ينظر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بخطورة بالغة إلى الإجراءات والسياسيات التي انتهجتها قوات الاحتلال لمحاولة تغيير الواقع الديمغرافي في محافظة الخليل، جنوب الضفة الغربية المحتلة، وتكريس الاستيطان بإقامة المزيد من البؤر الاستيطانية وفرض المزيد من الوقائع الجديدة في المنطقة، بالتزامن مع استمرار هجومها العسكري على قطاع غزة منذ 15 شهرًا.
وتظهر متابعة باحثو المركز أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي كثفت، في الأسابيع الأخيرة، سياسة هدم المنازل الفلسطينية في محافظة الخليل، في وقت شهدت فيه المحافظة هجمة متزايدة خلال العام 2024 على صعيد مصادرة الأراضي، والتوسع الاستيطاني، وانتشار البؤر الاستيطانية (الرعوية والزراعية) وإغلاق المناطق الواقعة ضمن تصنيف (H2) في قلب المدينة القديمة من الخليل. وبينما نفذت سلطات الاحتلال 175 عملية هدم طالت عشرات المنازل والمنشآت المدنية المختلفة في المحافظة، خلال عام 2024، وفقًا لتوثيق المركز، فإنها أعطت الضوء الأخضر للمزيد من التوسع الاستيطاني وفرض وقائع جديدة بأشكال مختلفة.
البؤر الاستيطانية
تظهر متابعة باحثي المركز أن المستوطنين أقاموا 14 بؤرة استيطانية1 جديدة في المناطق المصنفة (سي) في محافظة الخليل خلال عام 2024، ليرتفع عدد هذه البؤر في المحافظة إلى 47 بؤرة استيطانية، منها 14 بؤرة أقيمت منذ عام 2020 إلى ما قبل عام 2024 و19 قبل عام 2006.
وتنوعت البؤر الجديدة بين بؤر رعوية وضع فيها مستوطنون بركسات لتربية المواشي والتي ساهمت بتدمير الكثير من محاصيل المواطنين (القمح والشعير)، ومنها بؤر زراعية، أقدم مستوطنون على زراعتها ومن ضمن ذلك زراعة حقول العنب، حسب مشاهدات باحثي المركز.
وتبدأ البؤر الاستيطانية، بقيام مستوطنين بوضع خيام أو كرفانات وحظائر مواشي، ثم يوسعون انتشارهم في المنطقة على حساب الأراضي الفلسطينية، وينطلقون منها لتنفيذ الاعتداءات ضد المواطنين ومنازلهم وممتلكاتهم، وفي خطوة أخيرة يسعون إلى شرعنتها بقرارات من الحكومة الإسرائيلية، وبعضها يحول إلى مستوطنات لاحقا.
ومن أكثر المناطق التي سيطر عليها المستوطنين خلال العام الماضي، هي منطقة خلة طه، جنوب مدينة دورا، جنوب غربي محافظة الخليل، حيث سيطر المستوطنون على مساحات واسعة من أراضي المواطنين الجبلية وأقاموا كرافات متنقلة لهم وزرعوا نحو 400 دونم بأشتال العنب، وشقوا طريقًا بطول 1.5 كيلو وجرى تعبيده. وفي هذه المنطقة هدمت سلطات الاحتلال المساكن الفلسطينية ومنعت المواطنين من الوصول إلى أراضيهم.
وفي هذا الصدد، أفاد المواطن عزات عودة، لباحث المركز:
“أسكن في قرية خربة سلامة، جنوب غربي مدينة دورا، وأملك مع أشقائي أرضًا زراعية في محيط القرية، وفي مناطق خلة طه. في تلك المنطقة أقام مستوطنون بؤرة استيطانية لهم قبل نحو عامين وأضافوا كرفانات حديدية خلال عام 2024. كما استولى مستوطنون على جزء من منطقة خلة طه ومنطقة أم حذورة المتاخمة لها، وأقاموا كرافات حديدية وزرعوا ثلاثة حقول بمساحات كبيرة بالعنب، ومنعوا المواطنين من الوصول إلى أراضيهم. بالقرب من القرية توجد مستوطنة “نيجوهوت”، التي أقيمت في نهاية الثمانينات على إحدى الجبال القريبة من القريبة وكذلك على جزء من أراضي قرية فقيقيس القرية المجاورة لنا.”
التوسع الاستيطاني
ووفق توثيق المركز، شهدت الخليل خلال عام 2024، إعلان سلطات الاحتلال وضع اليد على 385 دونما من أراضي المدينة، بغرض توسعة الطريق الالتفافي 60. وجاء في قرار وضع اليد: أمر بشأن استملاك وأخذ حق التصرف – تسوية شارع 60) وبذلك تم مصادرة هذه الأراضي المزروعة بالأشجار لمصلحة خدمة تحرك المستوطنين إلى مدينة الخليل وصولا إلى مدينة بيت لحم، علمًا أن النسبة الكبيرة من تلك الأراضي مزروعة بأشجار العنب التي تعد مصدرًا رئيسيا للاقتصاد الزراعي في المدينة.
ومن أبرز ما وثق المركز من إجراءات استيطانية حديث في المنطقة ما يلي:
بداية أكتوبر 2024: صادق المجلس الأعلى للتخطيط والبناء في (الإدارة المدنية) التابعة لسلطات الاحتلال على شرعنة البؤرة الاستيطانية (متسبيه لخيش / جفعات هبستان) المقامة على أراضي مواطني مدينة دورا، جنوب غرب الخليل. ونشر مجلس التخطيط الأعلى المخطط التنظيمي التفصيلي الذي يحمل الرقم (521/1/ب) ويستهدف شرعنة البؤرة الاستيطانية وضمها لمستوطنة ( نيجهوت ) المقامة على أراضي المواطنين، وبلغت مساحة المخطط الجديد ( 520 دونما).
وحسب المخطط المنشور، فإن سلطات الاحتلال ستعمل على ربط البؤرة الاستيطانية بالمستوطنة القائمة واعتبارها حياً من أحيائها، كبديل عن إقامة مستوطنات جديدة، وبناء (158) وحدة استيطانية جديدة فيها، حيث ستخلق جسما استيطانيا ضخما في المنطقة، تتمدد على مساحة حوالي (811 دونماً) هي الأراضي المقامة عليها مستوطنة (نيجهوت والبؤرة الاستيطانية متسبي لخيش- جفعات هبستان).
يذكر أن البؤرة الاستيطانية ( متسبيه لخيش- جفعات هبستان) أقيمت في العام 2001، وكان شكل المباني من ألواح الصفيح والمنازل المتنقلة (الكرفانات الحديدية)، وستحاصر المستوطنة الجديدة قرية فقيقيس المجاورة لها وهي احدى القرى الفلسطينية التي سيتم مصادرة جزء من أراضيها لمصلحة البناء الجديد.
ويؤشر ما تفعله سلطات الاحتلال إلى سعيها لإقامة أكبر تجمع استيطاني جنوب مدينة دورا، يفصل المدينة عن قراها الغربية بالكامل، ويمتد إلى المنطقة الواصلة إلى مستوطنة لخيش خلف جدار الضم والتوسع المقام غربي المدينة.
منتصف إبريل 2024: أعلنت سلطات الاحتلال عن طرح مخطط لتوسعة مستوطنة “تيلم” المقامة على أراضي بلدة ترقوميا المصادرة، غربي مدينة الخليل، ومساحتها (144 دونما) من أراضي البلدة. فقد أعلنت (الإدارة المدنية – اللجنة الفرعية للاستيطان)، بتاريخ 15/4/2024، عن إيداع المخطط التفصيلي رقم (501/1/1).
ووفق توثيق المركز، واكب عملية توسيع المستوطنة، شن سلطات الاحتلال عملية هدم لعرائش المواطنين ومنعهم من دخول أراضيهم في منطقة (الهردش والطيبة) المقابلة للمستوطنة المذكورة، إلى جانب تنفيذ المستوطنين هجمات على المزارعين الفلسطينيين هناك.
مصادرة الأراضي تحت مسمى “أراضي دولة معلنة”:
في ظل التوسع الاستيطاني، لا تتوقف سلطات الاحتلال عن مساعيها لمساعدة المستوطنين في الانتشار في المناطق المصنفة (سي) والقريبة من التجمعات الفلسطينية من خلال الإعلان عن الكثير من الأراضي الصخرية على أنها أراضي دولة مصادرة. وكانت معظم البؤر التي أقيمت في المحافظة على أراضي صادرتها سلطات الاحتلال تحت المسمى نفسه، حيث يستغل المستوطنون تلك الأراضي للتوسع الاستيطاني وأقاموا منشآت رعوية وزراعية لهم فيها. وكان آخر تلك الإعلانات ما حدث في قرية دير رازح، جنوب شرقي مدينة دورا، جنوب الخليل، حيث أقدمت مجموعة من المستوطنين على الاستيلاء على منطقة جبلية في محيط القرية، وشرعوا في 5 ديسمبر 2024 وعلى مدار عدة أيام بأعمال حفريات وشق طريق زراعية في أراضي المواطنين الخاصة ومنعوا السكان من الوصول إلى أراضيهم. ونفذ المستوطنون اعتداءات على المزارعين الفلسطينيين في أول يوم من دخولهم الأرض.
ويبلغ عدد سكان القرية نحو 400 مواطن فلسطيني، جميعهم يعتاشون على الزراعة وتربية المواشي، والمنطقة التي استولى عليها المستوطنون هي المتنفس الوحيد لهم.
وأفاد المواطن أنور عمر لباحث المركز:
حوالي الساعة الرابعة مساء 15/12/2024، وصلت جرافة وحفار جنزير للمستوطنين، إلى منطقة جبل دير رازح، ومن ثم عادت إلى الطريق التي كانت موصلة إلى منطقة بسم ودير رازح بالطريق الالتفافي مقابل مدخل قرية عبدة، وشرعت بفتح الطريق وتعبيده بالبسكورس. توجهت إلى هناك في صباح اليوم التالي ووجدت بئر مياه مخربًا وبه كتل إسمنتية، ووصل أحد الجنود إلى مكاني في الأرض، وأبلغته أن هذه أرضي وأعتاش منها، فقال لي إن هذه أرض حكومية، وأبلغني أنه ممنوع على السكان الوصول إليها. توجهت في اليوم نفسه إلى مركز الشرطة الإسرائيلية وتقدمت بشكوى حول ما حصل، وسلمت الصور للمحقق حول ما حدث من اعتداء المستوطنين هناك. بتاريخ 21/12/2024، توجه نجلي عمرو إلى الأرض وحضر أحد المستوطنين هناك، وأشهر عليه السلاح وطلب منه المغادرة وقال له هذه الأرض لي وممنوع عليك الدخول أو العودة إلى هنا. وفي 22/12/2024، أغلق المستوطن الطريق الموصلة إلى قرى بسم وابو زناح التي تمر بالقرب من أرضي بأكوام من الأتربة. الآن أصبح غير ممكن نقل الماء من البئر المخرب إلى منزلي، حيث كان البئر يستخدم لجمع الماء من أجل الزراعة والاستخدام في المنزل، ولسقاية الأغنام، وحتى المضخة التي كانت على البئر جرى سرقتها من المستوطن.”
وتسببت المستوطنات الإسرائيلية في الخليل بعزل آلاف الدونمات خلفها وفي محيطها، ومنعت التوسع الفلسطيني في البناء والزراعة في تلك الأراضي بما فيها تلك التي أقيمت عليها المستوطنات والبؤر الاستيطانية طوال السنوات الماضية وكان آخرها خلال الهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة.
ويقدر عدد سكان محافظة الخليل بنحو 842 ألف نسمة حتى 2024 وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني2، في حين يقدر عدد المستوطنين بنحو 23326 يقيمون في 21 مستوطنة و47 بؤرة استيطانية.
وأقدم المستوطنون من خلال هجماتهم على تهجير 450 موطنًا قسرًا، موزعين على 10 تجمعات، في الخليل، واستولوا على أراضيهم وزرعوا بعضها، حيث تدلل إجراءات الاحتلال على سعيه لتغيير الواقع الديمغرافي في العديد من أحياء المحافظة لمصلحة المستوطنين. كما أن المشهد في مركز مدينة الخليل لا يقل صعوبة، حيث يوجد المستوطنون في قلب المدينة القديمة، والتي أجبر العديد من سكانها على المغادرة بسبب سياسة الإغلاق المستمرة، وإجراءات الاحتلال الأمنية المشددة على الفلسطينيين، بحجة توفير الأمن للمستوطنين.
يدين المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان سياسة الأمر الواقع التي يفرضها الاحتلال من خلال التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي وهدم المنازل الفلسطينية، وتهجير السكان الفلسطينيين، وهو ما يشكل جريمة حرب وفق قواعد القانون الدولي.يطالب المركز المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته لوقف جرائم الاحتلال الإسرائيلي بما فيها جرائم الاستيطان والتطهير العرقي، وإلزام دولة الاحتلال الحربي الإسرائيلي بالتراجع عن سياسة قضم الأرض الفلسطينية وفرض أمر واقع يحرم المدن الفلسطينية من التواصل الجغرافي ويحيلها إلى كانتونات محاصرة بالمستوطنات ونقاط السيطرة الإسرائيلية. كما يدعو المركز المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من أجل إصدار أوامر اعتقال جديدة لكل من هم ضالعون في جرائم الاستيطان من القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين.