أبريل 25, 2025
على كرسي الألم.. وفي حضن الفقد
مشاركة
على كرسي الألم.. وفي حضن الفقد

أنا حنين محمد موسى العماوي، أبلغ من العمر 26 عامًا، ومتزوجة من أحمد وليد أحمد عويضة منذ خمس سنوات. لدينا ثلاثة أطفال: مريم، 6 سنوات، ووليد، 3 سنوات، وجميلة، شهرين.
أسكن في حي الصبرة بمدينة غزة. نسكن في منزل مكوّن من ثلاثة طوابق: يقطن شقيق زوجي في الطابق الأول، ووالدا زوجي في الطابق الثاني، بينما أعيش أنا وزوجي وأطفالنا في الطابق الثالث.

تاريخ تحرير الإفادة: 14/4/2025

منذ طفولتي، خلّفت الحرب في داخلي جروحًا لا تندمل. في عدوان عام 2014، قُصف منزل عائلتي في غزة قبل زواجي، وعشت حينها تجربة الإخلاء والخوف الشديد من القصف. هذه التجربة تركت أثرًا عميقًا في نفسي، وأصبحت أعاني من نوبات هلع وخوف هستيري كلما اندلعت الحرب من جديد.

مع بداية حرب 7 أكتوبر 2023، عاد هذا الخوف ليلاحقني، خصوصًا وأن منزل عائلتي يقع مقابل منزل زوجي مباشرة. كنت أعيش هاجس أن يُستهدف منزل عائلتي مرة أخرى ونحن في الداخل. لذلك، ومنذ الأيام الأولى للحرب، قررت الذهاب مع أطفالي الثلاثة إلى منزل شقيقتي الذي يقع في منطقة أبعد نسبيًا، وشعرت هناك بنوع من الأمان المؤقت.

مع مرور الوقت، بدأت أتأقلم مع الوضع القاسي، فكنت أقضي الليل في منزل شقيقتي وأعود في النهار إلى منزلي. لكن بعد شهرين من اندلاع الحرب، عدت للاستقرار في منزلي، وكنت أحيانًا أبات في الطابق الأول عند والدي زوجي كنوع من الاستسلام للواقع المرير.

لاحقًا، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي منشورات تُطالب السكان بإخلاء مناطق تل الهوى والصبرة والصناعة. اقتربت آليات الاحتلال من عيادة الصبرة، وبدأت قذائف الدبابات تنهال علينا. كنت حينها في شهور حملي الأولى، ما زاد من معاناتي الجسدية والنفسية. أُجبرنا على النزوح، بينما بقي زوجي وشقيقه في المنزل لأسبوع كامل، رغم اقتراب قوات الاحتلال من منطقة الصناعة. توجهت أنا لمنزل شقيقتي في الصناعة، فيما ذهب أهل زوجي لمنطقة الزيتون.

كانت تجربة النزوح قاسية جدًا بالنسبة لي، إذ كنت أعاني من الوحام والدوخة والإرهاق الدائم. حملت طفلي وليد على ذراعي، وأمسكت بيد ابنتي مريم، وركضنا معًا تحت وقع الخطر، نحاول الهروب من القذائف. كنت أحمل معي أيضًا ملابس الأطفال وبعض الطعام، دون أي وسيلة مواصلات تساعدنا، فقط نركض بين الأماكن وسط خوف لا يفارقني.

لم يكن الخطر بعيدًا عنا، فقد كانت طائرات “كواد كابتر” تستهدف الناس في الشوارع، وأُصيب ابن عمي محمد سليم العماوي أثناء نزوحنا من حي الصبرة. عشت في منزل شقيقتي سبعة أيام، غارقة في القلق على زوجي الذي كان يتنقل بين الشوارع كل يومين، يخاطر بحياته ليتفقد والده المسن، ويطمئن عليّ ويوصل لنا ما نحتاجه. كنا نسمع أصوات القذائف والانفجارات من حولنا، ولا نعلم إن كنا سننجو من اليوم التالي.

بعد تراجع الآليات العسكرية عن المنطقة، عدنا إلى منزلنا. كنت أنام في البداية لدى عائلة زوجي في الطابق الثاني، لكن في أوائل عام 2024، وتحديدًا في شهر فبراير، تم قصف شقة في عمارة عائلتي المقابلة لمنزلنا، ما أدى إلى استشهاد ابن عمي، وهو نفسه الذي كان قد أُصيب سابقًا أثناء النزوح. هذا الحدث جعلني أظن بأن قصف شقة في عمارة عائلتي قد يعني أن المنطقة أصبحت آمنة نسبيًا، وأن الاحتلال لن يعاود القصف هناك، فعُدت للمبيت في شقتي في الطابق الثالث، في محاولة لاستعادة شيء من الحياة الطبيعية، رغم تقدّمي في أشهر الحمل.

مع استمرار الحرب، أصبح تأمين الطعام تحديًا يوميًا. كان زوجي يخرج يوميًا للبحث عن الطحين والطعام لتأمين احتياجات أطفالنا، بدعم من أصدقائنا وأفراد العائلة. كنا نقسم الطعام بما يتوفر: حصتين للأطفال يوميًا، وحصة واحدة فقط لنا نحن الكبار.

وعندما دخلت في الشهر السابع من الحمل، اضطررت للخروج من المنزل مجددًا، بعد أن أطلق جيش الاحتلال تهديدًا جديدًا لسكان المنطقة، بالتزامن مع تقدم الآليات العسكرية نحوها. لكن عائلة زوجي رفضت المغادرة، نظرًا لكبر سن الوالدين وعدم قدرتهم على النزوح. ظلوا في المنزل، رغم بقاء الاحتلال في المنطقة أربعة أيام متواصلة، قام خلالها بتدمير واسع طال معظم الحي، بما في ذلك قصف عيادة الصبرة، ومسجد السلام، وعدة مبانٍ سكنية في الشارع.

عندما عدت إلى المنزل لاحقًا، صُعقت من حجم الدمار الهائل. رغم أن الاحتلال مكث أربعة أيام فقط، إلا أن الدمار الذي خلّفه كان كافيًا ليختزل سنوات من الحياة. روايات عائلة زوجي كانت تقشعر لها الأبدان؛ فقد عاشوا تلك الأيام تحت القصف المباشر، والقذائف كانت تنهمر فوق رؤوسهم. كانت شقيقة زوجي تحاول طمأنتي طوال الوقت من خلال الرسائل، تخبرني أنهم ما زالوا أحياء، ولكن لا أحد كان يشعر بالأمان حقًا.

عاد الوضع في منطقتنا إلى حالة من الهدوء النسبي بعد تراجع آليات الاحتلال، لكن صعوبات الحياة اليومية لم تتوقف، خاصة فيما يتعلق بالحصول على الطحين والماء. كان زوجي يخاطر بحياته يوميًا من أجل تأمين الطعام، يذهب إلى دوار الكويتي ومنطقة النابلسي، حيث كان يرى جثامين الشهداء ملقاة في الشوارع، لكن الحاجة كانت تدفعه للاستمرار. كنا نحصل على المياه من بئر قرب منزل عائلتي، أما مياه الشرب فكان الأطفال يضطرون للانتظار في طوابير طويلة للحصول على كميات قليلة.

في الأشهر الثلاثة الأخيرة من حملي، بدأت أعاني من ضعف شديد وإرهاق دائم نتيجة نقص الغذاء، إلى جانب الألم الجسدي المستمر بسبب الحمل، ومسؤوليتي في رعاية أطفالي وأعمال المنزل. وفي يوم الجمعة، الموافق 13 سبتمبر 2024، شعرت بألم شديد منذ الفجر وحتى أذان المغرب، حاولت تحمله طوال اليوم، لكن مع ازدياد حدة الألم تواصلت مع شقيقي، الذي يعمل سائقًا في مستشفى الخدمة العامة، ورافقني من منزلي إلى مستشفى الصحابة.

بقيت في المستشفى حتى الساعة العاشرة مساءً، وبعد أن أجرى الأطباء الفحوصات اللازمة واطمأنوا على وضعي الصحي ووضع الجنين، نصحوني بالبقاء حتى الصباح كإجراء احترازي، خاصة بسبب صعوبة المواصلات وخطورة الأوضاع الأمنية. لكنني فضّلت العودة إلى منزلي لأرتاح، خصوصًا وأن المستشفى كان مكتظًا بالنازحين من حي الشيخ رضوان بعد أن تلقوا أوامر إخلاء من جيش الاحتلال، ولم يكن المكان مناسبًا للراحة، وكنت قلقة على أطفالي الذين تركتهم في المنزل مع والدهم.

