.

أتذكر يومها كيف جاء ابني الصغير ليخبرني: “اليهود على باب المدرسة”، وكان يُشاع بين الناس، وإن لم يكونوا بالفعل، إلا أنهم كانوا قريبين. ارتديت ملابسي بسرعة وخرجت من الصف، ووجدت الطائرات المروحية تحلق فوق ساحة المدرسة. سرت حتى نهاية الممر ووقفت خلف عمود لأحتمي به. بدأت ميكروفونات المدرسة تحذر الناس من حصار محتمل قادم. تصاعدت الأحداث عندما بدأ الرصاص يتساقط عشوائيًا من الطائرات المروحية، وفجأة اقتربت الدبابات وصوتها أصبح واضحًا في الأفق. كنت ما زلت خلف العمود في ممر المدرسة، ولم أكن أعرف كيف أعود إلى الصف. خشيت من التعرض لرصاصة طائشة، لكنني جازفت وركضت عائدة إلى الصف. فور وصولي، اخترقت رصاصة باب الصف، لكن لحسن الحظ لم تصب أحدًا. الحمد لله على سلامتنا ورعايته.

بدأ حصار المدرسة، الذي استمر حوالي 11 يومًا، وكأن القذائف لا تتوقف، مع الشظايا والحجارة تتساقط حولنا. كنا محاطين بغبار الفاجعة، ولم نكن نعرف أن كان البقاء أو الفرار هو الحل. انقطعنا عن الماء لمدة ثلاثة أيام، وكنا نخاطر بأرواحنا لجلب الماء، حيث كانت النساء يخرجن لتعبئته بسبب الخطر المحيط بالرجال. كانت الدبابات تحيط بالمدرسة، تقترب وتبتعد بين الحين والآخر.

قبل يوم من اقتحام المدرسة، ألقى الجيش الفسفور المحرم دوليًا علينا. استخدمت خبرتي في الإسعافات الأولية، حيث كنت أستعمل فوطة مبللة بالماء للتعامل مع الحروق. كانت هناك مريضة بالسرطان في الصف المجاور، وتدهور وضعها بشدة نتيجة الفسفور. احترقت الخيام في ساحة المدرسة، وكانت هناك حاجة ملحة للخروج إلى أي مكان للبحث عن الأمان. كنا نعاني من نقص حاد في الطعام والماء، وأذكر ذهابي إلى نازحي المدرسة طلبًا لزجاجة ماء واحدة لا تصلح حتى للشرب، كنا نستخدم كمية قليلة من الغاز للطوارئ لخبز 10 صاجات خبز لكل فرد، وهو ما كان لا يكفي.

في يوم اقتحام المدرسة، الذي كان على وجه التقريب بتاريخ 14/12/2023، كان هادئًا كالهدوء الذي يسبق العاصفة. قررنا أن نعجن ونخبز، حيث كان هناك فرن حطب خلف المدرسة. قررت الخروج لجلب الماء من آخر المعسكر، بصحبة ابن الجيران الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. رغم اقتراب الدبابات، كانت الحاجة للماء ملحة. كانت مدرستنا الأخيرة في شارع يضم ثلاث مدارس أخرى، وكان الناس يصرخون في الشارع لتنبيه بعضهم البعض إلى اقتراب الدبابات. بعد تعبئة الماء، سقط سبعة شهداء، بينهم سيدة وطفل، نتيجة إصابتهم برصاص الطائرات المروحية، التي كانت تمهد الطريق للجيش نحو شارع حمدان. اختبأنا في مدرسة حفصة وانتظرنا نصف ساعة حتى يهدأ الوضع، ثم انتقلنا بين المدارس إلى مدرسة فلسطين، حيث كان زوجي بانتظاري بقلق شديد. في تلك الأثناء، بدأت الجرافات العسكرية في تجريف بوابات المدارس واحدة تلو الأخرى.

كنا جميعًا نشعر بالجوع، وكان صوت أمعائنا الخاوية يتفوق على صوت قلوبنا المرتجفة. رغم كل شيء، قررنا أن نقلي الفلافل ونأكل معًا، ربما كانت هذه وجبتنا الأخيرة، حيث لا أحد يعرف ما يخبئه المستقبل. أثناء تناولنا الطعام، سمعنا انفجارًا قويًا. كنا جائعين جدًا لدرجة أن صوت الانفجار وصراخ الناس لم يثنينا عن استكمال طعامنا. حاولنا تهدئة الأطفال، وقلنا لمن يشعر بالحاجة إلى التقيؤ أن يستخدم سطلًا أعددناه لهذا الغرض، لأننا لم نكن قادرين على الخروج من الصف.

كانت هذه الأحداث حوالي الواحدة ظهرًا تقريبًا، وبقينا في أماكننا ننتظر وندعو الله بالستر والسلامة. بعد استمرار أصوات النيران، سمعنا عبر الميكروفون صوتًا ينادي بالعربية: “على جميع الذكور ما بين سن 15 وحتى 60 سنة النزول إلى ساحة المدرسة مع بطاقة الهوية”. أدركنا أن جنود الاحتلال الإسرائيلي قد استوطنوا في ساحة المدرسة، وبدأ رعبنا الحقيقي. صرخت بشدة، وبدأت ألطم وجهي وأطالب زوجي بعدم النزول. لكن أنس بدأ يقرأ لي وصاياه بشأن رعاية الأطفال والالتزام بأوامر الجيش وعدم الخوف. لم أستطع فهم كيف مررنا بكل هذا دون أن نفقد عقلنا أو نموت من شدة الحدث. نزل أنس حاملًا هويته إلى ساحة المدرسة، وتركنا في انتظار المجهول القادم.

مر الوقت ببطء شديد، لم نكن نعرف كم مر منه عندما سمعنا صوتًا آخر عبر الميكروفون، ربما بعد ساعتين أو أكثر أو أقل، شعرت وكأن الوقت توقف تمامًا وعذابنا لن ينتهي. لم نفهم بوضوح ما كان يقوله الجيش بسبب صعوبة سماع الصوت من الطابق الثالث. عبر النافذة، رأينا نساء في الساحة، مما جعلنا الصف الأخير تقريبًا الذي نفذ الأوامر ونزل إلى ساحة المدرسة. كان معنا سيدة مبتورة القدم وأخرى منهكة بفعل السرطان. لم أحمل معي أي من أمتعتنا، بما في ذلك هاتفي المحمول أو المال أو الذهب، كل شيء كان بلا قيمة مقارنة بنجاتنا بأرواحنا واطمئناننا على سلامة زوجي أنس.

طلبت من ابني أن يتمسك بذيل ملابسي بقوة، وحملت ابنتي، ونزلنا إلى ساحة المدرسة. طلبوا منا، نحن والصغار، رفع أيدينا، ومن يملك بطاقة هوية يرفعها أيضًا. كان الموقف مرعبًا وصعبًا للغاية، حيث كان الجنود يدفعوننا بأسلحتهم للتقدم. أُمرنا بالتوجه نحو شارع السكة إلى مدارس أبو زيتون، ولكننا كنا محاصرين تمامًا بين الدبابات والجرافات، ورافق الجنود كلابًا. رأيت سيدة تُعدم أمامنا بدون أي سبب، وشاهدت أنس يجثو على ركبتيه ويبكي أثناء مرورنا.

عندما وصلنا إلى معسكر شارع السكة، رفضت التحرك إلى أي مكان بدون أنس. وقفت في مكاني حتى أذان المغرب، منتظرةً عودته أو أي خبر عنه. لحسن الحظ، تقرر إطلاق سراحه، واجتمعنا أخيرًا كعائلة. قررنا الانتقال إلى مدرسة فاطمة بنت أسد في جباليا النزلة، لكننا لم نكن نملك أي ملابس دافئة، وكان الجو باردًا جدًا. في الليلة الأولى، نمنا في المعرش على كراتين، وتجمدنا من البرد. بللت ابنتي ملابسها من الخوف، واضطررت للسؤال بين النازحين عن ملابس إضافية لطفلتي، كنت أبحث بين الناس أبكي من اليأس والعجز. التعرض المباشر للبرد والموت والتشرد أصاب معدتي بالغثيان، وكنت طوال الليل أخرج ما في معدتي الفارغة. أصبت بالنزلة المعوية، وشعرت بالصمت والعجز، ولم يكن هناك ما يمكن فعله في ظل هذا الخراب.

في السابعة صباح اليوم التالي، تبادل الناس الأحاديث حول انسحاب الجيش الإسرائيلي من مدرسة فلسطين التي كنا نقيم فيها. بناءً على ذلك، قرر زوجي المغامرة للذهاب لاستعادة أغراضنا المتبقية هناك، وقررت مرافقته. عندما وصلنا، اكتشفنا أن الصف الذي كنا نقيم فيه قد دمر بالكامل واحترق، وسرقت أشياؤنا الثمينة. في الوقت نفسه تقريبًا، تعرض بيتنا في الشيماء للقصف. لم يتبق لدينا أي متاع، ووجدنا أنفسنا مضطرين لبدء حياتنا من جديد في ظل الحرب المستمرة والوضع المؤقت في غزة، وكان ذلك في منتصف ديسمبر تقريبًا.

كان المشهد في المكان مروعًا؛ فقد عاث الجيش الإسرائيلي فيه فسادًا، وكانت الجثث ملقاة في كل مكان. كُتبت على بعض الأجساد عبارات بالليزر مثل “أنت 7 أكتوبر”. ساعدنا من يفهم اللغة العبرية في ترجمة العبارات المكتوبة، ووجدنا الأطراف البشرية مبعثرة في كل الاتجاهات، وبعض الأشخاص مُعلقين مثل الصلبان، وآخرين دفنوا عراة في حفرة، وأخرى وضعت عليها سيارة. رأيت رأسًا خرجت منه الجمجمة، وكان هذا كله يحدث في ظل أحداث صعبة كان لا بد من روايتها، وفيما بعد كان علينا استئناف حياتنا والبحث عن مكان للبقاء وتجهيز الأساسيات.

بعد ذلك، أخذنا ما استطعنا استرجاعه وعدنا إلى جباليا النزلة، وبدأنا تجهيز مكان للإقامة فيه. أحضر لنا بعض المعارف أغطية ووسائد للمبيت، ونصبنا خيمة في معرش المدرسة. لكن بعد كل هذه التجهيزات، هطل المطر وغمرت المياه المعرش بسبب تصريف الماء، مما جعلنا نلجأ إلى أحد بيوت الجيران القريبة للمبيت. قضينا تلك الليلة نرتعش من البرد، دون أن نجد مأوى مناسبًا في المدرسة.

بعد أسبوع من محاولة استصلاح مكاننا في جباليا النزلة، قررنا العودة إلى مدرسة فلسطين، على الرغم من علمنا بأن الصف الذي كنا نقيم فيه قد دمر، والمشاهد الصادمة للجثث والموت التي عايشناها. ومع ذلك، فإن العودة إلى مكان نعرفه أفضل من البحث عن مكان جديد. وقد عادت إدارة المدرسة وعدد من الناس إلى هناك. قمنا بتغطية ممر المدرسة بشادر قامت الإدارة بتسليمه لنا، بالإضافة إلى عدد من البطانيات الشتوية. لاحقًا، تمكنا من الانتقال إلى إحدى غرف الصفوف مجددًا.

في يناير 2024، بدأت المجاعة في مدينة غزة وشمالها. أصبح الحصول على طعام ومياه صالحة للشرب أمرًا شبه مستحيل، وكان المال غير متوفر لشراء القليل المتاح في السوق. بعت دبلة زفافي للحصول على بعض الطحين، لكن الطحين الأبيض لم يكن متاحًا لاحقًا، فكان علينا استخدام طحين الذرة أو علف الحيوانات أو طعام العصافير بدلاً منه، حيث وصل سعر الكيلو إلى 140 شيكل. قمنا بخلط البهارات مع هذا الطحين ليصبح صالحًا للأكل. كانت الخبيزة والسلق وكل ما تخرجه الأرض جزءًا أساسيًا من وجباتنا، واعتدنا على تناول الخبيزة كوجبة إفطار، والتي كانت في الغالب الوجبة الوحيدة. مع بداية رمضان، لم يتغير الحال كثيرًا، حيث كانت الخبيزة رفيقة وجبات الإفطار الوحيدة، ولم نكن نتسحر، مما جعل الوجبة الواحدة هي كل ما نملك.

بقيت في مدرسة فلسطين في معسكر جباليا حتى قبل رمضان بيومين. في ذلك الوقت، بدأ الناس بالعودة إلى بيت لاهيا، وكان منزل أهلي لا يزال قائمًا، لذا قررنا مغادرة المدرسة والانتقال للإقامة فيه. في تلك الفترة، بدأت المساعدات الإنسانية تصل إلى غزة، حيث قامت الطائرات بإلقاء صناديق الطعام لتخفيف معاناة السكان من الجوع.

كان زوجي، أنس، يغامر بروحه للحصول على أي شيء من صناديق المساعدات التي تسقطها الطائرات. كنا نقايض ما نحصل عليه بأنواع أخرى من الطعام لنجعل ما نملكه يكفينا. تعرض أنس لمحاولات قتل أثناء محاولته الحصول على صناديق المساعدات، وكان يجلب أحيانًا علب تونة، التي كانت تُعتبر نوعًا من النصر. كان يصل إلى البيت قبل دقائق من آذان المغرب، مما جعلنا نحتفل بأي نجاح يأتي في هذه الأوقات الصعبة.

بعد انتهاء عيد الفطر 2024، بدأت الخضروات والفواكه والطحين تتوفر تدريجياً، مما خفف من معركتنا اليومية للحصول على رغيف خبز أبيض طازج دون إضافات غير ضرورية. بدأنا نشعر ببعض الأمل في قرب انتهاء الحرب، لكن لم يدم الأمر طويلاً.

في 11 مايو 2024، اقتحمت قوات الاحتلال معسكر جباليا مرة أخرى. قررنا البقاء في البيت خلال النهار والانتقال إلى مدرسة بيت لاهيا للبنين ليلاً، والتي تقع مقابل منزل عائلتي في منطقة النادي. لم أكن أعلم أن تلك الأيام كانت الأخيرة لزوجي.

رغم تصاعد الأوضاع في جباليا، لم نفكر في الانتقال إلى جنوب وادي غزة أو أحياء مدينة غزة. استمر الوضع المتأزم حتى 30 مايو 2024، اليوم الذي بدأ فيه الجيش انسحابه من معسكر جباليا، وكان يوم استشهاد زوجي. في ذلك اليوم، اتفق أنس مع أخيه على العودة إلى مدرسة فلسطين في المعسكر لاسترجاع أغراضنا. في صباح اليوم ذاته، كانت الطائرات الهليكوبتر تنتشر في شارع بيت أهلي في بيت لاهيا، لذلك بقيت في المدرسة أنتظر عودته.

علمت عائلتي في الجنوب من الأخبار عن استشهاد أنس، وتواصل أبي معي لكنه لم يتمكن من إخباري. عند وصول أنس إلى المدرسة وصعوده إلى الطابق الثالث حيث كنا نقيم، تم استهدافه من قوات الاحتلال مع نازحين آخرين. عندما علمت بالأمر، شعرت كأن روحي خرجت من جسدي، وأصبح من الصعب على تناول الطعام أو الشراب لثلاثة أيام. بدأ الأطفال يسألون عن والدهم ومتى سيعود، مما زاد من ألمي وصعوبتي في التعامل مع الوضع.

كانت الليالي التالية بعد فقدان أنس صعبة وقاسية للغاية. في الأيام الأولى، كنت أشارك النوم مع خالي وعائلته وأختي وزوجة جدي في منزل أهلي، ثم انتقلنا جميعًا للإقامة في مدرسة بيت لاهيا للبنين المقابلة للمنزل. ومع عودة الأوضاع إلى الصعوبة الشديدة بسبب القصف المكثف ونقص الموارد، أصبحت حياتنا أكثر تعقيدًا. لم يكن لدينا معيل أو مصدر دخل، وبدأت حرب جديدة مع الحياة بعد وفاة زوجي. تزايدت القيود على إدخال الطعام والدواء إلى غزة وشمالها، مما جعل الظروف أكثر صعوبة.

بقينا في المدرسة حتى فتحت الطرق الآمنة مجددًا نحو جنوب وادي غزة عبر حاجز الجيش على شارع صلاح الدين. في تلك الفترة، وزعت المناشير التي تطالب بالنزوح نحو الجنوب. وبحلول 12 يوليو 2024، قررت مغادرة بيت لاهيا مع طفليّ بسبب الخوف والجوع والوحدة، وكنت بحاجة إلى عائلتي، إلى أبي وأمي. وقررت الانتقال إلى جنوب مدينة غزة حيث تتواجد عائلتي

كان الطريق من الشمال إلى الجنوب طويلاً وصعبًا بسبب صعوبة المواصلات وكثرة المشي. انطلقنا من بيت لاهيا نحو حاجز نتساريم في الساعة التاسعة صباحًا بواسطة سيارة حتى منطقة الساحة وسط مدينة غزة. ثم وجدنا دراجة نارية “تكتك” أوصلنا إلى دوار الكويت، ومن هناك واصلنا السير على الأقدام حتى وصلنا إلى الحاجز العسكري. كان هناك دبابة وعدد من النساء والأطفال، وكنت أدعو الله أن يحفظنا. رفعنا راية بيضاء كانت عبارة عن فانيلا لابني، وصاح الميكروفون مطالبًا الجميع بالمضي قدمًا. كانت الساعة حوالي الثانية عشرة ظهرًا، لم نرَ جثثًا وكان عدد الجنود حوالي خمسة، وعبرنا الحاجز بعد تعب وإرهاق. توجهنا إلى دير البلح، تحديدًا مخيم أبو عيسى في شارع السلام، حيث تقيم عائلتي مؤقتًا. رغم كل الصعوبات، ما زلت أواصل صراع الحياة بعد فقدان زوجي ومعيل الأسرة، وأواجه التحديات بكل ما أوتيت من قوة وصبر، أملاً في تحسين ظروفنا وتحقيق الاستقرار لأطفالي

تعاني ابنتي الصغيرة من كسل في الغدة الدرقية، مما يؤثر على نشاطها. آمل أن تتلقى الرعاية الطبية اللازمة، وأتمنى أن تنتهي الحرب لأتمكن من استكمال دراستي الجامعية في تخصص الرياضيات والعمل لإعالة أسرتي. أعلم أن زوجي في مكان أفضل، لكن جودة حياتنا هنا تعتمد على قراراتنا القادمة، وسأسعى لضمان مستقبل أفضل لأطفالي.