تاريخ الإفادة: 21 يناير 2025.
المكان: مخيم للنازحين في حي النصر، مدينة غزة.
أنا سجى كريم حسين عبد ربه، 24 عامًا، آنسة، خريجة تصميم ومونتاج، وأسكن في مشروع بيت لاهيا (شارع المقبرة). كان منزلي قد تعرّض للقصف بالكامل، مما اضطرني للنزوح عدة مرات حتى استقريت مع عائلتي في مركز إيواء بمدرسة حفصة، مقابل بركة أبو راشد، في مخيم جباليا، بعد رحلة نزوح قاسية.
في 5 أكتوبر 2024، بدأت قوات الاحتلال الإسرائيلي اجتياحًا بريًا لمنطقة جباليا، وفي ذلك الوقت حوصرنا داخل المدرسة ولم نتمكن من الخروج. وبعد ثلاثة أيام، في 8 أكتوبر، بدأت الطائرات المروحية بإلقاء قنابل صوتية في ساحة المدرسة ومحيطها، حيث كانت تُطلق يوميًا أكثر من 20 قنبلة، مما أثار حالة من الخوف والرعب بيننا. في الليل، كان الاحتلال يفجّر المنازل المحيطة بالمدرسة باستخدام الروبوتات، ما أدى إلى تطاير الشظايا والركام داخل المدرسة، متسببًا في إصابة العديد من الأشخاص واستشهاد آخرين. وقد تم تخصيص نقطة طبية داخل المدرسة لتقديم الإسعافات الأولية، كما كان يتم دفن الشهداء في ساحة المدرسة بسبب استحالة إخراجهم.
كانت الطائرات المروحية تطلق النار علينا باستمرار، خصوصًا خلال الليل. وخلال فترة الحصار، لم يكن لدينا سوى بعض المعلبات والمعكرونة، وكنا نضطر لإشعال النار داخل الصفوف خشية أن يتم استهدافنا عند إشعالها في الخارج. أما المياه، فكنا نحصل بصعوبة على المياه المالحة من بئر المدرسة، حيث كان من يحاول تعبئتها معرّضًا للاستهداف. وأثناء محاولته جلب الماء، أصيب أخي حمزة كريم حسين عبد ربه بشظايا نتيجة استهداف الاحتلال للبئر. لم تتوفر لدينا المياه الصالحة للشرب، فاضطررنا إلى شرب المياه المالحة للبقاء على قيد الحياة.
في 20 أكتوبر 2024، كان اليوم الأكثر رعبًا في حياتي. لم تتوقف القذائف عن السقوط، واستمرت الطائرات المُسيّرة بإطلاق النار، فيما تفجّر الروبوتات المباني من حولنا، والدبابات تتقدم باتجاهنا عند عيادة وكالة الغوث في معسكر جباليا. كنا نختبئ داخل المدرسة، لكنهم استهدفوا الصفوف التي كنا فيها بشكل مباشر، مما حول المكان إلى جحيم حقيقي.
في صباح اليوم التالي،21 أكتوبر 2024، وفي تمام الساعة السابعة، هبطت طائرة مسيّرة إلى ساحة المدرسة، وأمرنا الجنود الاحتلال بالإخلاء عبر ما وصفوه بـ “الممر الآمن”، الذي يمر عبر الحاجز عند عيادة المعسكر باتجاه جباليا البلد، ثم غزة. كنا قد اتفقنا على الخروج في مجموعات، لكن قبل أن نتمكن من المغادرة، استهدفت الطائرات ثلاث خيام في ساحة المدرسة، مما أسفر عن استشهاد 15 شخصًا، بينهم أطفال ونساء، وإصابة أكثر من 30 آخرين، معظمهم تعرضوا للبتر. كنت داخل الصف أستعد للخروج عندما أصابتني شظية في صدري. قوة الانفجار قذفتني لمسافة مترين، لكنني لم أدرك إصابتي على الفور حتى لمست صدري ووجدت يدي مغطاة بالدم. خرجت إلى الممر، فوجدته مليئًا بالجثث والأشلاء، وكان عبارة عن بركة من الدماء. لم يكن أمامي خيار سوى السير فوقها حتى أمسكت بي أمي، لكنني فقدت الوعي عدة مرات. كانت تحاول إفاقتي برش الماء على وجهي، وبين لحظات الوعي والإغماء، كنت مقتنعة أنني لن أنجو، فبدأت أودّع أهلي.
لم تكن هناك أي وسيلة إسعاف أو حتى عربة لنقلي. حملني والداي وأخرجاني من المدرسة، ثم قررا الذهاب بي إلى مستشفى كمال عدوان، لكن قوات الاحتلال استهدفت الطريق بطائرة مُسيّرة، فأجبرنا ذلك على تغيير مسارنا والسير عبر الطريق الذي حددوه لنا. كانت الطائرة تحلق فوق رؤوسنا، وتصدر أوامر بمواصلة السير، مهددة بإطلاق النار على أي شخص يخالف التعليمات، بينما كانت تطلق النار في الهواء لإرهابنا.
عند وصولنا إلى محطة تمراز في معسكر جباليا، وجدنا المكان محاطًا بأكثر من 100 جندي، و30 دبابة، وجرافات عسكرية. فصلوا الرجال عن النساء، فيما عاد والدي للبحث عن جدتي التي تبلغ من العمر 80 عامًا بعد أن فقدناها وسط الزحام. عندما عاد، أبلغهم أنني مصابة وأنني بحاجة إلى دخول المستشفى بسرعة، لكن الجنود رفضوا واحتجزوه في صف الرجال، بينما أخذوني بعيدًا. كنت خائفة جدًا، خاصة عندما اقترب مني أربعة جنود وبدأوا باستجوابي حول إصابتي، بسؤالي: “أين أصبتِ؟ من فعل بكِ هذا؟” فأجبتهم: “كنت نازحة في المدرسة، وأنتم استهدفتموها، وهذه إصابتكم أنتم”. فردّ أحدهم: “لا، ليس نحن، حماس هي من فعلت هذا بكِ”. ثم قالوا إنهم سينقلونني داخل الدبابة، وكانت الساعة التاسعة والنصف صباحًا. ما رأيته هناك زاد من خوفي—كانت مليئة بالأسلحة والمتفجرات والشاشات.
جاء طبيب لفحصي، لكنه كان جنديًا مسلحًا بزي طبي وليس طبيبًا حقيقيًا يتحدث العبرية، ومعه جندي آخر يترجم. رفضت أن يعاينني إلا بوجود والدي. فسمحوا له بالدخول. كان داخل الدبابة ثلاثة جنود، وعند بدء الفحص، أخرجوا والدي. كشفوا عن إصابتي في الصدر ومسحوا الدم، ثم أجبروني على خلع بنطالي لفحص جرح الفخذ. فجأة، لاحظت جنديًا يحمل هاتف آيفون ويوجه الكاميرا نحوي، يصورني أثناء الفحص، مستغلًا إصابتي وضعفي. كنت الوحيدة بين المصابين التي تم فحصها بهذه الطريقة، وشعرت بالإهانة والخوف الشديد. أدركت ان الغرض من هذا الفعل مجرد تمثيل أمام الإعلام الكاذب، ليظهروا بصورة إنسانية مزيفة.
النزيف لم يتوقف، لكنني كنت في حالة خوف شديد، فلم تكن لدي أي ردة فعل. بقيت داخل الدبابة حتى الساعة الحادية عشر صباحًا، ثم أعطوني الماء لأغسل وجهي. بعد أن أنهوا تصويري، رموني خارج الدبابة وقالوا لوالدي: “خُذها وتصرّف فيها.” وكأنني مجرد شيء لا قيمة له. لم يكن هناك إسعاف، ولا وسيلة لنقلي. تركت والدتي وأخواتي وبنات أختي عند الحاجز دون أن أعرف مصيرهن، ثم أجبرونا على السير في شارع صلاح الدين باتجاه جنوب القطاع.
بدأت رحلتي من الحاجز إلى المستشفى المعمداني، وأنا أنزف بشدة، ملطخة بدمائي، وأغيب عن الوعي بين الحين والآخر. كنت أزحف من المعسكر إلى المعمداني، أمشي وسط جثث وإصابات منتشرة في كل مكان. كان الطريق مليئًا بالحفر والركام، وكان والدي يرافقني في هذه الرحلة القاسية يحاول ابقائي مستيقظة.
كلما فقدت وعيي، كنت أستفيق قليلاً ثم أواصل المشي والزحف بصعوبة. شعرت بأنني أنزف حتى آخر قطرة في جسدي، وطلبت من والدي أن يتركني ليكمل طريقه، لكنه رفض بشدة. بدلًا من المرور بشارع صلاح الدين كما طلب منا الجنود، قرر والدي تغيير الطريق وسلك طريق جباليا، ربما بحثًا عن أملٍ في النجاة.
عندما وصلنا إلى منطقة السدرة، وجدنا سيارة إسعاف مكتظة بالمصابين. حملتني امرأة مصابة في حضنها، بينما ركض والدي خلفنا، إذ لم يكن هناك مكان له في الإسعاف. عندما وصلت إلى مستشفى المعمداني، كنت فاقدة الوعي بالكامل، فظنّ المسعفون أنني استشهدت، لكن المرأة التي كنت في حضنها أكدت لهم أنني لا أزال على قيد الحياة. كان دمي قد انخفض إلى 4، ووصفت حالتي بأنها “حرجة جدًا”. أعطوني 6 وحدات دم، ثم تم تحويلي إلى مستشفى الخدمة العامة حيث خضعت لثلاث عمليات جراحية كبرى: تم استئصال جزء من الكبد، وإيقاف النزيف الداخلي، كما استُؤصل جزء من الرئة، وتم تركيب بلاتين في عظام القفص الصدري. بعد كل عملية، كان يتم تركيب أنابيب لإخراج الصديد، مما سبب لي آلامًا مبرحة.
حتى الآن، لا تزال الشظية مستقرة في جسدي بين الكبد والحجاب الحاجز، وتسبب تجمعًا للصديد والسوائل، مما يهدد حياتي. لا تتوفر الإمكانيات الطبية اللازمة في القطاع لإزالتها، كما أنني بحاجة إلى عمليات تجميلية في بطني وصدري بسبب العمليات السابقة. الأطباء حذروني من أنني سأحتاج إلى رعاية خاصة إذا حملتُ في المستقبل، ولن أتمكن من الولادة بشكل طبيعي.
أنا الآن نازحة في خيمة بلا أدنى مقومات العيش. البرد القارس يزيد من معاناتي، حيث يسبب لي آلامًا شديدة بسبب البلاتين في صدري. منزلي مدمر، ولا يوجد لي مأوى، ولا أمل في تلقي العلاج اللازم. أتمنى أن تنتهي معاناتي، وأن أحصل على فرصة للعلاج قبل أن يفوت الأوان.