استمرت حياتنا بعد ذلك بين صوت القصف المتواصل الذي لم يهدأ في مختلف مناطق قطاع غزة، ومحاولاتنا للتأقلم والبقاء على قيد الحياة. ورغم كل ما عايشناه من خوف ونقص في كل مقومات الحياة، لم ننزح من منزلنا بعد ولادتي لطفلتي “جميلة”.

في تمام الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر يوم 12 نوفمبر 2024، كنت جالسة على سريري في شقة منزلنا في الطابق الثالث، أُرضع طفلتي “جميلة” التي لم تُكمل شهرين من عمرها بعد، بينما كان زوجي وطفلي “وليد” بجانبي، وطفلتي “مريم” واقفة عند باب الغرفة، تطلب مني الذهاب إلى جدتها. وفجأة، دون أي تحذير أو سابق إنذار، سقط صاروخ على المنزل مباشرة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي.

كان الانفجار مدويًا ومفاجئًا، شعرت وكأننا طُرنا من الطابق الثالث، ووجدت نفسي على الأرض، على نفس الوضعية التي كنت أجلس بها على السرير، وطفلتي “جميلة” ما زالت بين يديّ. لم أستوعب ما حدث، الحجارة والباطون كانت تغطي قدمي زوجي وابني “وليد”، في حين كان باقي أفراد العائلة — شقيق زوجي وزوجته وأطفاله الثلاثة، ووالديّ زوجي — جميعهم تحت الأنقاض.

كنت أفيق وأغيب عن الوعي، لا أدري ما يحدث حولي. رأيت الجيران يسحبون طفلتي من بين ذراعي، كانت تحرك رأسها للحظات، لكنهم أخبروني لاحقًا أنها استشهدت اختناقًا من أثر الردم والغبار والدخان. أما أنا، فقد أصبت بحروق في وجهي ويدي، وكسر في منطقة الحوض، وجروح في القدمين، وشظايا متفرقة في أنحاء جسدي.

تجمّع الجيران بسرعة، وحاولوا إنقاذ من تبقى تحت الركام. زوجي كان مصابًا إصابة بالغة في قدمه، وكانت على وشك البتر، فقد بقيت معلقة بشريان واحد فقط. وكان يسمع صوت ابننا “وليد” يناديه من تحت الأنقاض، فحاول الزحف لإنقاذه، لكنه لم يتمكن من الحركة. واصل الجيران الحفر بأياديهم حتى نجحوا في إخراجهما.

ما زلت أسمع في أذني صوت تصفيرة الصاروخ، شعرت وكأنني في دوامة من النار، إحساس لا يُنسى ولا يتكرر في الحياة. في سيارة الإسعاف، سألت عن أطفالي، فأخبروني أن “جميلة” قد استشهدت. كانت والدتي تحاول تهدئتي ومساعدتي على التحمل. سيارة الإسعاف كانت ممتلئة بالجرحى من جيراننا، فقد تسبب القصف — الذي استخدم فيه ما يشبه البرميل المتفجر — في تسوية منزلنا بالأرض وألحق أضرارًا جسيمة بالمنازل المجاورة.

تم نقلي إلى مستشفى الشفاء، وكذلك زوجي الذي تم نقله بسيارة خاصة بعد تأخر الإسعاف واشتداد ألمه. عند إخراجه من تحت الأنقاض، كان الأطباء على وشك بتر قدمه. أما طفلتي “مريم”، فقد استشهدت هي الأخرى تحت الردم. واستشهد كذلك شقيق زوجي خالد وليد عويضة (33 عامًا)، وزوجته نور الأستاذ (30 عامًا)، وابنهما وليد (9 سنوات)، إلى جانب عبد الرحمن (سنة واحدة)، ومحمد (8 سنوات). كما استُشهد والد زوجي وليد عويضة (62 عامًا)، ووالدته (ايضاً 62 عاماً).

لم تكن مأساة القصف تنتهي بخروجنا من تحت الركام، بل كانت تتكشف تدريجيًا مع كل لحظة تمر.

طفل شقيق زوجي، محمد، البالغ من العمر 8 سنوات، بقي مدفونًا تحت الأنقاض لمدة سبع ساعات. خلال هذا الوقت، كان يسمع أنين شقيقه “وليد” المصاب، ويحاول الزحف نحوه ظنًا أنه لا يزال حيًا. توقف صوت وليد فجأة، فاعتقد محمد أنه تم إنقاذه، ولم يدرك أن شقيقه قد استشهد.

عندما تمكّن الجيران أخيرًا من إخراج محمد من تحت الركام، كان صوته يتهدج من الجفاف والذهول، يردد: “بس شربوني مي… بدي أشرب مي… بدي أشوف وليد… بدي أمي… بدي أبي”، غير مدرك أن كل عائلته قد ارتقت. بقيت شقيقة والده، فدوى، التي لم تكن في المنزل أثناء القصف لانشغالها بالعمل، إلى جانبه في تلك اللحظات الصعبة، تحاول تهدئته واحتوائه.

أما عبد الرحمن، الطفل الأصغر، فقد سُمع صراخه مباشرة بعد القصف، إذ كان ملقى في ممر المنزل بينما كانت والدته مفارقة للحياة في المطبخ. حاول الجيران كسر الحجارة حوله وسحبه إلى الخارج. لاحقًا، اختفى صوته، إذ أغمي عليه بعد إصابته بكسر في الجمجمة وشظايا في وجهه وجسده، لكنه تعافى لاحقًا بعد تلقيه العلاج، والحمد لله.

في اللحظات الأولى بعد إسعافي، حين تم نقلي إلى مستشفى الشفاء، كنت في حالة صدمة شديدة. لم أرَ حولي أحدًا من أبنائي أو زوجي أو عائلته. كنت أصرخ وأسأل عنهم، ولكن لم يكن لدى أحد أي إجابة. لم يكن معروفًا من نجا ومن استشهد.

وفي مساء نفس اليوم، الساعة الثامنة، تم نقلي بسيارة إسعاف برفقة والدتي إلى مستشفى الحلو الدولي، لوجود قسم متخصص بالحروق. قضيت ليلتي الأولى دون أي رعاية طبية بسبب الضغط الهائل على المستشفى، إذ كانت الطواقم الطبية تعمل فوق طاقتها. كانت نسبة الحروق في جسدي تبلغ 19%، من الدرجة الثانية، إلى جانب كسر في الحوض، اضطرني إلى البقاء دون حركة تمامًا. مكثت عشرة أيام كاملة في المستشفى لتلقي العلاج.

بعد يومين، اكتشفوا أن ابني “وليد”، الذي نُقل إلى منزل عائلتي بعد إنقاذه، غير قادر على تحريك ذراعه اليسرى، فتم عمل جبيرة له. كانت إصابته نتيجة بقائه لفترة طويلة تحت الركام، ومحاولته اليائسة للنجاة.

عندما أُخبرتُ باستشهاد طفلتي الرضيعة جميلة، وبعدها ابنتي مريم، شعرتُ بأن روحي تُنتزع من جسدي. دخلت في حالة من الصدمة والإنكار، لم أستوعب كيف يمكن لحياةٍ بأكملها أن تتهاوى في لحظة. لم تكن الكلمات تكفي، ولا الدموع تسعفني. كنت أردد أسماءهم في رأسي، كأنني أحاول استدعاءهم للحياة من جديد.

لكن رغم هول المصاب، كان هناك ما يربطني بهذا العالم، شيء واحد فقط جعلني أتمسك بالحياة رغم الانكسار… لقد بقي لي “وليد”، طفلي، الناجي الوحيد من أبنائي. وجوده منحني بصيص أمل وسط العتمة، شعور بأن هناك ما يستحق البقاء لأجله، من أجله سأحاول أن أتماسك، أن أشفى، أن أنهض من جديد ولو كان جسدي منهكًا وروحي مثقلة بالحزن. كان حضنه آخر ما تبقى لي من رائحة بناتي، من حنيني لبيتي الذي سُوي بالأرض. حفظه الله لي… فقد بقي لي من كل شيء، كل الحياة.

بعد مرور عشرة أيام من مكوثي في قسم الحروق بمستشفى الحلو الدولي، ازداد اكتظاظ المرضى حتى لم يعد هناك مكان لي، فقرر الأطباء إخراجي رغم أنني لم أكن قادرة على الحركة. أُخرجت على كرسي متحرك، بالكاد أستطيع الجلوس، ولم يكن أحد يستطيع مساعدتي دون أن أتألم. طوال تلك الأيام كنت أظن أني تحسنت، وأنني سأغادر المشفى على قدمي، لكن في اللحظة التي حاولت فيها الوقوف، شعرت بالجراح تغرس مخالبها في كل عصب في جسدي.

