نوفمبر 9, 2024
رحلتي من فقدان الأبناء إلى معركة النجاة
مشاركة
رحلتي من فقدان الأبناء إلى معركة النجاة

لمى محمد محمد ظاهر، 24 عاماً، متزوجة، أم لطفلين، سكان معسكر جباليا شمال غزة.

تاريخ الإفادة: 9/4/2024

أنا متزوجة من محمد علي محمد ظاهر، ولدينا طفلان هما: هبة 6 سنوات، وريان عامين ونصفن، ونسكن في منزل مستأجر في الطابق السادس من عمارة سكنية بالقرب من كفي شوب رابعة في معسكر جباليا.

في السابع من أكتوبر 2023، كنت في منزلي أحتضن أطفالي وأحاول طمأنتهم أمام أصوات القصف، كي لا يشعروا بالخوف. كان القصف الإسرائيلي شديداً وشمل جميع المناطق، حيث تم قصف منازل في الشارع الذي يقع فيه منزلي.

توالت الأيام إلى تاريخ 29 أكتوبر 2023، حيث أخلينا المنطقة التي نعيش فيها بعد تنفيذ جيش الاحتلال حزاما ناريا على منطقة السكة، وكان الصوت مرتفعاً للغاية ومخيفاً. فخرجنا من المنطقة كما فعل باقي الناس، وتوجهت إلى منزل عمي الواقع في معسكر جباليا بالقرب من العيادة العصرية. مكثت هناك لمدة يومين، وعندما علمت بعودة النازحين إلى منازلهم، قررت العودة إلى منزلي وعدم الخروج منه مجدداً. كنت أعتقد أن ما يحدث للآخرين قد يحدث لي أيضاً، لكنني فضلت البقاء في منزلي.

في ذلك الوقت، كان الطعام والمياه متوفرين في منزلنا، وكان هناك ألواح طاقة شمسية على سطح العمارة، مما زاد من إصراري على البقاء. ومع تزايد القصف في جميع المناطق، تعرض منزلان قريبان من منزلنا للقصف، وفي بداية شهر نوفمبر تم قصف أرض زراعية خلف منزلنا. ورغم ذلك، لم أرغب بالخروج من منزلي على الرغم من أن القصف كان يجعل المنزل يهتز في جميع أركانه. لكنني كنت قوية من أجل أطفالي، كي لا يشعروا بالخوف.

الفاجعة الكبرى

في تلك الفترة، أي بداية نوفمبر 2023، كانت المنطقة تشهد تنفيذ أحزمة نارية من طائرات الاحتلال في جميع الأنحاء، وخاصة في منطقة السكة التي أقطن فيها. امتد الحزام الناري من ساعات الفجر حتى الساعة السابعة صباحاً، وكان القصف متتالياً في مناطق مختلفة. كانت أصوات القصف والأحزمة النارية، التي تُنفذ في منطقة الشاطئ، مسموعة بوضوح في معسكر جباليا، وكانت الأصوات قوية جداً وتمتد لأكثر من نصف ساعة.

بتاريخ 8 نوفمبر 2023، قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزل عمتي الواقع في معسكر جباليا، بجوار مسجد عماد عقل، مما أدى إلى استشهاد عمتي وابنة عمتي وأبناء عمتي الثلاثة، بالإضافة إلى حفيدتها. كما أصيب اثنان من أحفاد عمتي. تأثرت كثيراً باستشهادهم، وذهبت إلى المستشفى لوداعهم ورؤيتهم للمرة الأخيرة. عدت مع والدي وزوجي، ومن هول الصدمة ومناظر الردم والركام، بدأت الأفكار تتوالى في ذهني حول كيفية نجاة الناس من تحت الركام، وساءت حالتي النفسية. اشتريت بعض الحاجيات لأطفالي وجلست مع جاراتي قليلاً، حيث أخبرتهن بما حدث مع عمتي والأفكار التي تشغل بالي، وحاولن التخفيف عني. ثم صعدت إلى منزلي، حيث قمت بإطعام أطفالي، ولجأنا إلى الفراش للنوم. استيقظت في الساعة العاشرة ليلاً، وبقيت مستيقظة حتى الساعة الثالثة صباحاً، وأنا غير قادرة على النوم، بينما كنت أراقب أطفالي. استيقظ ابني في تلك الليلة ولم يرغب في النوم. جاء إلي، عانقني وقبلني وقال: “ماما، أنت بتحبيني؟”، ثم وضع هاتفي تحت وسادتي، وهو أمر غير معتاد منه. قمت بفرش المكان بجانب سريري، ونمت وأطفالي في غرفتي. في الساعة السادسة و45 دقيقة صباحاً، استيقظ أطفالي، فأخبرتهم أن الوقت لا يزال مبكراً، وطلبت منهم العودة للنوم على أن أوقظهم الساعة الثامنة.

بتاريخ 9 نوفمبر 2023، في الساعة 6:47 صباحاً، عدت إلى النوم بعد أن قمت بتغطية نفسي، وما هي إلا لحظات قليلة، وفجأة، دون أي إنذار، اخترق صاروخ من طائرات قوات الاحتلال زاوية غرفتي. لم أستطع إدراك ما حدث في تلك اللحظة، إذ دمر المنزل بالكامل وتدنت الرؤية إلى صفر. لم أتمكن من رؤية زوجي أو أطفالي، فقد كان ركام المنزل فوقنا جميعاً وتم دفعنا لأسفل نحو الأرض حوالي 8 أمتار من شدة الانفجار.

بينما كنت تحت الركام، كنت أسمع أصوات من كانوا يبحثون عن أي شخص حي لإخراجه من تحت الأنقاض. كانت أصوات الجيران تتناثر من حولي. تم العثور على زوجي في أرض خلفية لمنزلنا، وقد تم قذفه بشدة من قبل الصاروخ إلى غصن شجرة رقيق، حيث كان ملقى هناك. أصيب زوجي في جميع أنحاء جسده وتم نقله للمستشفى لتلقي الإسعاف. أما أنا، فبقيت تحت الردم لمدة نصف ساعة، كنت أسمع خطواتهم فوقي وأحاول التواصل معهم لأخبرهم أنني هنا، لكنني لم أستطع الحركة تماماً. كانت قدمي مصابة إصابة بليغة. لم يكن في ذهني في تلك اللحظات سوى أطفالي. كنت أحاول الحفر بجانبي علني أتمكن من الوصول إلى أحدهم، علّني أجدهم أحياء أو حتى أسمع أنفاسهم، ولكن مع مرور الوقت أصبح التنفس صعباً للغاية تحت الركام.

حاولت رفع الحجارة عن جسدي، لكن من كانوا يبحثون عن ناجين أغلقوا المساحة التي كنت فيها مرة أخرى. كنت أصرخ وأقول لهم: “لا تغلقوا المكان، أنا هنا!” لكنهم لم يسمعوني. كان المنقذون يسيرون فوقي دون أن يعلموا بوجودي، وكان ألمي يزداد وأنا أصرخ “أنا أتألم، لا تسيروا فوقي”.

مع مرور الوقت، بدأت أشعر باليأس وكنت أظن أنني لن أخرج على قيد الحياة مثل باقي سكان العمارة الذين استشهدوا، أو أنني فقدت أولادي. استسلمت للأمر الواقع، وبدأت في قراءة آية الكرسي وأرددها عشر مرات. وفي المرة العاشرة، جاء أحد المنقذين إلى جانبي، وكشف عن وجودي تحت الردم، وسألني عن اسمي. بعد أن أخبرته باسمي، نادى على والدي الذي كان في حالة انهيار تام، منتظراً أي خبر عني. وعندما علم أنني على قيد الحياة، انهار والدي وسقط على الأرض، يبكي من شدة الصدمة، إذ فقد شقيقته قبل يوم، والآن ابنته تحت الركام.

عندما بدأ المنقذون في محاولة إخراجي من تحت الردم، كانوا يطمئنونني باستمرار بأنني بخير وأنهم سيقومون بإخراجي من المكان بأمان. كانوا يحرصون على إخراجي ببطء وحذر حتى لا يتسببوا في المزيد من الأذى. لم تكن هناك خدمات إسعاف في المكان، ولم تتوفر المعدات اللازمة لإخراجي بسهولة. كان كل ما يعتمد عليه المنقذون هو أيديهم وهم يحملون الحجارة لإزالتها قدر المستطاع، لإخراجي من تحت الردم. أثناء محاولاتهم إخراجي، كنت أسمع صوت عظام قدمي تتكسر. وعندما تم إخراجي، تم نقلي إلى سيارة الإسعاف ومن ثم إلى المستشفى الإندونيسي.

في الطريق إلى المستشفى، كنت أخبر والدي بأنني أشعر بوجود حجارة في قدمي، لكنه كان يطمئنني ويخبرني بأنني بخير وأنه لا يوجد شيء. لكن قدمي كانت تحتوي على حفرة كبيرة تنزف، وكنت أشعر بثقل في قدمي. أخبرت والدي بأن أولادي، ريان وهبة، قد استشهدا، بينما زوجي محمد ما يزال على قيد الحياة. خوفاً على حالتي، حاول والدي أن يطمئنني ويقول لي أن أولادي على قيد الحياة، ولكنني أكدت له أنهما قد استشهدا، لأن الأطفال لا يتحملون أن ينهار منزل بالكامل عليهم.

عند وصولي إلى المستشفى الإندونيسي، تم وضعي على الأرض لمدة ساعتين دون أن يتم الاهتمام بحالتي أو حتى أن يلاحظني الأطباء. كان المستشفى ممتلئاً بالجرحى والشهداء، وكان العمل يتم على أساس الأولوية، حيث كانوا ينقذون من يستطيعون إنقاذهم، بينما كنت أصرخ من شدة الألم على الأرض.

بعد التحويل إلى مستشفى العودة، خضعت للفحوصات والأشعة، حيث أخبرني الأطباء بأن العظم في ساقي قد تفتت، وأنه يجب تركيب البلاتين. ثم جاء طبيب كبير في السن أمسك بإصبع قدمي الكبير وحركه، وكان صوت العظام بداخله مسموعاً من شدة الألم. وعندما تحرك إصبعي، صرخت بصوت عالٍ زلزل أرجاء المستشفى. في تلك اللحظة، كانوا قد تمكنوا من إخراج أولادي من تحت الركام.

عندما أحضروا لي أطفالي لأودعهم، اكتشفت أن وجوههم قد تعرضت للحروق من نيران الصاروخ الذي اخترق الغرفة.

عندما قمت بتوديع أطفالي، لم تنزل دمعة واحدة من عيني في تلك اللحظة من شدة الصدمة، فقد كان ما حدث فوق طاقتي. لم يتبقَّ أحد ممن كانوا في العمارة على قيد الحياة. أما زوجي، فقد أصيب في عدة أماكن من جسده، في رأسه وجبينه ووجهه، بالإضافة إلى إصابات في الجهة الأخرى من رأسه ويده، وكان عظام القفص الصدري بها كسور. وقد تم معالجته بدون تخدير، حيث لم تكن هناك تجهيزات طبية في المستشفى في ذلك الوقت. زوجي انهار بشدة ولم يستطع التحمل، وغرق في البكاء، ثم غاب عن الوعي. أما أنا، فلم أكن قد استوعبت بعد ما حدث، كنت أردد فقط “ربنا يرحمكم”، ولم أتمكن من البكاء أو حتى الحديث. كل ما استطعت فعله هو احتضان ابني ريان وطلبت منهم أن يتركوه في حضني قليلاً قبل أن يتم أخذه لدفنه. بعد أن أخذوا أطفالي لدفنهم، طلب مني صحفي يعمل لدى قناة الجزيرة يوثق لحظات الوداع في المستشفى حينها وطلب مني أن أبكي لأخفف عن نفسي هول الصدمة، لكنني لم أستطع ولم تنزل دمعة واحدة من عيني. لم يستطع زوجي حتى دفن أبنائه، حيث غاب عن الوعي، وتم إعطاؤه حقنة مهدئة، بينما قام إخوتي وإخوته بدفن الأولاد.

بعد محاولات عديدة، تم نقلي من المستشفى الإندونيسي إلى مستشفى العودة. وعند وصولي، استقبلني الأطباء وأعطوا اهتماماً خاصاً لحالتي، حيث كان خالي يعمل طبيباً في مستشفى العودة. قاموا بتنظيف مكان إصابتي وعرضوا عليّ إجراء عملية جراحية في تلك الليلة.

في تلك الأثناء، كانت طائرات الاحتلال الصهيوني تنفذ حزاماً نارياً في منطقة تل الزعتر، وكنت أرقد على سرير المستشفى. فجأة، دخلت نيران الأحزمة النارية إلى داخل الغرفة التي كنت بها، وكان تفكيري: “لقد نجوت من الموت تحت الركام، لكن هل سأنجو الآن من نيران الأحزمة النارية؟” ومن شدة الخوف، حاولت الوقوف على قدميّ والهروب من الغرفة. لكن الطبيب الذي كان موجوداً قام بطمأنتي وقال لي إنه بجانبي وأنني سأكون بخير، ثم خرج بي من الغرفة إلى أن انتهى تنفيذ الحزام الناري. بعد مضي نصف ساعة، عدت إلى الغرفة لأستلقي على السرير، ولكنني لم أستطع النوم من الخوف.

في 12 نوفمبر 2023، دخلت غرفة العمليات في الساعة السادسة مساءً، وخرجت منها في الساعة التاسعة. قبل إجراء العملية، كنت أحاول رفع معنوياتي، إذ كنت لا أرغب في أن تفشل العملية كما فشلت بعض العمليات السابقة. كنت قوية ولم أخف، بل حاولت أن أضحك وأبقى متفائلة، رغم أنني كنت لا أزال تحت تأثير الصدمة لما حدث لي ولأطفالي. تم تخديري نصفياً. أبدى الأطباء تعاطفاً شديداً معي، حيث كانوا يغنون لي ويضحكون معي أثناء العملية، رغم أن العملية كانت تُجرى في ظروف صعبة للغاية تحت إضاءة خافتة جداً على ضوء اللدات. كنت أخبر الأطباء بأنني سأشفى وسأعيد لهم الحديد والدبابيس التي وضعوها في جسدي، وكنت أضحك معهم رغم الألم الشديد الذي شعرت به بسبب إصابتي، وتحت تأثير الصدمة كنت أحاول تقوية نفسي حتى لا أضعف.

تم فتح ساقي ووضع بلاتين داخلي. بعد يوم من إجراء العملية، تم إخراجي من المستشفى بسبب تهديدات جيش الاحتلال لمستشفى العودة، حيث كان خالي قلقاً عليَّ. وبالفعل، بعد يومين من خروجي، تم قصف القسم الذي كنت أتواجد فيه من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى استشهاد عدد من الأطباء العاملين في مستشفى العودة، بما في ذلك بعض أطباء منظمة “أطباء بلا حدود”.

في 13 نوفمبر 2023، غادرت المستشفى وتوجهت إلى منزل جدتي في معسكر جباليا، شارع العجارمة، حيث مكثت هناك لمدة أسبوع. طوال هذا الأسبوع، كان القصف شديداً جداً، وكان الاحتلال يطلق قذائف من دباباته على المنطقة، مما دفع أهل والدتي إلى إخلاء البرج. كنت في حالة خوف شديد، حيث كنت على كرسي متحرك ولا أستطيع السير على قدمي. لم أتمكن من المشي إلا بعد مرور ثلاثة أشهر.

كان أخي، البالغ من العمر 25 سنة، هو من يساعدني في التنقل والذهاب إلى الحمام، حيث إن والدتي متوفاة ولا أملك أخوات. كان أخي بجانبي طوال فترة علاجي في المستشفى وحتى بعد نزوحنا من غزة إلى الجنوب.

كان الجانب الأيسر من جسدي مليئاً بالرضوض، التي كانت أشد ألماً من الكسر. كل حركة كنت أقوم بها كانت تؤلم بشدة، وكان الحل الوحيد هو تناول المسكنات. في 19 نوفمبر 2023، غادرت منزل جدتي برفقة زوجي وتوجهنا إلى منزل عمي في معسكر جباليا بالقرب من العيادة العصرية. وبقيت هناك حتى نهاية شهر ديسمبر، حيث كانت حالتي الصحية تتحسن، وكنت أذهب بانتظام لتغيير الضمادات على الجرح.

خلال فترة مكوثي في منزل عمي، كان القصف شديداً بشكل مستمر، وكان السكان يتجهون لإخلاء منازلهم إلى منطقة بلوك 2، التي كانوا يعتقدون أنها آمنة نظراً لوجود عيادة الوكالة ومركز المؤن التابع لها، بالإضافة إلى مدارس الوكالة المحيطة بهم. كان السكان يتخذون قرار الإخلاء إلى أحد هذه الأماكن فور حدوث أي تهديد. من بداية شهر ديسمبر حتى منتصفه، كان القصف شديداً للغاية، حيث كانت قذائف المدفعية تضرب بشكل عشوائي، في الوقت الذي كان فيه جيش الاحتلال يتوغل في منطقة الصفطاوي والتوام ودوار أبو شرخ.

في منتصف ديسمبر 2023، بدأ القصف المكثف من مدفعية جيش الاحتلال على المنطقة السكنية التي كنا نعيش فيها، بهدف إجبار السكان على الإخلاء. البعض استجاب للأمر، بينما رفضنا الخروج، خاصة أنني كنت لا أستطيع التحرك بسبب حالتي الصحية. ومع ذلك، تواصل جيش الاحتلال مع أحد الجيران وأخبره بأنه سيتم قصف المكان من جامع العودة حتى استوديو السلطان في معسكر جباليا. بناءً على ذلك، تم إجبارنا على النزوح إلى مركز المؤن، وأنا على كرسي متحرك.

كان الجو في تلك الفترة شديد البرودة، وكان علينا البقاء في ساحة مركز المؤن. بالإضافة إلى ذلك، كانت طائرات جيش الاحتلال تقوم بإلقاء فوانيس، وكان صوت القصف مرتفعاً جداً ومخيفاً، مما زاد من خوفنا وصراخ الأطفال في المكان. خشية من تعرضنا للقصف مرة أخرى، طلبنا البقاء في المكان. في تلك اللحظات، قدم أحد الأشخاص الموجودين في المركز بطانيات لنا، وأدخلنا إلى المخزن لتوفير بعض الحماية، كما قدم لنا المياه وورق المحارم. بقينا في هذا المكان حتى صباح اليوم التالي، ثم عدنا إلى منزل عمي حيث بدأوا في تنظيف المنزل من الزجاج والحجارة المتساقطة نتيجة شدة القصف.

في اليوم التالي، استأنف جيش الاحتلال قصفه المكثف على المربع السكني الذي كنا فيه. تم الاتصال بنا من قبل الاحتلال مجدداً، وأُبلغنا بضرورة التوجه إلى منطقة غرب غزة. في تلك الليلة، بدأنا في تجهيز أمتعتنا وأغراضنا، عازمين على الخروج والبحث عن مكان آمن نتمكن من الإقامة فيه بعيداً عن القصف والتهديدات المستمرة.

في الساعة الثالثة صباحًا من تلك الليلة، فوجئنا بتساقط الحجارة والغبار من جميع الاتجاهات، واعتقدت أن المنزل سيهدم فوق رؤوسنا مرة أخرى. في تلك اللحظات، قام شقيق زوجي باحتضان أطفاله الذين هم في مثل أعمار أطفالي الذين فقدتهم، وأخذني إلى الممر. تبين لاحقًا أن القصف كان قد استهدف المربع السكني الذي يقع خلف منزل عمي، وهو عبارة عن ستة منازل تضم عددًا كبيرًا من السكان والنازحين. نتيجة القصف، انهارت المنازل على رؤوس من كان فيها، واستشهد عدد كبير من السكان. ورغم أن بعض الأشخاص كانوا لا يزالون على قيد الحياة، إلا أن قرب المنازل من بعضها وعدم توفر المعدات اللازمة حال دون تمكن الجيران من انتشالهم من تحت الركام. كانت أصوات الصراخ والبكاء من تحت الردم مسموعة، خاصة من الأطفال والنساء الذين كانوا يصرخون طلبًا للنجدة.

شعرت بالخوف الشديد عندما رأيت أبناء شقيق زوجي في حالة ذعر، وكنت أفكر في فقدهم كما فقدت أطفالي. كان الوضع أصعب بسبب غياب والدتهم، التي كانت قد حجزت في المستشفى الاندونيسي بجانب شقيقاتها المصابات ولم تتمكن من العودة إلى أبنائها.  وقد نزحت مع أخواتها المصابات إلى الجنوب بعد أن تم إجلاء المصابين بواسطة سيارات الإسعاف. هكذا، حرمت من أبنائها منذ شهر نوفمبر، وكان تأثير ذلك شديدًا عليَّ. كنت أعتني بأبنائها كما لو كانوا أطفالي، وأتحرك فقط باستخدام العكازات.

في ساعات الفجر، بعد أن شعرنا بأن الأوضاع قد هدأت قليلًا، فوجئنا بنوافذ المنزل تفتح أمامنا والنيران تتصاعد في الأفق، وكانت الجثث تتطاير من شدة قوة القصف. تبين أن القصف قد دمر المربع السكني الأمامي لمنزل عمي بشكل كامل. على إثر ذلك، خرجنا هاربين إلى مركز المؤن في معسكر جباليا، حيث قضينا الليلة في داخله. في اليوم التالي، خرج شقيق زوجي للبحث عن مكان آخر للإقامة، فنزحنا إلى نادي خدمات جباليا في المعسكر، وبقينا هناك ليلة واحدة. لكننا قررنا الانتقال من المكان بعد اقتراب جيش الاحتلال من معسكر جباليا، فقررنا النزوح إلى مستشفى الشفاء.

مكثنا في مستشفى الشفاء لمدة شهر كامل داخل قسم العناية المركزة. في هذه الفترة، كنا نسمع أصوات القصف واجتياح معسكر جباليا. خلال هذه الأيام، تعرضت بوابة مستشفى الشفاء للقصف من قبل مدفعية جيش الاحتلال، حيث كان الأطفال في طابور طويل يقومون بتعبئة المياه، فاستهدفتهم القذيفتان اللتان أطلقهما الاحتلال، مما أسفر عن استشهاد وإصابة عدد من الأطفال في هذا المكان.

بتاريخ 15/01/2024، طلب منا عمال المستشفى إخلاء القسم الذي كنا نقيم فيه، لأنه يعد قلب المستشفى. وقد أُعطيت كل عائلة قررت مغادرة المستشفى مبلغ 50 شيكل كتكلفة للمواصلات. قررنا العودة إلى الشمال، خاصةً بعد انسحاب دبابات وجيش الاحتلال الإسرائيلي من معسكر جباليا.

مكثت لمدة أسبوع في منزل عمي في معسكر جباليا، حيث كانت الأوضاع صعبة للغاية. لم يكن الطعام متوفرًا، والمياه شحيحة للغاية، بل كان الحصول على الطحين في تلك الفترة أمرًا شبه مستحيل. وعندما كان يوجد، كانت أسعاره مرتفعة جدًا، حتى أننا اضطررنا لشراء خليط من كسبة الأرانب مع العلف والشعير من أجل التغلب على نقص الطعام. كان الماء مفقودًا في المكان، وكان من الصعب جدًا العثور على مياه شرب للاستخدام الشخصي، مما زاد من معاناتنا.

وبسبب كثافة النازحين في المكان وصعوبة الوضع، قررت اللجوء إلى منزل عمي الآخر في جباليا البلد. في تلك الفترة، كنا نعيش على الخبز المقطوع، وكانت وجباتنا تتكون في الغالب من خبيزة مع الأرز أو الليمون مع الفلفل الأحمر. في بعض الأحيان كنا نأكل المايونيز مباشرة من الملعقة أو صلصة الطماطم. كنت مجبرة على تناول أي شيء، فقد كنت بحاجة لتناول الدواء بعد أن التهب الجرح بسبب عدم تناولي للمضاد الحيوي لمدة 10 أيام.

عندما سمعت بأن التنقل إلى الجنوب أصبح مسموحًا، طلبت من زوجي أن ننزح إلى هناك بدلًا من الاستمرار في هذه المعاناة. على الأقل في الجنوب، كان هناك طعام ومرافق صحية وأطباء يمكنني الاطمئنان على حالتي الصحية.

بتاريخ 27/2/2024، كنت قد جهزت أغراضي واشتريت بعض الحاجيات التي كنت في حاجة إليها، وعزمنا على النزوح إلى الجنوب. في الساعة السابعة صباحًا، انطلقنا على كارة تجرها حصان، وبحلول الساعة الثامنة وصلنا إلى حاجز الاحتلال الإسرائيلي قرب البيدر. عند الحاجز، تجمعت أعداد كبيرة من النازحين، وانتظرنا حوالي عشر دقائق قبل أن يطلب منا الجنود الاصطفاف اثنين اثنين، مع التزام مسافة 10 أمتار بين كل شخص وآخر. قالوا لنا “صباح الخير، نتمنى السلامة للجميع، اصطفوا اثنين اثنين حتى نحترمكم يا عرب”. طلبوا مني خلع نظارتي الطبية، وكان ذلك جزءًا من إجراءاتهم الروتينية.

بعد عبور الحاجز، سمحوا لعبور الكارات التي تجرها الحيوانات المحملة بأغراض النازحين. رغم أنني كنت أعاني من إصابة في قدمي، إلا أنني واصلت السير على قدمي بمساعدة زوجي وأحد أقاربي. كنت متعبة جدًا، ولكن لم أكن أستطيع التوقف. رغم الألم الشديد، واصلت السير دون استخدام العكازات خوفًا من أن يتوقف الجيش ويسألني عن إصابتي. لتخفيف الألم، أخذت أربع حبات من المسكنات، لكنني واصلت السير لمجرد أنني كنت مصرة على الوصول إلى الجنوب للحصول على الطعام والعلاج.

بعد عبورنا الحاجز الإسرائيلي، كانت السماء مليئة بالطائرات المسيّرة “الكواد كابتر”، بينما كانت دبابات الاحتلال تطلق القذائف من حولنا. فجأة، انفجرت قذيفة بالقرب منا، حيث سقطت على ثلاثة من النازحين، فارتقوا شهداء. كانت تلك اللحظة مرعبة، دبّ فيها الخوف في قلبي، لكنني أخبرت زوجي أنني سأذهب قبله لأنني مريضة وأحتاج للوصول إلى الجنوب بأسرع ما يمكن. كان زوجي يحمل الكثير من الأمتعة، فطلبت منه أن يسير ببط.

سرنا على طريق الزهراء وصلنا إلى وادي غزة، حيث استقبلنا أقاربنا هناك. توجهنا إلى دير البلح حيث استضافنا صديق زوجي، قدموا لنا الطعام والمياه بعد أن وصلنا هناك قبيل الظهر، وظلينا في الضيافة حتى بعد العصر. بعد ذلك، جاء ابن عمي ليأخذنا إلى خيمته في رفح، في منطقة تل السلطان.

عند وصولي إلى رفح، توجهت مباشرة إلى المستشفى الميداني لفحص قدمي، حيث قدموا لي معاملة حسنة واعتنوا بي. أخبرني الطبيب أنه يجب عليّ المشي يوميًا على الرمل، لأن إصبع قدمي الكبير يعاني من مشكلة في الشرايين التي لا تصل إلى طرف الإصبع، مما يجعله في وضعية انحناء. وأوضح أن العلاج الطبيعي غير متاح في هذا الوقت.

بالرغم من ظروف الحياة الصعبة في الخيمة، حيث لا يوجد راحة أو استقرار، فإنني أحمد الله على هذه النعمة، بعدما مررتُ بكل ما عايشته في شمال قطاع غزة. ومع مرور الأيام، تزايد شعوري بالحزن على فقدان أبنائي، وكلما رأيت الأطفال حولي، كانت دموعي تنهمر من جديد. والألم في قلبي يزداد يوماً بعد يوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *