إسرائيل تفرض عمداً ظروفاً معيشية تهدف إلى احداث تدمير مادي لسكان قطاع غزة
“تسرب مياه الصرف الصحي وتراكم النفايات الصلبة تهددان الصحة العامة للسكان”
تحذر مؤسسات حقوق الانسان الفلسطينية من تراكم أطنان النفايات وتسرب مياه الصرف الصحي في الشوارع، ومراكز إيواء النازحين في قطاع غزة، وتداعيات ذلك على الصحة العامة للسكان. وتوجه مؤسساتنا نداءً عاجلاً بتمكين الجهات المختصة من تقديم خدماتها وتفعيل شبكات المياه والصرف الصحي، والسماح بجمع النفايات ونقلها إلى المكبات، وذلك تماشياً مع التدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية، ومنع وقوع أضرار لا يمكن إصلاحها.
وتوكد مؤسساتنا أن إسرائيل تصر في هجومها العسكري على قطاع غزة اتباع نهج يحرم الفلسطينيين عمداً من “الأشياء التي لا غنى عنها لبقاء الإنسان”. فبالإضافة إلى استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، فإن هذا الحرمان، بما في ذلك من الغذاء والخدمات الطبية والخدمات الأساسية، أدى إلى خلق مكرهة صحية وبيئية ناتجة عن شح وتلوث المياه وتوقف محطات معالجة مياه الصرف الصحي، وتكدس أطنان من النفايات، ويمكن أن يشكل ذلك بموجب القانون الدولي فرضاً متعمداً لظروف معيشية تهدف إلى إحداث التدمير المادي لمجموعة محمية، كليًا أو جزئيًا، وبالتالي يشكل عملاً من أعمال الإبادة الجماعية.
وترى مؤسساتنا أن تمادي إسرائيل في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق السكان في غزة، وتنصلها عن الالتزام بما أقرته محكمة العدل الدولية، وقرارات مجلس الأمن الدولي الداعية لوقف اطلاق النار، هو ترجمة فعلية لتصريحات قادة الاحتلال الإسرائيلي المتكررة بفرض حصار كامل على قطاع غزة ومنع ادخال الوقود وقطع امدادات الماء والكهرباء، معتبرين الفلسطينيين حيوانات بشرية، نازعين عنهم صفة الآدمية. وهو تحدي علني للمجتمع الدولي العاجز عن القيام بدوره في إلزام القوة القائمة بالاحتلال (إسرائيل)، عن الوفاء بالتزاماتها القانونية وحماية السكان المدنيين والأعيان المدنية في الإقليم المحتل.
ووفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فمنذ بدء هجومها العسكري، دمرت إسرائيل بشكل شامل البنية التحتية وأوقفت ضح الوقود إلى القطاع، وتعطلت جميع محطات وأنظمة معالجة المياه العادمة، والتي تشمل ست محطات، وتوقفت حوالي 65 مضخة للصرف الصحي، وتدمر نحو 70 كم من شبكات الصرف الصحي. ونتيجة لذلك، يتم التخلص من مياه الصرف الصحي، والتي تقدر بحوالي 130,000 متر مكعب يومياً، دون معالجة، إما الى البحر أو في وادي غزة، بينما يتسرب جزء كبير منها الى الشوارع والطرقات، وأحياناً داخل المنازل بسبب تدمير أنابيب الصرف الصحي أو انسدادها. كما تشكلت برك في ساحات مراكز الايواء وأمام خيم النازحين، ما وفر بيئة خصبة لانتشار الأوبئة والأمراض.
وأدى نفاد الوقود وتضرر سيارات جمع النفايات وحاوياتها، ومنع قوات الاحتلال طواقم البلدية من الوصول للمكبات الرئيسة في القطاع، وتدمير الشوارع الذي أوقف حركة النقل، إلى تراكم كميات كبيرة من النفايات الصلبة، وهو ما جعل التعامل مع هذه الكميات الهائلة صعباً، فضلاً عن غياب إمكانات التخلص منها، حيث تم تدمير حوالي 100 مركبة وآلية لجمع ودفن النفايات. كما تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن ما لا يقل عن 270,000 طن من النفايات (بواقع 170,000 طن في الجنوب، و100,000 طن في الشمال) قد تراكمت في مواقع المكبات المؤقتة التي أنشأتها البلديات مؤخراً على مقربة من المناطق السكنية بسبب عدم وجود خيارات قابلة للتنفيذ، حيث لا تجد هذه النفايات طريقاً الى مكبات النفايات الصحية.
وفي مقابلة أجراها باحثونا مع المدير التنفيذي لمجلس الخدمات المشترك لإدارة النفايات الصلبة، في محافظات خانيونس، رفح، والوسطى، المهندس طارق الهباش، أفاد أنه منذ بداية الهجوم العسكري الاسرائيلي في قطاع غزة، توقف العمل في (مكب الفخاري)، وهو مكب النفايات الرئيسي والوحيد لمحافظات وسط وجنوب قطاع غزة، ويقع شرق محافظة خانيونس، في المناطق مقيدة الوصول، ولا يوجد أي تنسيق يسمح للطواقم العاملة بترحيل القمامة إليه.
وأوضح أن نحو 39 نقطة تجمع عشوائية للنفايات نشأت في مناطق جنوب وادي غزة، وتم التعامل معها في البداية على أنها بعيدة عن تجمعات السكان، ولكن الأوضاع الأمنية الخطرة، وأوامر النزوح الاسرائيلية المتكررة، والحركة الديناميكية للسكان، جعلت من الصعوبة تحديد أماكن بعيدة عن تواجدهم، فبعض الأماكن التي أنشأت لجمع النفايات على أساس أنها بعيدة عن تواجد السكان، أصبحت تقع داخل النطاق السكاني، ويتواجد بجانبها مخيمات إيواء للنازحين.
وأضاف المهندس طارق، يتولد نحو 1,400 طن يومياً من النفايات الصلبة في محافظات خانيونس، رفح، والوسطى، وما يتم جمعه وترحيله بشكل يومي يشكل نحو 850 طن فقط، وهنا تبرز فجوة تقدر ب نحو 500 طن من النفايات الصلبة التي تترك وتتراكم في الشوارع، وتهدد الصحة العامة للسكان.
وفي حديثه عن أهم العوائق التي ساهمت في تراكم النفايات وصعوبة جمعها وترحيلها، أشار إلى أن استمرار العدوان وتدمير البنى التحتية والمرافق الأساسية اللازمة لإدارة قطاع النفايات الصلبة، إضافة إلى اغلاق المعابر ومنع دخول الوقود، واعاقة ادخال الحاويات والآليات وقطع الغيار، هي عوامل فاقمت من تصاعد الكارثة البيئية. كما أدى غياب الدعم المباشر للبلديات إلى عجزها عن تقديم خدماتها، والتي تشكل عنصراً أساسياً في دعم ومساعدة إدارة هذه النفايات، فضلاً عن ضغط السكان وتكدسهم، حيث يقدر أن هناك نحو 1,800,000 مواطن متواجدون في مناطق جنوب وادي غزة. كما لا تتوفر لدى المجلس المشترك لإدارة النفايات الصلبة آليات كافية للعمل على تأهيل النقاط العشوائية المنتشرة، أو آليات لمعالجة للحشرات والقوارض الناشئة عن انتشار وتراكم النفايات.
وقد صرحت مسؤولة الاتصالات في الأونروا لويس باتريدج أن أكواماً من القمامة المتعفنة تتراكم بالقرب من أماكن إيواء النازحين في قطاع غزة، وهو ما يثير مخاوف من انتشار المزيد من الأمراض. وذكرت أن إسرائيل رفضت طلبات متكررة للسماح للأونروا بتفريغ الأماكن الرئيسية لجمع النفايات، وهو ما يعني ظهور مواقع مؤقتة. وتابعت أنه، حتى لو وافقت إسرائيل على هذه الطلبات الآن، فإن المهام الإنسانية للأونروا مثل جمع القمامة توقفت بسبب رفض إسرائيل السماح باستيراد الوقود.
وقد صرح المهندس عاصم النبيه عضو لجنة طوارئ بلدية غزة، لباحثينا: أن ما يزيد عن 100 ألف طن من النفايات تتكدس في شوارع المدينة ويتضاعف هذا الرقم ليصل نحو 300 ألف طن في مختلف مناطق ومدن قطاع غزة، مما يفاقم الأوضاع الصحية والبيئية الكارثية التي تعيشها المدينة. وأوضح النبيه أن عدم التخلص من النفايات وترحيلها بشكل صحي وسليم يهدد باتساع انتشار الأمراض والأوبئة ويزيد من المخاطر الصحية، كما أن ارتفاع درجات الحرارة يؤثر على النفايات ويتسبب في تسرب عصارة سامة قد تتسرب للخزان الجوفي وتؤدي لتسمم وتلوث المياه الجوفية. وطالب المهندس عاصم السماح بإدخال الوقود والآليات اللازمة لعملية جمع وترحيل النفايات، ونقلها إلى المكب الرئيس في منطقة جحر الديك.
وأعلنت بلديات المحافظة الوسطى، عجزها عن تقديم أبسط الخدمات، في ظل النقص الحاد في المياه وتكدس النفايات في الشوارع والطرقات ومراكز الإيواء وتجميع برك المياه العادمة وهشاشة المنظومة الصحية. وتعاني بلديات هذا الشريط الضيق الواقع غربي محافظتي خانيونس والوسطى، غير المؤهل لاستيعاب نحو 2 مليون نازح/ة في مساحة لا تتجاوز 50 كم2، من عجز وافتقار لأبسط الإمكانيات والمقدرات وهشاشة في البنية التحتية وتهالك الآليات نتيجة تدمير قوات الاحتلال لكثير من مقرات البلديات وخطوط المياه والصرف الصحي والمقرات الإدارية ومخازن الطوارئ، وإغلاق المعابر ومنع تدفق المساعدات الانسانية.
وأفاد المهندس علي الهباش، مدير دائرة الصحة والبيئة في بلدية النصيرات، لباحثينا، بما يلي: “تكدست أطنان من النفايات في مكبات عشوائية بالقرب من مراكز إيواء النازحين، وانتشرت الحشرات، وتكاثرت القوارض والفئران، وتصاعد الدخان والروائح الكريهة نتيجة حرق أكوام النفايات، وهذا بدوره خلق بيئية غير صحية، ساهمت في انتشار الأمراض والأوبئة. نطالب السماح بإدخال الوقود، وقطع غيار آليات جمع النفايات، وتسهيل الوصول إلى المكب الرئيسي شرق خانيونس”.
ومع قدوم فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، يتفاقم تأثير تراكم النفايات، فقد انتشرت الحشرات والقوارض، وزادت مخاطر الأمراض والتهديدات الصحية، فتحلُّل هذه النفايات يطلق غازات ضارة، كالميثان وثاني أكسيد الكربون، وهو ما يلوث الهواء ويسبب روائح كريهة وانتشار الأمراض المعدية بين آلاف المواطنين، لاسيما الكبد الوبائي والأمراض الجلدية، إضافة إلى ما يسببه من تلوث للأراضي الزراعية وطبقة المياه الجوفية، حيث تتسرب الملوثات إلى التربة. ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فعبث الأطفال بالنفايات المتراكمة ينقل العديد من الأمراض الخطِرة إليهم. وقد سُجلت حالات متعددة لمشكلات في التنفس في هذه المناطق، وخصوصاً بين الأطفال وكبار السن.
وأعلنت وزارة الصحة في غزة بتاريخ 29 يونيو/حزيران 2024، أن المستشفيات تعاملت مع أكثر من 10,000 حالة إصابة بالتهاب الكبد الوبائي “أ”، و880.000 حالة من أمراض الجهاز التنفسي، إضافة إلى تفشي الإسهال والتهابات الجلد وتفشي القمل. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن معدلات الإصابة بالإسهال أعلى بمقدار 25 مرة مما كانت عليه قبل العدوان. ويخشى الأطباء في غزة من احتمال ظهور وباء الكوليرا في الأفق. وصرحت جوان بيري، وهي طبيبة تعمل في جنوب غزة مع منظمة أطباء بلا حدود “إن ظروف الازدحام، ونقص المياه، والحرارة، وسوء الصرف الصحي، هي الشروط المسبقة لانتشار الكوليرا”.
ووفقا لمتابعة باحثينا، يشتكي سكان القطاع من انتشار الروائح الكريهة والنفايات الصلبة وتسرب مياه الصرف الصحي في كل مكان من قطاع غزة، ويطالبون بإنقاذهم من هذه المكرهة الصحية والبيئية، ورفع النفايات، أو نقلهم إلى أماكن تتوافر بها أدنى مقومات الحياة الكريمة. أفاد المسن محمد سليمان أبو هداف، 65 عاماً، نازح من شرق مدينة رفح إلى المناطق الغربية لمدينة خانيونس، لباحثينا ما يلي:
“نعيش في مكرهة صحية، والقمامة تنتشر في كل مكان، وتنبعث منها روائح كريهة ونتنة ناتجة عن تحلل هذه النفايات، وتحلل جيف الحيوانات الميتة. نحن غير قادرين على تنفس هواء صحي، وأطفالنا يلهون في القمامة ويلعبون داخل تجمعات مياه الصرف الصحي المنتشرة في الشوارع ومراكز الايواء. الحشرات والذباب والبعوض منتشر في كل مكان وينقل الأمراض إلينا، وأطفالنا يعانون من الإسهال والتهابات في الجهاز التنفسي. نحن نموت ببطء”.
كما تنتشر النفايات الطبية الخطرة داخل المستشفيات وفي المكبات العشوائية، وتعرض صحة وسلامة الأهالي للخطر، بسبب انتقال الأمراض المعدية عبر الإبر والمستهلكات الطبية الملوثة. ويعتبر العاملين الصحيين والنازحين داخل المستشفيات، إضافة إلى من يلجأ إلى المستشفيات للعلاج الصحي في خطر إضافي بسبب النفايات الطبية. ومع وجود تحديات أمام إدارة النفايات الطبية والتعامل معها، وعدم توفُر الأكياس الصفراء للنفايات الطبية الخطِرة غير الحادة في ظل الطوارئ، يتم إلقاء هذه النفايات، الخطِرة منها والعادية والمنزلية، في مكان واحد، الأمر الذي يُفاقم المشكلة ويزيد من مخاطرها.
تؤكد مؤسساتنا أن الظروف المعيشية والصحية القاسية التي فرضتها إسرائيل عمداً على سكان قطاع غزة، تهدف بالدرجة الأولى إلى تدميرهم كلياً أو جزئياً، وإلحاق أذى نفسي وجسدي شديد بهم، وتعزز فقدانهم الأمل بإمكانية العيش داخل قطاع غزة، بعد الدمار المهول الذي تسببت به القوات المحتلة، منتهكة كافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية وخاصة اتفاقيات جنيف الأربعة وملاحقها، وميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. كما هي نتيجة حتمية لاستمرار سياسة الإفلات من العقاب والحصانة التي توفرها بعض دول العالم الغربي المتواطئة في الانتهاكات الخطيرة بحق الشعب الفلسطيني من خلال تزويدها قوات الاحتلال بالسلاح والذخائر إلى جانب الدعم السياسي. وفي ضوء ما سبق فإن مؤسسات حقوق الانسان الفلسطينية، المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، مركز الميزان لحقوق الانسان، ومؤسسة الحق، تطالب بما يلي:
نسخة تجريبية