خرجنا إلى منزل عم زوجي في منطقة الصبرة، فقد دُمر بيتنا وبيت عائلة زوجي بالكامل. بقيت شهرين في الفراش دون حركة، تعتمد حياتي على مساعدة والدتي وجرعات من الفيتامينات والغذاء. كان هناك بعض الانفراج آنذاك في غزة، حيث وُجد الحليب والبيض، وهذا ساعدني قليلًا في التعافي. بعد مرور شهرين وأسبوع، تمكنت أخيرًا من تحريك جسدي من تلقاء نفسي، خطوة صغيرة لكنها كانت تعني لي الكثير.

في الأسبوع الأول، كنت منهارة تمامًا… لكنني أخفيت كل ألمي عمن حولي. لا زلت حتى الآن غارقة في صدمة فقد بناتي وعائلة زوجي. جاء رمضان والعيد… وأنا أمسك بقلبي كل ليلة، أفتقد صغيرتي مريم التي كانت تملاً البيت فرحًا، وجميلة التي لم يكتمل شهرها الثالث. وليد ما زال يذكرهم كل يوم… ‘الله يرحمك يا مريم، الله يرحمك يا جميلة’ … كم حُرم طفلي من دفء أخواته ومن عائلته التي كانت تحيطه بكل حب.

أصبحت أرى مريم تدور حولي كما كانت تفعل دائمًا… أسمع ضحكتها، وأكاد أمد يدي لأمسك بها، لكن لا أحد يعود من الموت… ولم أستطع التأقلم مع غيابها، فالقلب لم يتقبل الفقد، ولا الذاكرة سمحت بالنسيان.

أما أبناء شقيق زوجي، فأعاملهم كما أعامل وليد. عندما يرتكب محمد خطأ ما، وأهمّ بتأنيبه، أتوقف. كيف أعاقب طفلًا كُسر قلبه؟ طفل فقد والده ووالدته في لحظة؟ يجلس أحيانًا وحده يبكي، يشغّل أنشودة كانت والدته تغنيها له ولإخوته، فينهار بالبكاء. الحرب جعلت منه أكبر من عمره بسنوات. وعبد الرحمن، طفل صغير بالكاد يدرك ما جرى، ينادي كل من يراه “بابا”، فقد نُزعت منه ذاكرة الأمان.

في عيني محمد أرى حزنًا لا يشبه حزن الأطفال… حزن يشبه قلوب الكبار بعد أن يُهدم فيها بيت كامل.

زوجي أُصيب بشدة، وركّبوا له بلاتين في قدمه، لكن هناك وتر مقطوع ما زال بحاجة إلى عملية. حروق بوجهه، شظايا مزروعة في جسده، وألم دائم. لم يعد قادرًا على العمل كسائق توصيل كما كان يفعل قبل الحرب. لم يتبقَّ لنا إلا راتب والده الشهيد، نعيش عليه جميعًا.

أما أنا، فالشظايا في جسدي تسكن دون صوت، لكن حين أسجد في صلاتي، أشعر بوخز في ركبتي كأن الأرض تبكي معي. أحيانًا، يطرد جسدي قطعًا من الزجاج أو الحجارة الصغيرة… تخرج من الجلد كما تخرج الذكرى من القلب: مؤلمة لكن ضرورية.

عندما يثقل صدري بالضيق والتعب، أذهب لزيارة قبور بناتي وعائلة زوجي. أجلس هناك، أكلمهم كما كنت أفعل في الحياة، أطمئنهم أنني ما زلت أحملهم في قلبي. لا أحد يستطيع أن ينسى أولاده في يوم وليلة… هذا مستحيل.

فرحت بانتهاء الحرب، اعتقدت أن الحياة ستعود لطبيعتها، أن الهدوء سيعود إلينا من جديد. لكن لم يمر وقت طويل حتى عادت الحرب… أشد، أعنف، وأكثر وحشية. أصبح الاستهداف عشوائيًا، لا يميز بين بيت وشارع. دخلت في حالة اكتئاب ليومين، انعزلت عن الجميع، عادت لي هستيريا الخوف، كأن جسدي تذكّر الألم فجأة. أنا الآن أعيش في انتظار تهدئة جديدة… لكني أعيش كل لحظة بخوف الفقد، كأن شيئًا داخلي يقول لي: من التالي؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *