واجهت النساء في قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023، مستوى غير مسبوق من العنف والمعاناة، حيث وجدن أنفسهن في قلب مأساة إنسانية تتجاوز كل الحدود، فقد تعرضن لاستهداف مباشر وغير مباشر نتيجة الهجوم العسكري الإسرائيلي، الذي لم يميزهم كمدنيين، وأوقع خسائر مدمرة طالت كل جوانب حياتهن. وقد عاشت بعض الأمهات منهن أقسى تجارب الفقد، حيث كن يشهدن جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يقتل أبناءهن بطرق وحشية ومنهجية، ولم يكن موتهم مجرد نتيجة لخسائر جانبية، بل جاء عبر هجمات ممنهجة استهدفت المنازل ودمرتها على رؤوس ساكنيها، وصواريخ دفنت الأبناء تحت الأنقاض، ورصاص القناصة الذي أصابهم بدم بارد، إضافة إلى النيران التي حاصرتهم داخل البيوت المحترقة، كما قُتل أبناؤهن على الطرقات وفي الأماكن التي زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنها آمنة. ولم تتوقف الفظائع عند هذا الحد، إذ تمزقت أجساد بعض الأبناء التي تركت في الشوارع وعلى جوانب الطرقات لتنهشها الكلاب، كذلك لم تسلم بعض الأمهات الحوامل من هذا الألم، حيث تعرضن للإجهاض نتيجة الظروف القاسية التي فرضها الهجوم العسكري الإسرائيلي.
فقدت بعض الأمهات ابناً أو اثنين، وهناك من استيقظت لتجد نفسها بلا عائلة، بعد أن أُبيد جميع أبنائها في غارة واحدة. وكان الهدف من هذه الهجمات جلياً: القضاء على جيل كامل من أبناء غزة، مما حول الأمهات من مربيّات إلى ناجيات يرزخن تحت وطأة الفقد والألم. والأكثر قسوة هو أن الكثير من هؤلاء الأمهات لم يُمنحن حتى الفرصة لتوديع أطفالهن أو دفنهم بكرامة، حيث تحولت بعض جثث الأبناء إلى أشلاء متناثرة، بينما لا تزال جثث أخرى تحت الأنقاض لم يُعثر عليها بعد، في مشهد يعكس عمق الفظائع التي ارتكبها الجيش الاحتلال الإسرائيلي بحق سكان قطاع غزة.
مع بدء وقف إطلاق النار في قطاع غزة بتاريخ 19 يناير 2025، لم تعد الحياة كما كانت، بل فُتحت جراح النساء الأمهات من جديد، تلك الجراح التي لا تلتئم أبداً. ففي لحظات الصمت الأولى بعد القصف، بدأت الأمهات بمواجهة الحقيقة القاسية: غياب أبنائهن. تبدأ علاقة الأم بابنها منذ اللحظة الأولى للحمل، حيث يتكون رابط جسدي وعاطفي عميق يُميز هذه العلاقة عن أي علاقة أخرى. يجعل هذا الارتباط فقدانه بالنسبة لها أكثر من مجرد خسارة فرد، بل وكأن جزءاً من كيانها انتزع، مما يترك أثراً عميقاً لا يمكن محوه.
في فلسطين، ومنها قطاع غزة، تُسند للأمهات المسؤولية الأساسية في تربية الأبناء وتلبية احتياجاتهم اليومية، مما يكوّن علاقة وثيقة بأبنائهن مستمرة تقوم على الرعاية والعناية بكل تفاصيل حياتهم. وعندما تفقد الأم ابنها، تفقد جزءاً أساسياً من هويتها اليومية المرتبطة بهذا الدور، مما يجعل الألم يتجاوز الحزن الطبيعي ليصبح شعوراً بالفراغ الوجودي. إضافة إلى ذلك، تُعتبر الأم غالباً الحامية والمسؤولة الأولى عن أبنائها، فقدان الابن يُشعرها بالإخفاق في أداء دورها، حتى عندما يكون الأمر خارج عن إرادتها. هذا الشعور بالفشل الشخصي يتداخل مع الحزن الطبيعي، ليخلق أذى نفسياً أكثر عمقاً.
أفادت غادة رزق الدولة، 49 عاماً، لطاقم المركز: “نزحتُ من شمال وادي غزة إلى جنوبها، وفي ليلة 13 أكتوبر 2023، عند العاشرة مساءً، دوّى انفجار عنيف بجوارنا. خرج والدي وإخوتي وأبنائي لتفقّد المكان… لكنهم لم يعودوا. مزّقتهم ثلاث قذائف إسرائيلية، وتركتني في هاوية لا قرار لها. استشهد ابني أحمد متأثرًا بشظية في رأسه، لم يستطع الأطباء معالجته فلم يكن لديهم امكانيات، بينما طفلي أمير، ذو العشرة أعوام، ارتقى شهيدًا على الفور. لحظة الوداع كانت كابوسًا لا نهاية له. احتضنت أحمد، ثم فقدتُ وعيي مرارًا. أما أمير، فأُصيب بجروح خطيرة ونُقل إلى مشفى ناصر، ولم أتمكن من وداعه إلا في المقبرة. وقفتُ أمامه عاجزة، منهارة، والكلمات تعجز عن وصف المأساة. كان الألم أوسع من أن يُحتمل حين أُعلن عن عودة سكان الشمال، رغبتُ في نقل قبور أبنائي معي، لكن أخي أقنعني بأن يبقوا حيث هم، وكأنني أترك جزءًا مني خلفي إلى الأبد. عدنا مشيًا عبر شارع الرشيد، كان الطريق طويلًا، كنت أبكي طوال المسير، كيف عدتُ بلا أولادي؟ ألوم نفسي: لو لم أنزح لكانوا سيبقون بجانبي؟ إحساس قاتل بالذنب يلاحقني، كان عليّ كأم أن أحميهم. أعيش في دوامة لا تهدأ، أراهم أمامي حتى وأنا مستيقظة، أحدثهم، أمد يدي لأحتضنهم، وكأنني أفقد عقلي. لكن رغم كل هذا الألم، لا أجد متسعًا للحزن.، حيث فقدتُ منزلي، ولا توجد مقومات حياة في شمال وادي غزة، وعليّ أن أرعى أبنائي واهتم بهم وأقوم بكامل المسؤوليات المطلوبة مني في ظروف أشد صعوبة وانهاكاً لجسدي.“1
تواجه النساء في غزة، بعد فقدان أبنائهن، تحديات مضاعفة، حيث يتم تجاهل احتياجاتهن النفسية والعاطفية في مجتمع يسوده الدمار، ويُحرم العديد منهن من الدعم الذي يحتجن إليه في هذه اللحظات الأكثر قسوة في حياتهن. وفي ظل التدمير المستمر، يتحملن عبئًا نفسيًا ثقيلًا، فالأم لا تحزن على فقدان ابنها فقط، بل تُجبر على التكيف مع واقع مرير، حيث لا يوجد مكان آمن للحزن أو للتعافي. وتكمن المأساة في أن هؤلاء النساء، اللواتي فقدن أبناءهن، لا يجدن من يقدّم لهن الدعم في هذه المرحلة العميقة من الفقد، مما يزيد من معاناتهن ويجعلها أشد قسوة. وتجبر هؤلاء الأمهات، رغم الفقد والانهيار النفسي، على الاستمرار في أداء مسؤولياتهن المنزلية، وتربية الأطفال ورعايتهم وسط ظروف قاسية لا تتوفر فيها مقومات الحياة الأساسية مثل المياه النظيفة، والكهرباء، والخصوصية، والأمان. بل إن معظمهن يعشن في خيام ومراكز إيواء مكتظة، تفتقر إلى أبسط متطلبات الحياة، مما يجعل كل يوم بمثابة صراع للبقاء، حيث يمتزج الحزن بالقهر والمسؤولية التي لا تنتهي.
أفادت فاطمة السرسك، 25 عاماُ، لطاقم المركز: “كنتُ أعيش مع زوجي وأطفالي الخمسة في حي الشجاعية، خلال الحرب نزحنا إلى دير البلح. وفي ليلة 30 أكتوبر 2023، عند منتصف الليل، استيقظت على جحيم لم أسمع صوته ولم أشعر به قبل أن أرتمي بعيدًا عن المنزل. كان ذلك برميلًا متفجرًا كما خمنت، حجم الدمار كان مهولًا. وجدتُ نفسي في أرض خالية، بينما كانت طفلتي أيلول مُلقاة خارج المنزل، أما زوجي وأطفالي الأربعة فكانوا تحت الأنقاض. في لحظاتٍ تبقى في ذاكرتي كأشد كوابيسي سوادًا، طفلتي إيلول، فقد كانت جسدًا محروقًا لا ملامح له، لم أستطع حتى النظر إليها من هول ما أصابها. كانت الحروق من الدرجة الثالثة، والجرح في رأسها احتاج إلى سبع غرز. كنتُ أعلم أنها تتألم، لكني لم أكن قادرة على احتضانها، لم أكن قادرة حتى على الوقوف. أما باقي أطفالي؟ فقد استشهدوا تحت الركام، إياد (8 أعوام) وتامر (6 أعوام) احترقا بالكامل، وسلمى (5 أعوام) كانت قدمها مبتورة تتدلى من جلدها الرقيق. لم يتمكنوا حتى من انتشالهم إلا في اليوم التالي، بآلات الحفر. لم أودعهم، لم أستطع رؤيتهم، لم أحتمل أن تبقى صورتهم المحترقة هي آخر ما أحمله عنهم. دفنوا بعيدًا عني، كنت أتمنى ألا يكونوا محروقين وأستطيع وداعهم. وعندما تم إعلان وقف إطلاق النار وعدتُ إلى شمال وادي غزة، لم يكن هناك فرحٌ بالعودة. كان هناك موتٌ جديدٌ يُولد في داخلي مع كل خطوة. أطفالي الذين كانوا يسألونني كل يوم “متى سنعود، يا أمي؟”، لم يكونوا هناك ليشهدوا عودتنا، عدتُ وحدي، وقلبي يعتصر. لم أفرح بوقف إطلاق النار، فقد تجددت آلامي، لأن الحرب سرقت مني أغلى ما أملك. وأجد نفسي أبكي طوال الليل، عاجزة عن النسيان أو تجاهل الأحداث التي غيرت حياتي. كان أطفالي أمانة في عنقي، وكم أتمنى لو كنت قادرة على حمايتهم. الآن، بدأت استوعب الفراغ الذي تركوه في حياتي، فقد كنت أرعاهم وألبي احتياجاتهم، أما الآن، فلم يعد لهم وجود سوى في قلبي الذي لم يشفَ من ألم الفقد. أنا امرأةٌ فقدت ثلاثة أطفالٍ دفعةً واحدة، وما زلتُ أعيش الألم كل يوم. احتاج إلى دعم نفسي، لكن أين الملجأ في وطنٍ صار كله دماراً؟”2
أفادت ياسمين جمال بكرون، 33 عامًا، لطاقم المركز: “أنا أم رهف (13 عامًا)، راما (12 عامًا)، محمد (10 أعوام)، وطفلتي الشهيدة نور التي لم يتجاوز عمرها ثلاثة أشهر. في السابع من أكتوبر 2023، كنت في الشهر الثامن من الحمل عندما اندلعت الحرب على غزة. في الرابع عشر من أكتوبر، استمر القصف بشكل مكثف، وألقت الطائرات منشورات تطالب بإخلاء المنطقة والتوجه جنوبًا. شعرنا بالخطر على أطفالنا، فقررنا النزوح إلى جنوب وادي غزة. في الثامن من نوفمبر 2023، جاء موعد ولادتي، فتم نقلي إلى مستشفى العودة حيث أنجبت طفلتي نور بعملية قيصرية، ثم عدت إلى المدرسة بعد الولادة مباشرة. بتاريخ 25 ديسمبر2023، أُلقيت منشورات تأمر بإخلاء المدرسة، ثم تم قصف ساحتها. اضطررنا للمغادرة عصر ذلك اليوم متوجهين إلى دير البلح. في 20 يناير 2024، استُهدف المكان المجاور لخيمتنا، فتطاير الركام والشظايا وانتشر الغبار والغازات السامة في الأجواء. كانت نور نائمة فاستنشقت هذه الغازات، وفقدت وعيها على الفور، نقلتها إلى مستشفى شهداء الأقصى، لكنها ظلت مغيبة عن الوعي يومين، وفي فجر 22 يناير، استشهدت طفلتي نور بسبب مشاكل حادة في الصدر والرئة جراء استنشاق الغازات السامة والانبعاثات الصاروخية. دفنت نور في دير البلح وعدت إلى الخيمة محطمة ومنهارة، لا أستطيع تصديق أنها لم تعد بين ذراعي. في 27 يناير 2025، تم السماح بعودة النازحين إلى شمال وادي غزة، لكنني رفضت العودة بدون طفلتي نور. أخبرت زوجي أنني لا أستطيع تركها خلفي، وأردت نقل جثمانها معي، لكنه أقنعني بأننا سنفعل ذلك لاحقًا. ولكن كيف أعود بدون نور؟ أشعر بالذنب، كان عليّ أن أحميها. عند عودتي إلى الشمال، تجدد حزني بشكل كبير، لم أكن سعيدة باللقاء، كان أهلي يتشوقون لرؤية نور، لكنني عدت بدونها، أشعر بالعجز، بالحزن، بالخذلان؛ ولكنى لا أملك وقت للحزن، فلدي مسؤوليات تجاه أطفالي وزوجي والتي ازدادت خلال الحرب بشكل لا يوصف، حيث نعيش في خيمة لا توجد بها أدنى الاحتياجات، وعليّ أن أوجد الحلول من العدم، كل ذلك يزيد العبء الجسدي والنفسي عليّ دون دعم، أبكي كلما رأيت طفلة صغيرة، وأتساءل: ما ذنب نور؟ كانت مجرد طفلة عمرها ثلاثة شهور.” 3
التوصيات:
تترك جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة آثارًا مدمرة تتجاوز لحظة ارتكاب الجرائم لتستمر لعقود، حيث لا يعني إعلان وقف إطلاق النار نهاية هذه الجريمة، بل سيظل تأثيرها المدمر ممتدًا في الأجساد والنفوس والمجتمع بأسره. ولم تكن هذه الآثار مجرد نتائج جانبية للهجوم العسكري الإسرائيلي، بل كانت هدفًا معلنًا لمحو سكان قطاع غزة وتدميرهم وتحويله إلى مكان لا يصلح للعيش. إن القتل والدمار الممنهج، الذي طال النساء بشكل مباشر وغير مباشر، لا ينتهي مع توقف القصف، بل يستمر ليترك آثارًا أعمق وأكثر قسوة. هذا الواقع يؤكد أن تحقيق العدالة والمساءلة هو ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل.
بناءً على ما سبق، يطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان: