حررت الإفادة بتاريخ: 16/9/2024
أنا تغريد العماوي، طبيبة في مستشفى كمال عدوان، أم لطفلتين “سوسن وإيلاف” وكنت على موعد لإستقبال طفلي الثالث في نهاية عام 2023. بدأت الحرب على قطاع غزة قبل ذلك الموعد المنتظر، وواصلت العمل حاملة رسالتي كطبيبة لإنقاذ الأرواح لمدة عشرين يوماً من تاريخ بدء الحرب، حتى لحظة ولادتي بتاريخ 27/10/2023
أسميت طفلي محمد؛ وفرحت برؤية ملامح وجهه رغم صغر حجمه، كون أنني أنجبته قبل موعد الولادة بشهرين حيث لم تكتمل رئتي طفلي ،الأمر الذي إستدعى وضعه في الحاضنة وإحتياجه لجهاز تنفس صناعي.
تمكنت من البقاء إلى جانب طفلي ليلة واحدة فقط، ثم إضطررت إلى مغادرة المشفى الذي بقي فيه طفلي لتلقي الرعاية اللازمة، وذلك نظراً لعدم تمكني من نقله إلى أي مشفى آخر بسبب الوضع الأمني وكثافة القصف الإسرائيلي بالأحزمة النارية على منطقة الكرامة؛ غادرت المستشفى بجسدي وبقي قلبي برفقة محمد.
أذكر ذهابي بشكل يومي إلى المستشفى حيث كان يتلقى محمد الرعاية، أراقب تقدمه وأتابع حالته الصحية، حاملة مشاعري التي تأرجحت بين القلق والأمل. ومع تفاقم حدة القصف، الذي طال أيضاُ منزلنا ودمره بالكامل، لجأت أنا وعائلتي إلى عيادتي الخاصة حيث وجدنا فيها ملاذًا مؤقتًا، ولم يثنيني االنزوح من الذهاب يومياً للإطمئنان على محمد.
في ظل الوضع الأمني الخطير، وشح الأدوية والمضادات الحيوية أصبح الخطر يحدق بحياة الأطفال الخدج جميعهم، ولا أخفيكم، شعرت بالعجز فأنا الأم وأنا الطبيبة. ولكنني لم أستسلم، بدأت رحلتي بالبحث عن حلول من خلال التواصل مع زملاء في المهنة من مختلف المناطق في القطاع ؛ حتى تمكنت في النهاية من الحصول على بعض المضادات الحيوية. لم تكن المهمة سهلة ولكن أملي بإنقاذ حياة هؤلاء الأطفال من بينهم “محمد” جعل منها إنجازاً كبيراً.
تفائلت كثيراً عندما إستقر وضع محمد وبدأ بالتحسن تدريجيًا، ورغم صعوبة وتعقيد الموقف، لم أفقد الأمل حتى تاريخ 13/11/2023؛ اليوم الذي نفذ فيه الوقود عن مستشفى كمال عدوان بسبب الحصار ومنع قوات الاحتلال الإسرائيلي إدخال الوقود، ما أدى إلى انقطاع الكهرباء بشكل كامل عن المشفى. وعلى ضوء هذا التطور الخطير، نٌقل طفلي إلى وحدة العناية المركزة التي كانت تعتمد على الطاقة الشمسية لتشغيل أجهزة التنفس الصناعي، ورغم الجهود المبذولة، إلا أن حالته تدهورت بشكل كبير.
كانت آخر فرصة لإنقاذ طفلي هي استخدام جرة الأكسجين الوحيدة التي كانت لدي في عيادتي الخاصة، وفي لحظة أمل، تمكنت من نقلها إلى المستشفى ليتمكن الأطباء من توفير التنفس الصناعي له لمدة أربع ساعات إضافية.
“ربنا يعوضكم خير” هكذا تلقيت خبر وفاة طفلي الذي بقي متمسكاً بالحياة حتى تاريخ 20/11/2023 ، لم أتمكن من إحتضان محمد لمرة أخيرة، ولن تتمكن أمهات الطفلان الآخران اللذان تواجدا في الحاضنة أيضاً من وداع أبنائهن، فقد نفذ الأكسجين وتوقفت قلوب أطفالنا في ذلك اليوم.
ودّعت طفلي بقلب مثقل، فأنا لم أفقد طفلي فقط، بل فقدت حقي بدفنه، ، حيث أُجبر زوجي على دفنه في ساحة مستشفى كمال عدوان، في وداع مؤلم ترك في قلبي جرحًا لا يلتئم.
لم تقف مأساة عائلتي عند وفاة طفلي محمد، بل إستمرت في ظل حالة النزوح المستمرة والتي كان آخرها إلى مدرسة ذكور جباليا الإعدادية. هنا، انتقلنا إلى أحد الفصول الدراسية إلى جانب عدد كبير من المواطنين، الأمر الذي دفعني لإحياء الأمل في نفسي حيث إتخذت قرار تقديم خدمات طبية للنازحين ورغم صعوبة الواقع وتعرضي أنا وزميلي الممرض غسان العماوي للإختناق عدة مرات بسبب قنابل الغاز، بالإضافة إلى إصابتي بشظية في ظهري، إلا أننا واصلنا العمل تجسدياً لروح التضامن والأمل التي نحتاجها في وقت الأزمات.
تمكن زوجي من نقل جثمان طفلي “محمد” ودفنه، ولكنني لم أستطع حتى هذه الحظة من زيارته،وها أنا أنتظر نهاية هذه الحرب الشرسة بفارغ الصبر لأقدم لطفلي وداع يليق بجمال روحه البريئة.
رسالتي إلى العالم:
إلى كل من لديه القدرة على المساعدة، نحن في قطاع غزة نواجه حرب إبادة قاسية تستهدف أرواح الأطفال والنساء. نناشدكم أن تتحركوا فوراً لوقف هذه الحرب البشعة والضغط على أصحاب القرار لإنهاء هذا الدمار وتحقيق سلام عادل يحمي أرواح الأبرياء.