أبريل 18, 2025
النساء والأطفال يشكّلون الغالبية العظمى من ضحايا الإبادة الجماعية المستمرة بعد انهيار وقف إطلاق النار
مشاركة
النساء والأطفال يشكّلون الغالبية العظمى من ضحايا الإبادة الجماعية المستمرة بعد انهيار وقف إطلاق النار

لم تتوقّف جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، بل كانت كامنة تحت هدنة هشة، تقتل الأرواح ببطء. ومع استئناف الهجوم العسكري الإسرائيلي، تصدّر النساء والأطفال قائمة الضحايا، لتجد النساء أنفسهن بين قصف يسلب حياتهن، أو قصف يفقدهن أطفالهن.  ومنذ انهيار وقف إطلاق النار، قُتل 595 طفل 308 امرأة، لتصل حصيلة الشهداء من النساء إلى 12,402، ومن الأطفال إلى 18044  منذ السابع من أكتوبر 2023. 1

وفي هذا السياق يقول المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان: كم من الأطفال والنساء ينبغي أن يُقتلوا حتى يعترف العالم صراحةً بأن ما يجري في غزة هو جريمة إبادة جماعية؟ إن مقتل نحو 18,000 طفل و13,000 امرأة دون أن يُواجَه ذلك بإدانة دولية واضحة هو وصمة عار أخلاقية وإنسانية جسيمة. لقد أكدت محكمة العدل الدولية، وهي أهم محكمة في العالم، وجود أسباب معقولة للاعتقاد بأن جرائم إبادة جماعية تُرتكب في قطاع غزة. هذه الجرائم تقع ضمن نطاق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، التي لا تكتفي بإدانة الفعل، بل تُحمّل الدول الأطراف مسؤولية منعه. رغم ذلك، تواصل العديد من الدول، وخاصة تلك التي تدّعي احترام القانون الدولي وسيادة القانون، التستر على هذه الجريمة، ما يكرّس انتقائية مرفوضة في التعامل مع القضايا. إن الصمت والتقاعس في مواجهة هذه الجرائم لا يعكس فقط ازدواجية في المعايير، بل يهدد منظومة العدالة الدولية برمّتها.”

عندما تُقتل النساء في غزة نتيجة لهجمات قوات الاحتلال الإسرائيلي المتواصلة، لا تُختزل خسارتهن في أرقام، ولا يُعدّ ذلك مجرد انتهاك صارخ لحقهن في الحياة فقط، بل جريمة مركبة تمزق نسيج الأسرة والمجتمع، وتُفضي إلى انتهاك متسلسل لحقوق أطفالهن. إذ يُترك الأطفال يتامى بلا أم، محرومين من الرعاية والاحتواء الذي لا بديل له، ويتسبب هذا الفقد في سياق عنيف وغير إنساني باضطرابات نفسية واجتماعية طويلة الأمد، تجعلهم من أكثر الفئات هشاشة، وتُنذر بظهور جيل مثقل بالصدمات، يحتاج إلى دعم ورعاية شاملة لاستعادة الحد الأدنى من الأمان والاستقرار.

تقول الجدة سناء المشهراوي، 60 عامًا، لطاقم المركز: “في 21 مارس 2025، تعرّض منزلنا في غزة للقصف بينما كنا جميعًا نائمين. كنت مع زوجي المقعد وأبنائي الثلاثة وعائلاتهم. عند الساعة 11:30 ليلًا، هزّ انفجار عنيف المكان، وتناثر الزجاج والحجارة من حولي. خرجت لأكتشف أن منزلنا دُمّر، ولم يتبقَ منه سوى جزء من الطابق الأرضي. أسعفني زوج ابنتي أنا وزوجي المصاب إلى منزله القريب. قُتل في هذه المجزرة اثنان من أبنائي مع زوجتيهما، إضافة إلى ستة من أحفادي الأطفال، ولم ينجُ سوى ثلاثة أطفال فقط: كريم وآدم، وسمير، تُركوا وحدهم في مواجهة فاجعة تفوق أعمارهم، بعد أن فقدوا آباءهم وأمهاتهم دفعة واحدة، ولم تتح لهم حتى فرصة الوداع، واستيقظوا على كارثة غيّرت حياتهم بالكامل. يقول سمير (12 عاماً): كنت في المستشفى المعمداني، ولم أودّع أبي أو أمي ولا أشقائي. كنت في حالة صدمة شديدة، بقيت يومين دون أن أتكلم مع أحد، أو أبكي. عندما علمت باستشهاد أبي وأمي وإخوتي، ولم يتبقّ أحد من عائلتي على قيد الحياة. كان شعورًا غريبًا، شعرت أنني أختنق، وكنت أتمزق من الداخل. وبعد يومين، جاءت جدتي وجلست إلى جواري، تحاول التخفيف من الصدمة. حينها فقط بدأت أبكي بحرقة، وأنا أحتضنها. أنا لا أحب الحديث عن ذلك اليوم، لأنه كان أسوأ يوم في حياتي، ولا أستطيع تحمّل تذكره.” تعود الجدة لتقول: “يعاني كريم (7أعوام) من صدمة شديدة، يبكي باستمرار ويسأل عن والديه، غير مصدق لما حدث. أما آدم (3 أعوام ونصف)، فلا يدرك ما جرى لكنه يرفض الطعام نهائي ويريد فقط أمه باستمرار. قلبي ينفطر عليهم، فهم يستيقظون مفزوعين، يبكون من الخوف، ويعيشون حالة اضطراب دائم. أنا اليوم أتحمّل مسؤولية رعايتهم وحدي، ألبّي احتياجاتهم، وأحاول التخفيف عنهم، لكنني لا أستطيع تعويضهم عن حنان أمهاتهم. فقدت زوجي بعد عشرة أيام من المجزرة، وأجد نفسي في هذا العمر أواجه مهمة تفوق قدرتي، مثقلة بالحزن والمسؤولية. طوال الوقت أفكر كيف سيكون مستقبلهم ومن سيسندهم خاصة بعد فقد أمهاتهم؛ لأن فقد الأم شيء لا يعوّض.”2

منذ انهيار وقف إطلاق النار، قُتل 595 أطفال إضافيين في غزة، ليصل عدد شهداء الأطفال إلى 18044 طفلًا، في مشهدٍ يعكس إحدى أبشع صور الإبادة الجماعية. هذا العدد الكارثي يؤكد أن استهداف الأطفال لم يكن نتيجة أضراراً جانبية، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى إبادة الجيل الفلسطيني القادم. فالأطفال الذين نُزعوا من أحضان أمهاتهم تحت وابل القصف كانوا ضحايا لعقاب جماعي يستهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني بدءًا من أطفاله.

لا تقتصر آثار الإبادة في غزة على الأطفال الذين قُتلوا، بل تمتد لتترك أثرًا نفسيًا بالغًا في حياة الأمهات. حيث تواجه العديد من النساء فقدان أبنائهن وبناتهن في ظروف بالغة القسوة، وسط عجز تام عن حمايتهم أو إنقاذهم أو توديعهم أو حتى فرص الحداد الآمن. بعض الأمهات فقدن جميع أطفالهن، ويضطررن إلى التعامل مع هذا الفقدان دون دعم نفسي أو خدمات أساسية تساعدهن على التكيف مع الصدمة. تخلّف هذه التجارب القاسية آثارًا نفسية طويلة الأمد تنعكس على استقرار الأسرة والمجتمع ككل في المستقبل.

أفادت ت، م، 50 عاماً، لطاقم المركز: “أنا أمٌّ أنجبت ابني عبد الرحمن بعد تسع سنوات من محاولات الإنجاب الفاشلة. كان كل حياتي، لا يفارقني أبدًا. تزوج خلال هدنة استمرت خمسين يومًا، وكان عمره 22 عامًا. عشنا لحظات فرح لا تُنسى. لكن في فجر 18 مارس 2025، عادت الحرب. وبعد صدور قرار الإخلاء في 20 مارس، قررنا النزوح. ذهبتُ إلى الفرن، وذهب عبد الرحمن لوداع صديقه. فجأة، وقع انفجار ضخم، وأُصبت في رأسي وقدمي. عدت مسرعة لأجد زوجي شهيدًا، ناديت على عبد الرحمن كي يودّع والده، لكن لم يجبني. وبعد بحث طويل، وُجد جثمانه تحت الأنقاض، يرتدي بدلة زفافه. لم أستطع رؤية وجهه، تعرفت عليه من ملابسه. في لحظة واحدة، فقدت زوجي، وابني الوحيد، وبيتي. أربعة منازل ضُربت دفعة واحدة وسقط فيها عشرات الشهداء. ركبت سيارة الشهداء، وجلست بجوار عبد الرحمن، لم أستطع أن أتركه، لم يكن لديّ غيره. وحتى اليوم، لا أستوعب أنه استشهد، أكاد أن أجن. كلما جلست مع نفسي، أقول: معقول يا عبده تروح وتتركني؟ أحقًا بعقلك تركتني؟ لا أصدق أنك رحلت… لا أصدق أنني فقدتك.  لقد انقطع نسلنا ولم يبقَ لنا أبناء أو أحفاد يحملون اسمنا بعد اليوم.”3

ما يشهده العالم من قتل ممنهج للنساء والأطفال في قطاع غزة خلال جريمة الإبادة، دون أي تحرك جاد هو جريمة تهزّ أعماق الإنسانية. فكل حياة تُسلب بلا رحمة، وكل براءة تُدمر بوحشية، تفرغ القيم الإنسانية من مضمونها وتصبح مجرد شعارات جوفاء في ظل هذا الصمت المشين.

انطلاقًا من مسؤوليات المركز القانونية والأخلاقية، فإنه يطالب المجتمع الدولي باتخاذ خطوات فورية وجادة لوقف جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة، وضمان ملاحقة المسؤولين الإسرائيليين ومحاسبتهم أمام آليات العدالة الدولية. ويشدد المركز على أن التحرك العاجل لم يعد مجرد خيار، بل بات التزامًا قانونيًا وأخلاقيًا لا يحتمل التأجيل. كما يحث الدول الأطراف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية على الوفاء بالتزاماتها الدولية واتخاذ إجراءات عاجلة وفعالة لحماية المدنيين الفلسطينيين، لا سيما النساء والأطفال، من القتل الجماعي والانتهاكات الجسيمة.

وفي السياق ذاته، يؤكد المركز على ضرورة كفّ الدول العظمى عن ممارسة الضغوط السياسية أو الترهيب العلني ضد قضاة المحكمة الجنائية الدولية والمدعين العامين، وتمكينهم من أداء مهامهم باستقلال تام وفقًا لولايتهم القانونية ومبادئ العدالة الدولية. كما يطالب المركز الدول التي يحمل بعض جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي جنسياتها إلى جانب الجنسية الإسرائيلية، بفتح تحقيقات جنائية مستقلة وجادة بحق هؤلاء الأفراد، متى ما توفرت أدلة على تورطهم في ارتكاب جرائم دولية في قطاع غزة.


  1. وزارة الصحة الفلسطينية،17 ابريل 2025،  https://t.me/MOHMediaGaza/6467 ↩︎
  2. تلقى طاقم المركز الإفادة بتاريخ 16 ابريل 2025 في منطقة عبسان الكبيرة بمدينة خان يونس. ↩︎
  3. تلقى طاقم المركز الإفادة بتاريخ 12 ابريل 2025 في مدرسة اليرموك بمدينة غزة. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *