ديسمبر 22, 2024
جسد مشلول وقلب مكسور: حكاية نور بين أنفاس الحياة والموت
مشاركة
جسد مشلول وقلب مكسور: حكاية نور بين أنفاس الحياة والموت

أنا نور رائد كمال الدواوسة، 24 عاماً، متزوجة، وأعيش مع زوجي في منزلنا المستقل في بيت لاهيا شمال غزة. في صباح يوم 7 أكتوبر 2023، استيقظت على أصوات غريبة قادمة من البحر، ظننتُ في البداية أنها مجرد تدريبات عادية. لكن شيئًا ما كان مختلفًا في تلك اللحظة، فسرعان ما تحولت أصوات الانفجارات إلى واقع لا مفر منه. بينما كان القلق يزداد في نفوسنا، قررنا البقاء في منزلنا. لكن الأيام مرّت، ومع تدهور الوضع، أصبحت منطقتنا شبه خالية، فقط طائرات الاستطلاع الإسرائيلية تحلق في السماء فوقنا. لم يعد أمامنا خيار سوى مغادرة منزلنا واللجوء إلى منزل عائلتي في مشروع بيت لاهيا شمال غزة.

كان منزل عائلتي، المكون من أربعة طوابق، مزدحمًا بذكريات الطفولة، أصبح ملاذًا مؤقتًا لعائلتي الكبيرة. كنا حوالي ثلاثين شخصًا تحت سقف واحد: والديّ، إخوتي وأخواتي، جدي وجدتي، وأعمامي الثلاثة مع عائلاتهم. هذه التجربة جعلتني أعيد التفكير في معنى الأمان والاستقرار، وكيف يمكننا كنساء أن نواصل في وجه الظروف القاسية.

في الساعة الرابعة فجراً يوم 22 نوفمبر 2023، استيقظنا جميعًا، وكأننا نشعر أن هذه اللحظات قد تكون الأخيرة لنا معًا. كانت هناك حالة من الهدوء الممزوج بالقلق، حيث تبادلنا الحديث وكأننا نودع بعضنا دون أن ندرك أن ذلك سيكون فعلاً وداعاً أخيراً. مع شروق الشمس، بدأت علامات التعب والنعاس تظهر علينا جميعاً، فتوجه بعضنا إلى غرفهم للنوم. والدتي، كالعادة، وجدت في العجن نوعاً من الراحة والروتين الذي يربطنا بالحياة الطبيعية، بينما قررت أنا وأخواتي نديم وريماس أن نبدأ بتحضير وجبة الإفطار. كانت تلك اللحظات العائلية البسيطة ملاذاً لنا من القلق الذي يحيط بنا.

فجأة، شعرت أن كل شيء يدور من حولنا، وبدأت أصوات الصراخ تعلو من نديم وريماس. لم أفهم ما يجري، فتركت الغاز وركضت نحوهما. فجأة، فقدت الوعي. عندما استيقظت، كنت مغطاة بالركام، والسقف يضغط على جسدي، وأنا مستلقية على ظهري. وجدت ريماس ونديم بجانب قدميّ، وكانتا ما تزالان على قيد الحياة.

طلبت منهما مساعدتي للخروج، لكنهما قررتا محاولة الخروج أولاً وطلب المساعدة. وبينما كانتا في طريقهما، قصف الطيران الإسرائيلي صاروخاً آخر، مما أدى إلى استشهادهما في الشارع أثناء محاولتهما طلب النجدة وإنقاذي. تلك اللحظات كانت مليئة بالذعر والألم، وستظل محفورة في ذاكرتي للأبد.

في وقت لاحق من ذلك اليوم، نجحت في لفت انتباه الجيران من خلال طرق الألمنيوم بجانبي. تسارعوا لإنقاذي وأخرجوني من تحت الأنقاض. نُقلت إلى مستشفى كمال عدوان في شمال مدينة غزة، وسط آلام لا تُحتمل، دون توفر أي مسكن للألم. كانت الطواقم الطبية عاجزة أمام حالتي، محاصرة بين نقص الموارد والقصف المتواصل الذي يستهدف المدنيين دون هوادة.

كانت الأجواء مشحونة برائحة الموت التي تخيّم في كل زاوية. بعد أربعة أيام من المعاناة، تمكن طاقم المستشفى من التنسيق لنقلي، برفقة زوجي الذي أخرجوه من تحت الركام بعد ثلاثة أيام من القصف، إلى جنوب قطاع غزة.

نُقلت إلى الجنوب في حافلة تتسع لخمسين راكباً، حيث تم وضعي على نقالة في المكان المخصص للحقائب، إذ لم يُسمح بنقلي في سيارة إسعاف. عند وصولنا إلى مستشفى ناصر في خان يونس. هناك، أبلغني الأطباء أن القصف الإسرائيلي العنيف أدى إلى إصابة خطيرة في العمود الفقري، مما تسبب في شلل كامل في الأطراف السفلية. وأُجريت لي عملية جراحية لوضع البلاتين في ظهري وتركيب فقرة في العمود الفقري، حيث كانت الفقرة الثالثة مفتتة ومكسورة، مما ضغط على النخاع الشوكي وتسبب في الشلل. في البداية، كنت أستطيع تحريك أصابع قدمي، ولكن سرعان ما فقدت الحركة كليًا. لم أعد أشعر بأي إحساس، حتى في منطقة الحوض. لم أعد أستطيع معرفة متى أحتاج إلى دورة المياه، لذا أضبط المنبه لتنبيهي وأذهب في الوقت المناسب، كما أقول دائمًا: “لم أعد أشعر، لكن الساعة تُذكرني بما يجب عليّ فعله. الحمد لله على كل حال.”

بعد كل ما مررت به، من فقدان عائلتي ودمار بيتي، أصبحت الآن في وضع لا يقل قسوة. أشعر بالأرق الشديد، ولا أستطيع النوم بسبب الألم الذي يسري في قدميّ. أستمر بالصراخ والتقلب طوال النهار والليل، والمسكنات نوفرها بصعوبة. أتناول حبة مسكن واحدة في اليوم، بينما المفترض أن أتناول اثنتين، لأتمكن من توفير واحدة لليوم التالي، أملاً في النوم إن استطعت.

ومع استمرار الحرب ونقص العلاج الطبيعي في غزة، أصبحت آمالي في التعافي تتضاءل، وإغلاق المعبر حال دون سفري لتلقي العلاج، تاركًا إياي في كابوس الانتظار المرير. عالقة بين أمل العلاج والوقوف على قدميّ ضائع وفقدٌ لا يعوض.