تاريخ الإفادة: 17 يناير 2025
المكان: مخيم الشاطئ، مدينة غزة
أنا أنوار يونس رباح المصري، 30عامًا، من سكان بيت حانون، آنسة، وأعمل حكيمة في قسم العناية المركزة بمستشفى كمال عدوان. وكانت حياتي تدور بين عائلتي وعملي في إنقاذ الأرواح، حتى جاءت الحرب وغيرت كل شيء.
النزوح الأول: فقدان البيت والأمان
في 8 أكتوبر 2024، تعرض منزلنا للقصف في بيت حانون، لم يكن هناك خيار سوى النزوح. انتقلت عائلتي إلى مدرسة الأيوبية في معسكر جباليا، بينما بقيت أنا في المستشفى. لم يكن والداي هناك، فقد سافرا قبل الحرب بشهر، وكنت أعيش مع إخوتي.
الحصار الأول: أسبوعان من الجحيم
في 15 ديسمبر 2023، بدأ أول حصار لمستشفى كمال عدوان، واستمر لمدة أسبوعين. كنا نعيش تحت وطأة انعدام الماء والطعام، ونفاد الأكسجين، بينما كانت المدفعية تمطر المدينة بالقذائف دون توقف. كنت أعمل بين قسم العناية والاستقبال، أواجه الموت كل لحظة، بينما لم يتوقف القصف العشوائي على المنازل من قبل المدفعية، مما أدى الى تدفق اعداد كبيرة من الجرحى والشهداء الى المستشفى.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، ففي فجر أحد الأيام، في تمام السادسة صباحًا، اقتحم جيش الاحتلال الاسرائيلي المستشفى، دبابات وجنود وقناصة يملؤون المكان، مع تحليق مكثف للطائرات. اعتقلوا الأطباء والممرضين، وعند الخامسة مساءً، أجبرونا على الخروج من المستشفى. كنت أحاول مساعدة المرضى وكبار السن على الخروج بأمان، وكان معي طفل عمره تسعة أشهر من عائلة مشتهى، تمسكت به طوال الطريق حتى سلمته إلى والده عند دوار أبو الجديان في مشروع بيت لاهيا. بعد ذلك، وعدت إلى إخوتي في مدرسة الأيوبية، حيث كنت أعيش منذ أن فقدنا منزلنا.
الحصار الثاني: الجوع والخوف
في أبريل 2024، عاد الحصار إلى جباليا، كنت وقتها داخل مستشفى كمال عدوان، لكن جيش الاحتلال هذه المرة لم يقتحم المستشفى. رغم ذلك، لم نكن أفضل حالًا، فقد عانينا من نقص حاد في الماء والطعام، وكنا نعيش في خوف دائم بسبب القصف والاستهدافات المتكررة. كل يوم كان أشبه بكابوس لا نهاية له، لكنني كنت أتمسك بالحياة، أقف بين الجرحى، أحاول إسعافهم، وأدعو أن ينتهي هذا الجحيم يومًا ما.
اقتحام مستشفى كمال عدوان: ليالي الرعب والنجاة من الموت
مرّت الأشهر وسط معاناة مستمرة، حتى 5 أكتوبر 2024، بينما كنت لا أزال في مستشفى كمال عدوان، بدأت الأحداث تتصاعد عند الساعة الثامنة مساءً، حيث بدأ التوغل البري في جباليا للمرة الثالثة. في تلك الليلة، وبعد انتهاء دوامي، غادرت المستشفى وذهبت للنوم مع إخوتي في مدرسة الأيوبية.
مع حلول صباح 6 أكتوبر 2024، أصبح القصف مكثفًا في كل مكان، مستهدفًا المدارس والمنازل دون تمييز. عدت الى المستشفى، وقد توافدت أعداد كبيرة من الجرحى والشهداء إلى المستشفى، حيث وقعت مجازر مروعة بأعداد هائلة.
في ليلة 22 أكتوبر 2024، من الساعة الثانية عشرة منتصف الليل حتى الخامسة صباحًا، تعرضت ساحة مستشفى كمال عدوان لقصف مباشر، استُهدفت خلاله الصيدلية والأرشيف، إلى جانب قصف المنازل المحيطة بالمستشفى.
في فجر 23 أكتوبر 2024، عند الساعة الخامسة صباحًا، استُهدفت الحضانة داخل المستشفى، ما أسفر عن سقوط العديد من الشهداء والجرحى. قمنا على الفور بنقل الأطفال الناجين إلى العناية المركزة، لكن لم تمضِ دقائق حتى اقتحمت الدبابات المستشفى، وهُدمت أسواره، وانتشر القناصة في كل مكان. عبر مكبرات الصوت، وُجهت إلينا أوامر بإخلاء المستشفى، مع الإبقاء على الأطباء والجرحى برفقة مرافق واحد لكل مصاب.
من الساعة السابعة صباحًا حتى الحادية عشرة والنصف، غادر النساء والأطفال، بينما تم اعتقال بعض الرجال، في حين أُفرج عن آخرين بعد التحقق من هوياتهم. كنتُ في المبنى الرئيسي برفقة المرضى، حيث كان عدد الجرحى كبيرًا بسبب الاقتحام. العديد منهم كانوا في العيادة الخارجية، لكن مع خطورة إصاباتهم وغياب المرافقين، نقلناهم إلى المبنى الرئيسي عند الساعة الواحدة ظهرًا خشية تعرضهم للاستهداف أو إهمالهم، إذ كانوا بحاجة ماسة إلى الرعاية الطبية. عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا، منحنا جيش الاحتلال مهلة خمس دقائق فقط لإفراغ الصيدلية. كنتُ برفقة أربعة من الأطباء، وتمكنا من إخراج كمية قليلة من الأدوية والمحاليل والمسكنات قبل انتهاء المهلة. بين الساعة الثانية والثالثة بعد الظهر، فُرض حظر كامل على الحركة داخل المستشفى، مما منعنا من متابعة الحالات الطبية، فيما كانت الدبابات متمركزة عند مدخل الاستقبال.
عند الساعة الرابعة مساءً، كان الجنود قد اقتربوا إلى داخل باب الاستقبال. كنتُ برفقة زملائي براء العسكري (حكيم) وإياد الشيخ (مراسل)، وكانا ينظران عبر النافذة عندما أُطلقت عليهما رصاصة واحدة أصابتهما معًا؛ براء أصيب في صدره وفقد وعيه، بينما أصيب إياد في وجهه وبدأ يصرخ من الألم.
أبلغت الأطباء بأن جيش الاحتلال يطلق النار عبر النوافذ، وأن هناك جرحى بحاجة إلى إنقاذ. توجهت مع الدكتور محمد بريكة والدكتور محمد عبيد لإسعاف براء وإياد. في تلك اللحظات، دخلت طائرات الكواد كابتر إلى ممر المستشفى وبدأت بتصويرنا أثناء تقديم الإسعافات الأولية لزملائنا. شعرنا بالخوف في البداية، لكن سرعان ما تجاوزناه وأكملنا عملنا. بقينا في المبنى حتى الساعة العاشرة مساءً، وسط أجواء من الترقب والخطر المستمر.
عند الساعة العاشرة مساءً، أُبلغ الدكتور حسام أبو صفية بضرورة إخراج الطاقم الطبي، وطلب منا التجمع في الطابق الأرضي مع الجرحى ومرافقيهم. امتثلنا للتعليمات وتجمعنا هناك، بينما كانت طائرات الكواد كابتر تحلق في الطوابق العلوية، ترصد كل حركة.
في الطابق الثالث، بقي الجرحى ذوو الحالات الخطيرة والمواليد في الحضانات، حيث تولى رعايتهم الدكتور محمد بريكة والممرض محمد النمنم. كانت طائرة الكواد كابتر تحوم داخل هذا الطابق، مما جعل الأوضاع أكثر توترًا وخطورة.
