مايو 17, 2024
فقدان أليم
مشاركة
فقدان أليم

هند أسعد سعيد أبو جهل، متزوجة وأم لثلاثة أطفال، دكتورة صيدلانية، سكان غزة.

بداية الحرب على غزة، ألقى جيش الاحتلال منشورات يطلب فيها من سكان مدينة غزة، وخاصة مناطق غرب غزة، بالإخلاء الفوري باعتبارها مناطق قتال والتوجه إلى منطقة جنوب وادى غزة مرورا بشارع صلاح الدين. ورغم حالة الخوف والقلق التي انتابتنا، بسبب نزوح عدد كبير من السكان والجيران، الا أنني رفضت النزوح وقررت الاستمرار بعملي وواجبي المهني. 

منذ اليوم الأول للحرب وأنا أتوجه يوميا من الساعة 9:00 صباحا إلى مكان عملي داخل صيدلية مجمع الصحابة الطبي، نقدم الأدوية للمرضى والمواطنين القادمين إلى المجمع، رغم حالة الخوف والقلق التي كانت تراودني خوفاً على بناتي الصغار، حيث كنت اتركهم برفقة زوجي حمودة الدهدار.

في الشهر الأول والثاني تقريباً للحرب كانت بعض الأدوية والمستلزمات الصحية متوفر نوعا ما داخل المستشفيات والمراكز الصحية. ومع دخول الحرب شهرها الثالث والارتفاع غير مسبوق بأعداد المصابين، أصبح هناك عجز ونقص كبير في معظم الأدوية والمستلزمات الطبية الهامة، بل إن هناك أدوية باتت معدومة وغير متوفرة أصلا.

علماً بأن الازمة التي يعاني منها القطاع الصحي في قطاع غزة كانت موجودة قبل اندلاع الحرب، بفعل الحصار المفروض على قطاع غزة، بشكل أدى إلى تفاقم معاناة المرضي، مع قلة الإمكانيات والموارد الصحية والنقص الكبير والحاد بمعظم الأدوية والمستلزمات الطبية، فما بالكم باندلاع حرب شرسة على منطقة متهالكة أصلا، باتت فيها مقومات الحياة شبه معدومة.

منذ اليوم الأول للحرب كانت المطالبات والمناشدات بضرورة حماية القطاع الصحي، وتوفير المستلزمات الصحية والطبية اللازمة التي تضمن بقاء عمل المستشفيات والمراكز الصحية وتمكنها من تأدية خدماتها الصحية لمئات من المرضي والجرحى والمواطنين، إلاّ أن هذه المطالبات باءت بالفشل.  واستمر الاحتلال باستهداف المستشفيات واقتحامها بل وصل الأمر إلى اخلاء وحصار واقتحام أكبر مجمع طبي في قطاع غزة أكثر من مرة، ضاربة بذلك عرض الحائط لكافة الاعراف والمواثيق الدولية وخاصة قواعد القانون الدولي الإنساني. 

ازدادت الأزمة والمعاناة وبلغت ذروتها، وخرج القطاع الصحي عن العمل بشكل نهائي بعد قيام قوات الاحتلال باقتحام المستشفيات والمراكز الصحية وخروجها عن الخدمة وبالأخص مجمع الشفاء الطبي، وأصبح الوضع مأساوياً وكارثياً بشكل لم يشهده التاريخ الفلسطيني من قبل. 

وبما أن مجمع الصحابة الطبي بالأساس هو مشفى خاص، فقد استمر المجمع وبشكل مجاني في تقديم الرعاية الطبية للنساء الحوامل، والولادة الطبيعية والقيصرية، ورعاية الأطفال حديثي الولادة، وازدادت الحالات بالتوافد للمجمع بعد نقل قسم الولادة التابع لمستشفى الشفاء بالكامل إلى مجمع الصحابة الطبي. 

رغم قلة الإمكانيات المتوفر داخل مجمع الصحابة نتيجة عدم وجود الكادر الطبي، ونفاذ القسم الأكبر من الأدوية والمستلزمات الطبية في صيدلية ومخازن المجمع، الا أننا واصلنا تقديم خدماتنا الصحية والطبية قدر الإمكان وحسب الإمكانات المتاحة.

الجميع تحت الركام

بدأت معاناتي يوم الأحد الموافق 3/12/2023، بعد انتهاء دوام العمل داخل صيدلية المجمع، توجهت برفقة بناتي الثلاثة وهن: ميرفت 12 عام، سارة 10 سنوات، وفرح 4 سنوات، إلى منزل أختي عبير أسعد أبو جهل، وهي زوجة المحامي عادل أبو جهل، والكائن بحي الدرج – السدرة، والمكون من طابقين، وقررت البقاء بشقة أختي حتى الصباح.

في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل الموافق 3/12/2024،  دمر انفجار ضخم المنزل علينا بالكامل وأصبح كومة من الرماد، الجميع تحت الركام، ابنتي ميرفت البالغ من عمرها 12 عام كانت تجلس بحضني قبل الاستهداف، وبقيت بحضني حتى اخراجنا من تحت الركام، أما ابنتي سارة وفرح فمع قوة الانفجار تم العثور عليهما فوق خزانات المياه، مصابتان اصابة طفيفة. شعرت بأنني على وشك مفارقة الحياة وقمت بنطق الشهادتين أكثر من مرة، سمعت أصوات الجيران وهي بالشارع تقوم بمحاولة إزالة بعض الركام لإخراجنا وإنقاذ من تبقى على قيد الحياة.

بقيت تحت الركام وابنتي ميرفت بحضني ونحن نصارع الموت، لا اعلم ما حل بها، حتى جاءت سيارات الدفاع المدني بناء على اتصالات الجيران، وقاموا بالحفر عليّ وأخرجوني وابنتي ميرفت من تحت الركام، والتي فارقت الحياة على الفور، بالإضافة إلى 9 شهداء آخرين، أما أنا فكنت مصابًة برأسي وكل أنحاء جسدي. وتم نقلي لمجمع الصحابة الطبي لتلقي العلاج، حيث مكثت شهرا داخل مجمع الصحابة لتلقي العلاج، وشهرا آخر فترة إيواء بسبب تدمير منزلي بتاريخ 5/12/2023 والواقع بشارع الجلاء، خلف مدرسة الماجدة الوسيلة – مفترق مسجد فلسطين، والتي تم تدمير تلك المنطقة بكاملها.

وصية طفلتي

ما زلت تلك الحادثة المؤلمة محفورة بذاكرتي، أتخيل ابنتي وكأنها ما زالت تجلس بحضني، أكثر ما يؤلمني انه عندما فتحت جوال ابنتي ميرفت وجدت انها كتبت وصيتها في اليوم السادس عشر للحرب حيث تقول فيها: “اليوم 16 للحرب والله محنا قادرين ارحمونا يا ناس، انا كتير خائفة، وزعلانة، كل يوم يستشهد شخص من أحبابي، وان شاء الله جاي دورنا انا نستشهد، فيا رب ارحمنا برحمتك، وصيتي الأولى: انه لما أموت دفوني منيح لأنه دايما بسمع انه الشهيد بدفون اش ما كان، اما وصية الثانية انه كل صحابي واحبابي يتذكروني، ووصية الثالثة أمي وأبي وخواتي حبيباتي ما يعيطوا عليا لأنى بصير بالجنة” ربنا يرحمها ويصبرني على فراقها. 

بعد تماثلي للشفاء من الإصابة التي تعرضت لها، أصبحت أواجه صعوبات الحياة، وخاصة بعد فقدان ابنتي التي أتذكرها كل لحظة، عدت لأداء عملي في المجمع ومواصلة عملي المهني والطبي لأنها رسالة سامية تعاهدنا على تقديمها مهما بلغت الجراح والظروف. 

كما انني أقوم برعاية أبناء أختي -عائلة المحامي عادل أبو جهل الذين بقوا على قيد الحياة وتم اخراجهم من تحت الركام وهم: آية وحسام وعطية وأسعد.

والشهداء في قصف المنزل هم:

  1. ابنتي ميرفت حمودة ناهض الدهدار، 12 عاما.
  2. أختي عبير أسعد سعيد أبو جهل، 40 عاما.
  3. زوجها المحامي/ عادل عطية محمد أبو جهل، 59 عاما.
  4. ابنه عمي / رانيا سيد عطية أبو جهل، 25 عاما.
  5. ابن عمي / أحمد سيد عطية أبو جهل، 22 عاما.
  6. زوج ابنت عمي / محمد عطية زكي القيشاوي، 43 عاما.
  7. وزوجته / ايمان محمد عبد الله أبو عبدو، 41 عاما.
  8. وطفلته / رهف محمد عطية القيشاوي، 14 عاما.
  9. وطفلته / رغد محمد عطية القيشاوي، 13 عاما.

أما المصابون فهم: 

  1. هند أسعد سعيد أبو جهل 
  2. عمي / سيد عطية محمد أبو جهل 
  3. زوجته / نجوي أحمد سعيد أبو جهل. (وقد استشهدت في استهداف آخر). 
  4. بنات عمي وهم / صابرين سيد عطية أبو جهل، 36 عاما. (وقد استشهدت في استهداف آخر).  
  5. واختها / ايناس سيد عطية أبو جهل، 20 عاما. (وقد استشهدت في استهداف آخر).