عند منتصف الليل، كنا جميعًا متجمعين في الطابق الأرضي عندما اقتحم جيش الاحتلال المستشفى، حيث تجاوز عدد الجنود الخمسين وكانوا برفقة كلابهم المدربة. عمّ المكان جو من الرعب والهلع، إذ بدأ الجنود بتكسير الأبواب وتفتيش كافة أرجاء المستشفى، مما أدى إلى فوضى عارمة. كانت الكلاب تحيط بنا بشكل مرعب، تنبح بشراسة، بينما أمسك الجنود بها بإحكام.
تمركز جزء من الجنود عند باب الاستقبال، بينما انتشر الباقون في الطوابق العلوية للقيام بعمليات التفتيش. خلال ذلك، كان الدكتور حسام أبو صفية بمثابة حلقة الوصل بين الجيش والطاقم الطبي والمرضى. كلما ناداه الجنود وتأخر في الرد، كانوا يعتدون عليه بالضرب على وجهه. كان واضحًا عليه الخجل وهو ينظر إلى زملائه من الكادر الطبي، محاولًا إخفاء الإهانة التي تعرض لها.
استمر هذا الوضع القاسي من منتصف الليل حتى الواحدة ظهرًا، وسط أجواء من التوتر الشديد، بينما كانت المولدات الكهربائية لا تزال تعمل، ما وفّر إضاءة في المكان، كاشفةً عن مشاهد الرعب والانتهاكات التي تعرض لها الطاقم الطبي والمرضى على حد سواء.
في الساعة الواحدة صباحًا، أمر جيش الاحتلال الدكتور حسام أبو صفية بإخراج الطاقم الطبي من الأطباء والممرضين عبر باب الاستقبال. بمجرد خروجهم، أجبرهم الجنود على خلع ملابسهم تمامًا، ثم اقتادوهم إلى العيادة الخارجية وهم عراة. في وقت لاحق، أخبرني زملائي أن العيادة كانت مظلمة، وأنهم تعرضوا للضرب العنيف بينما كانت أيديهم مكبلة وأعينهم معصوبة. بعد ذلك، طلب الجيش من الدكتور حسام تزويدهم بأسماء الأطباء، والممرضين، والجرحى، ومرافقيهم. ثم قاموا بمناداة أربعة جرحى واقتادوهم داخل دبابة إلى جهة مجهولة.
بحلول الساعة الثانية صباحًا، أمر الجنود الدكتور حسام بإخراج الجريحات اللواتي يستطعن المشي، إلى جانب مرافقيهن، بالإضافة إلى الطاقم الطبي النسائي. كنا ثلاثين امرأة، بين ممرضات، حكيمات، وفنيات مختبر. تم اصطفافنا في ساحة المستشفى أمام دبابة، بينما انتشر الجنود حولنا، وتمركزت القناصة في مبنى قسم الولادة المطل مباشرة على الساحة. كانت نوافذ القسم مليئة بالقناصة الذين وجهوا أسلحتهم نحونا.
من الساعة الثانية والنصف حتى الخامسة صباحًا، كنا نقف هناك تحت تهديد السلاح، حيث كانت قوات الاحتلال تطلق النار في الهواء لإرعابنا، وتوجه إلينا إهانات وألفاظًا بذيئة. لا أستطع حتى تكرار الكلمات التي سمعناها من بشاعتها. كانت أشعة الليزر من أسلحة الجنود مصوبة مباشرة على رؤوسنا، مما زاد من رعبنا.
خلال هذا الوقت، تم تصويرنا بشكل فردي من قبل ضباط الاحتلال، بينما كانت طائرة الكواد كابتر تحلق فوقنا مباشرة، تراقب كل تحركاتنا، مما جعل اللحظات تمر وكأنها دهور من الخوف والترقب.
عند الساعة الخامسة فجرًا، أجبرنا جنود الاحتلال على الدخول إلى قسم الاستقبال، حيث كان الباب مفتوحًا. بعد ذلك، قاموا بإخراج جميع الرجال، بمن فيهم الأطباء والممرضون والمراسلون وحراس الأمن وعمال النظافة. كان عدد الرجال كبيرًا، وجلب الجيش شاحنة ضخمة لنقلهم.
تم تقييد أيديهم بمرابط بلاستيكية وعصب أعينهم، وبدأ الجنود بسحبهم بعنف كما لو كانوا يسحبون كلابًا. رأيت كل ذلك بأم عيني لأن باب الاستقبال كان لا يزال مفتوحًا. بعدها، أُجبر الرجال على الصعود إلى الشاحنة، وأغلق الجيش باب الاستقبال، ولم يتبقَ من الطاقم الطبي سوى ثلاثة أطباء وثلاثة ممرضين، بينما تم اقتياد البقية إلى جهة مجهولة.
في تمام الساعة السادسة صباحًا، أحضر جنود الاحتلال سلاحًا وقاموا بتصوير الدكتور حسام أبو صفية بجواره، ثم أبلغوه بأن هذا هو “السلاح الموجود في المستشفى”. لاحقاً، أبلغنا الجيش أنهم سينسحبون من المستشفى، وأخبرونا أن بإمكاننا التحرك بحرية داخله. انسحب الجنود من جميع الأقسام، وخرج الجيش بالكامل. كان ذلك في 24 أكتوبر 2024، بعد ليلة مرعبة من الانتهاكات والاعتداءات بحق الطاقم الطبي والمرضى.
في تمام الساعة الثامنة صباحًا، كان القصف شديدًا، ويبدو أنه كان لتأمين انسحاب الجيش. عند تمام الثامنة، لم يتبقَ أي جنود أو ضباط داخل المستشفى. بعد تلك الأحداث، بدأ مشفى كمال عدوان يستقبل أعدادًا كبيرة من الجرحى والمصابين من جميع الاتجاهات. كان عددنا قليلًا مقارنة بعدد المصابين المتوافدين، ما جعل تقديم الإسعافات أمرًا مرهقًا وصعبًا للغاية. مع مرور الوقت، بدأت أوضاع المستشفى تستقر تدريجيًا، وبدأ السكان بالعودة إلى منازلهم، حيث أصبحت المنطقة أكثر أمانًا نسبيًا.
في منتصف شهر نوفمبر، خلال الحصار الثاني، بدأ تطويق مشفى كمال عدوان في تمام الساعة الثانية عشرة صباحًا. كان داخل المشفى وفد طبي إندونيسي، وكان القصف مستمرًا دون توقف، بينما حاصرت الدبابات المكان، وكانت طائرات الكواد كابتر تحلق في الأجواء، فيما انتشرت جثث الشهداء في محيط المشفى.
في تلك اللحظة، تم إخراج الوفد الإندونيسي بواسطة سيارة إسعاف بعد التنسيق مع قوات الاحتلال. عند الساعة السادسة صباحًا، وصل إلى المشفى شاب أسير بدا عليه الخوف وآثار الضرب. أبلغنا أن جيش الاحتلال أرسله لإبلاغنا بضرورة خروج جميع النازحين من المشفى، مع بقاء الطاقم الطبي والجرحى، حيث يُسمح لكل جريح بمرافق واحد فقط.
خرج النازحون برفقة الأسير، بينما بقينا محاصرين داخل المشفى دون رؤية أي جنود. استمر الحصار حتى الساعة الرابعة عصرًا. بعد فك الحصار، بدأ وصول أعداد كبيرة من الجرحى، وكان هناك أكثر من 70 شهيدًا في محيط المشفى. غرقت المشفى بالدماء، وسط جهد طبي مرهق لمحاولة إنقاذ أكبر عدد ممكن من المصابين.
في أواخر نوفمبر 2024، ألقت طائرة كوات كابتر قنبلة استهدفت الدكتور حسام أبو صفية، مما أدى إلى إصابته في قدمه وإحداث ضرر في العصب، ما جعله يعتمد على عكاز للمشي. في تلك الفترة، استمر تدفق الجرحى إلى المشفى بأعداد كبيرة، وسط قصف متواصل وانتهاكات يومية.
كانت الجملة المتداولة بيننا دائمًا: “سنموت بعد قليل”، إذ لم يكن هناك لحظة أمان، حيث كانت قوات الاحتلال تقصف محيط المشفى، وتستهدف الأطباء والممرضين عبر نيران القناصة من النوافذ والسلالم والأسطح.
في ديسمبر، قصف الاحتلال قسم العناية المركزة، مما أدى إلى احتراقه بالكامل، وتسبب في سقوط العديد من الجرحى والشهداء. استمرت النيران تطلق علينا من كل الاتجاهات، فيما كانت الروبوتات العسكرية تحاصر المشفى، تتحرك وتنفجر بشكل مفاجئ، محدثة دمارًا واسعًا. هذه الروبوتات، التي يتم التحكم بها عن بُعد، لم يكن بها جنود، وكانت وظيفتها الأساسية التدمير.
ألقى الاحتلال في محيط المشفى صناديق خشبية عليها رسوم لجماجم وعلامة X، كنوع من التخويف، مما جعل الجميع يظنون أنها متفجرات، لكن عند اقتراب البعض منها، اتضح أنها فارغة. كنا نسمع يوميًا ما بين 6 إلى 7 انفجارات لهذه الروبوتات، وكان كل انفجار بمثابة كارثة.
في ظل هذا الجحيم، كان المنسق العسكري يتواصل مع الدكتور حسام أبو صفية مرارًا لإجباره على إخلاء المشفى، لكنه كان يصرّ على أنها منشأة طبية لا يمكن إخلاؤها. لكنهم استمروا في الضغط، مستخدمين التهديد والتلاعب، وفي كل مرة كان الاتصال يُشعرنا برعب جديد. بتاريخ 26 ديسمبر 2024، وصلت إحدى الروبوتات العسكرية إلى أمام المشفى، واستخدمت مكبر الصوت لإبلاغنا بوجوب إخلاء المكان فورًا.
صباح يوم 27 ديسمبر 2024 في تمام الساعة الخامسة فجرًا، اهتزت جدران مستشفى كمال عدوان على وقع القصف المدفعي. أصابت القذائف قسم الصيانة، فتطايرت الشظايا في كل اتجاه، وسرعان ما ارتفعت أصوات الصراخ ونداءات الاستغاثة. كانت الطائرات تحلق فوق رؤوسنا، تمطر ساحة المستشفى ومحيطه بالقذائف. في تلك اللحظات العصيبة، دخل الجنود وبدأوا بإصدار الأوامر عبر مكبرات الصوت، طالبين منا إخلاء المستشفى بالكامل
في الساعة السادسة صباحًا، استدعى الجنود الدكتور حسام أبو صفية وأمروه بإخلاء المشفى بالكامل. عندها، غادرنا جميعًا، الأطباء والممرضات والمصابون، أولئك الذين استطاعوا التحرك رغم جراحهم. لكن بعض المصابين لم يتمكنوا من الخروج، كانت إصاباتهم بالغة حد العجز عن الحركة. بقوا هناك، وسط رائحة الدم والموت، ولم يبق سوى أربع ممرضات قررن البقاء بجانبهم.
المسير تحت تهديد الدبابات
خرجنا من المستشفى مشياً على الأقدام، محاطين بالدبابات من كل جانب، وأصوات الجنود تتردد في المكان. كنت أحمل أمانات الأطباء وبعض أغراضي، أتقدم بخطوات ثقيلة، يسيطر عليّ شعور بالفزع. سرنا تحت حراسة مشددة، أمام الدبابات مباشرة، بينما فوهات البنادق مصوّبة نحونا، وكأن أي حركة خاطئة قد تعني الموت.
وصلنا إلى ساحة صالة الفريد بحلول الساعة السادسة والنصف صباحًا، كانت الساحة معبأة بالدبابات والجيبات المكشوفة والجنود، وأعدادهم هائلة. أُجبر أكثر من 400 شاب على خلع ملابسهم بالكامل، حتى امتلأت الأرض بملابسهم، مما زاد من رهبة المشهد. الساحة تحولت إلى معسكر ضخم مرعب، ونحن محاصرون من كل جانب تحت تهديد الأسلحة، وسط حالة من الخوف والقلق الشديدين.
إجبار النساء على خلع الحجاب
عند الساعة السابعة صباحًا، أرسل جيش الاحتلال شابًا أسيرًا، كان يتلقى الأوامر من الضباط داخل الدبابة. اقترب مني وأبلغني أن الجيش يريد أن نخلع حجابنا ونكشف رؤوسنا. كنت المتحدثة باسم النساء، نظرت إليه بثبات وقلت: “لن نخلع حجابنا ولو على قطع رقابنا.”
عاد الشاب ليبلغ الضباط، لكنهم أرسلوا الطلب مجددًا. ثم حاولوا التحايل، فطلبوا ممن هنّ دون العشرين عامًا خلع الحجاب، وعندما رفضنا، قالوا: “إذن، من هنّ دون الخامسة عشرة”. ومع كل مرة كان يعود إلينا بالطلب، كنا نرد بالرفض القاطع.
لم يتوقف الضغط عند هذا الحد، إذ طلب الجنود أخذ الأطفال بحجة تصويرهم. رفضت الأمهات، وتشبثن بأطفالهن، لم يسمحن لهم بالذهاب مع الجنود، رغم التهديدات المتزايدة.
طلب الطبيبات والممرضات للتحقيق
بعدها، طلب الجيش 20 طبيبة وممرضة للخروج والتعرف على هوياتهن، ووعدوا بإطلاق سراح جميع النساء إذا تم الامتثال. تقدمت أنا و19 من زميلاتي، واصطففنا في طابور، نحمل بطاقاتنا الشخصية، غير مدركات لما ينتظرنا. اقتادونا إلى مدرسة الفاخورة وما إن عبرنا بوابة المدرسة، حتى وجدنا أنفسنا وسط عشرات الدبابات والجنود المنتشرين في كل زاوية، كأن المكان تحول إلى ثكنة عسكرية ضخمة. دخلنا واحدة تلو الأخرى إلى غرفة التحقيق، كنت الرابعة في الطابور.
كانت الساعة قد قاربت التاسعة صباحًا، حين دفعني أحد الجنود نحو حمام المدرسة، حيث يجري التحقيق مع النساء. في الداخل، كان هناك ضابط واثنان من الجنود، يراقبونني بنظرات متوحشة. أخذ الضابط هويتي، ثم دفعني بقوة فسقطت على الأرض، كدت أصاب بسيخ حديدي، لكنه لم يمسسني. نظر إليّ بغلّ، وقال ببرود: “اخلعي ملابسك.” شعرت بجسدي يرتجف، وبأن الأرض تهتز تحت قدمي. لم أجب. فباغتني بسحب جاكيتي بعنف، ألقاه على الأرض، وأمرني برفع ملابسي للتفتيش. رفضت، فصفعني بقوة مروّعة على وجهي. احترق خدي بالألم، وخفت أن يكررها. لم أعد أحتمل، فاضطررت لرفع بلوزتي، ظهر بطني وظهري أمامهم، في إذلال لم أذق مرارته من قبل. لم يكتفوا بذلك، بل أمرني الضابط بإنزال البنطال. أنزلته قليلاً، فقام بلفّي بطريقة وحشية بينما كان الجنديان يفتشانني. لم يجدوا شيئًا، لكن ذلك لم يردعهم عن الاستمرار في إذلالي. طلب مني الضابط هاتفي المحمول، فأخبرته أنني لا أملكه. لم يصدقني، فصفعني مرة أخرى بقوة أكبر، حتى شعرت أن رأسي يدور. اقترب مني أكثر، أمسك برقبتي بكل قوته، شعرت بالاختناق، بالكاد أتنفس، وعيناه تضيقان بغضب. كان طويلًا وضخم الجثة، بدا وكأنه يستمتع برؤيتي ضعيفة وعاجزة. تركني أخيرًا، وهو يرمقني بنظرة غليظة، ثم أمرني بالخروج. خرجت من الحمام مسرعة، أرتجف، أرتدي ملابسي بيدين مرتعشتين، بينما وجهي ملتصق بالحائط، وأركع على الأرض. سمعت صوته القاسي يصرخ: “اللي تتحرك، بتموت!” كنت أرتجف، لكنني تمالكت نفسي، وخرجت.
صدمة التحقيق والخوف من الاعتداء
عندما دخلت إلى غرفة التحقيق، كنت مصدومة مما يحدث. لم أتخيل أبدًا أن يأتي يوم يتم فيه التحقيق معي كممرضة وسط الحرب. كنت أعلم أن هناك احتمالًا لأن أُضرب أو أُقتل، لكن هذا لم يكن أكثر ما أخافني. كان الخوف الحقيقي يطاردني من شيء آخر… من الاعتداء. سمعت الكثير عن سوابقهم، عن النساء اللواتي تعرضن للانتهاك على أيدي الجنود، وكنت أدعو الله ألا أكون واحدة منهن. نظراتهم كانت قذرة، مليئة بالاحتقار والانحطاط. كانوا يتعمدون القيام بحركات مشينة، وكأنهم يريدون زرع الرعب في داخلي قبل أن ينطقوا بكلمة واحدة. عندما انتهى التحقيق، خرجت مرتبكة، خائفة، يداي لا تزالان ترتجفان. عدت إلى زميلاتي، بالكاد أستطيع التحدث، فتقدمت نحوي إحداهن وسألتني بصوت قلق: “ماذا فعلوا بك؟“ قبل أن أتمكن من الرد، دوى صوت جندي وهو يسحب أجزاء سلاحه، ثم صرخ بغضب: “اخرسي!”. ومع حلول الساعة العاشرة، أعاد لنا الضابط الهويات، لكنه لم يسلمها لنا بأيدينا، بل رمى بها عند أقدامنا، وكأنها لا تساوي شيئًا. أجبرونا على العودة إلى ساحة صالة الفريد، حيث تركنا أغراضنا.
عدت برفقة زميلاتي، وكنت أتساءل عما حدث معهن. عرفت لاحقًا أن جميع الممرضات والطبيبات تم التحقيق معهن، وتم تفتيشهن وضربهن. لم يكن هناك استثناء، كنا جميعًا ضحايا هذا المشهد المهين. لكنني لاحظت أيضًا أن بعض النساء لم يتم تفتيشهن، ربما لأنهن لم يكن يرتدين ملابس تدل على عملهن في المجال الطبي، أو لأنهن لم يُعتبرن أولوية بالنسبة للجنود. في تلك اللحظة، لم أشعر بالراحة أو الأمان رغم انتهاء التحقيق. كنا ما زلنا محاطين بالجنود والدبابات، مهددين في كل لحظة.
رحلة النزوح تحت التهديد والقصف
عند الساعة الثانية بعد الظهر، أبلغنا جيش الاحتلال بأن على النساء التحرك ومغادرة المكان والسير خلف الجيب العسكري. امتثلت النساء للأمر وبدأن بالسير.
تابعنا السير حتى دوار الحلبي، وهناك حدثت الكارثة. طائرات الكواد ألقت قنابل على التجمع، كان المشهد مروعًا، الجثث والإصابات في كل مكان. كان هناك حوالي 30 شخصًا، معظمهم من الأطفال، وكثير منهم سقطوا جرحى بسبب القصف. لم يكن أمامي سوى النجاة، اقتربت عربة يجرها حمار، حملوني بها، وهكذا واصلت رحلة النزوح إلى سويدي الشاطئ، حيث لجأت إلى منزل أخي. كل ما كنت أفكر به في تلك اللحظة هو: متى سينتهي هذا الكابوس؟