يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن النزوح القسري لسكان قطاع غزة، بما في ذلك النساء، مع حرمانهم من المأوى المناسب والملابس الأساسية، بجانب الحرمان من الغذاء الكافي والرعاية الطبية، يُعد من بين أفعال الإبادة الجماعية. كما يؤكد أن الظروف القاسية في فصل الشتاء تضيف عبئًا ثقيلًا من العنف والمعاناة على النساء، اللواتي يواجهن ظروفًا غير مسبوقة من القهر والمآسي منذ بداية الهجوم الإسرائيلي المستمر.
لقد أسفر الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة عن نزوح أكثر من 2 مليون شخص، أي نحو 90% من مجموع السكان، مما دفع الأسر إلى مواجهة شتاء قاسٍ في ظل أوضاع إنسانية تزداد سوءاً. ففي الشتاء الماضي، ورغم صعوبة الظروف، كانت هناك بعض المباني التي يمكن الاحتماء بها، وقد تمكن بعض النازحين من العثور على مأوى بفضل العائلات المضيفة والمدارس والمستشفيات والمباني العامة.
أما اليوم، وبعد مرور خمسة عشر شهراً على الهجوم الإسرائيلي وتدمير المدن السكنية بشكل أوسع، بما في ذلك مدينة خان يونس ورفح ومحافظة شمال غزة، يواجه مئات الآلاف من الفلسطينيين ظروفاً مأساوية تتفاقم مع مرور الوقت. إذ يعيش الكثيرون منهم بلا مأوى، بينما اضطر آخرون إلى تشييد خيام بدائية باستخدام مواد بسيطة وشحيحة مثل الأغطية البلاستيكية، الأقمشة الممزقة، القطع المتناثرة من الأخشاب؛ لكن هذه الخيام البدائية لم تكن كافية للصمود أمام الرياح العاتية، الأمطار الغزيرة، والبرد القارس، خاصة في ظل شتاء قاسٍ انخفضت فيه درجات الحرارة إلى 6 درجات مئوية. ومع استمرار افتقار النازحين إلى الاحتياجات الأساسية من ماء وغذاء ومأوى دافئ، أصبحت حياتهم مهددة بمخاطر متزايدة، تتراوح بين الموت نتيجة البرد القارس وتفشي الأمراض المعدية التي تعمّق أزماتهم الإنسانية، علاوة على القصف المستمر حتى على المناطق المصنفة “آمنة”، بما فها مخيمات النزوح. وقد أسفر الشتاء حتى الآن عن وفاة 8 أشخاص جلهم من الأطفال.1
تدهور البنية التحتية والمنظومة الصحية وتفاقم الكارثة الإنسانية
فقد قطاع غزة قدرته على إدارة مياه الصرف الصحي بشكل شبه كامل نتيجة التدمير الممنهج للبنية التحتية وقطع الكهرباء والنقص الحاد في الوقود بسبب الحصار المشدد والهجوم الإسرائيلي المستمر. وقد أدى ذلك إلى تدفق مياه الصرف الصحي في الشوارع وأماكن النزوح أثناء هطول الأمطار الشتوية، مما يتسبب في تلوث خطير لمصادر المياه التي يعتمد عليها السكان للشرب والاستخدام اليومي. وفي الوقت نفسه، يتزامن هذا الوضع مع سوء التغذية واكتظاظ سكاني حاد نتيجة تزايد النزوح القسري وفقدان المنازل، ما يزيد من خطر انتشار الأمراض المعدية. ومن جانب آخر، تعتمد العائلات في غزة على الكهرباء أو الغاز أو الوقود لتدفئة منازلها، ولكن مع انقطاع الكهرباء ونقص الوقود الحاد بسبب الحصار الإسرائيلي، يضطر النازحون إلى استخدام وسائل بدائية مثل إشعال الحطب والتي تحمل مخاطر كبيرة.
في المقابل، تعاني المنظومة الصحية في غزة من انهيار شبه كامل، جراء استهداف المستشفيات بالهجمات العسكرية، حيث خرجت 23 مستشفى من أصل 38 مستشفى حكومي وأهلي عن الخدمة، ليبقى 17 مستشفى فقط تعمل جزئيًا. وتم تعطيل 80 مركزًا صحيًا من أصل 90 مركزًا.2 مما تسبب في شلل شبه تام للقدرة على تقديم الرعاية الطبية. هذه الأزمات المتشابكة تهدد حياة السكان وتعمق معاناتهم في ظل استمرار الهجوم العسكري وعدم الامتثال للقرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية التي تتطلب وقفاً فورياً لإطلاق النار.
انعدام توفر الأغطية والملابس الشتوية في ظل الحصار الإسرائيلي المشدد وانعدام مصادر الدخل
يتجرع سكان غزة مرارة الشتاء تحت وطأة ظروف قاسية لا ترحم، ففي ظل الحصار الإسرائيلي المشدد الذي ترافق مع الهجوم العسكري، بات الحصول على الإمدادات الأساسية مثل البطانيات والملابس الدافئة أمراً شبه مستحيل. يعود ذلك إلى ندرتها بسبب القيود المفروضة على الاستيراد ومنع وتقييد إدخال المساعدات الإنسانية، كثرة النزوح وفقدان الأمتعة بشكل متكرر. وما يتوافر منها في الأسواق يُباع بأسعار باهظة بمعدل يزيد عن 50 دولار للغطاء وذلك يفوق قدرة النازحين، الذين يعانون من شبه انعدام في مصادر الدخل.
أما على صعيد المساعدات الدولية، ورغم جاهزية مجموعات العزل والخيام ومجموعات الفراش في المستودعات ونقاط الدخول، فإن القيود الإسرائيلية الشديدة على الوصول تعيق وصولها إلى النازحين، وتجعل الاستجابة الإنسانية لاحتياجات النازحين المتزايدة غير فاعلة وتفاقم معانتهم.
الشتاء عبئاً إضافياً على النساء في قطاع غزة
يواصل طاقم المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان العمل في مناطق النزوح داخل قطاع غزة بشكل يومي، بما في ذلك الوقوف على معاناة النساء وتوثيق العنف والانتهاكات التي يتعرضن لها. ومن خلال هذا العمل، رصد المركز أن النساء النازحات في قطاع غزة يعشن تحديات مركبة وقاسية خلال الظروف اللاإنسانية في فصل الشتاء، حيث تتضاعف عليهن الضغوط النفسية مع الأعباء الجسدية التي يواجهنها، مما يجعل حياتهن أكثر مرارة. ففي ظل غياب وسائل التدفئة الآمنة، يزداد تأثير البرد على النساء الحوامل والمرضعات بشكل كبير، اللواتي قد يعانين من مشاكل صحية بسبب البرد القارس. كما أن النساء الأكبر سناً أو اللواتي يعانين من أمراض مزمنة يكن الأكثر عرضة لتتدهور صحتهن في ظل شح الأدوية وارتفاع أسعارها نتيجة الحصار الإسرائيلي. فقد أفادت نجاح إبراهيم، 62 عاماً، أرملة، أم لستة أبناء، لطاقم المركز: “أعاني من جلطة في يدي وقدمي اليسرى، وبلاتين يقيّد حركتي، إضافة إلى سرطان الثدي الذي انقطعت عن علاجه منذ عام بسبب الحرب. وفي 10 نوفمبر 2024، أجبرتني قوات الاحتلال على إخلاء منزلي في بيت لاهيا مع أبنائي تحت تهديد السلاح دون أن يسمح لنا بأخذ أي من أمتعتنا. خرجت على كرسي متحرك متهالك، وأكملت طريقي بصعوبة بالغة حتى وصلنا إلى مخيم النازحين في ملعب اليرموك بمدينة غزة. هناك، اضطررنا لنصب خيمة صغيرة من النايلون. الشتاء الماضي، لم أكن قد نزحت من منزلي الدافئ بعد، كنت محاطة بوسائل الراحة والتدفئة، أما الآن فأعيش مع 20 فردًا في خيمة بالية لا تصد البرد القارس ولا المطر الغزير. البرد ينهش جسدي الهزيل؛ فالبلاتين في قدمي يضاعف آلامي، ومناعتي المنهكة بسبب السرطان تجعلني عرضة لنزلات البرد المتكررة، بينما لا توجد أدوية مجانية أو رخيصة كما كانت في السابق. إن هذا الوضع القاسي يهدد حياتي.”3
ومن جانب آخر، تُعتبر مسؤولية الاهتمام بأفراد الأسرة والعناية بكبار السن والأطفال دورًا تقليديًا يُلقى بشكل رئيسي على النساء. تثقل هذه الأدوار كاهلهن بمسؤوليات تفوق طاقتهن في هذه الأوقات الصعبة، حيث تشعر النساء بالذنب والعجز عندما يرين أطفالهن يصارعون البرد القارس دون وسائل كافية لتوفير الدفء، ويجعلهن يبذلن أقصى جهدهن لحماية أطفالهن. تضع الأمهات أطفالهن في مقدمة أولوياتهن، فيمنحنهم ما لديهن من ملابس وأغطية دافئة، بينما يواجهن البرد بأجسادهن المنهكة وقلوبهن المثقلة. وفي هذا السياق، أفادت فاطمة فراج، 29 عامًا، أم لطفلين: “هذا هو الشتاء الثاني الذي أعيشه في الخيام. أعود الآن لأسترجع معاناتي في الشتاء الماضي، وأقارن بين ما كنا عليه في بيوتنا من مياه دافئة ووسائل الراحة. الآن في كل لحظة، أحاول أن أدفئ أطفالي ليلاً. إننا نتشارك الأغطية والفراش، وفي نفس الوقت، أخشى على أطفالي من الموت، خاصة بعد أن مات أطفال آخرين في هذا البرد القارس. إنني دائماً أفضلهم في الأغطية القليلة التي استطعنا توفيرها، ولا نستطيع توفير المزيد فهي غالية الثمن، حيث تصل إلى أكثر من 50 دولارًا، وهو مبلغ أصبح من الصعب تحصيله بعد أن فقدت أنا وزوجي مصدر رزقنا. أطفالي يرتجفون من البرد، وأنا أحاول أن أدفئهم بكل ما أستطيع، وأعلم جيدًا أنهم إذا مرضوا، فلن نجد الدواء، رغم أنهم يعانون من رشح دائم. أشعر أننا إذا لم نمُت من القصف، فنحن سنموت من الخوف والبرد، ولا أستطيع أن أصف حجم معاناتنا.”4
كما أن العناية بكبار السن والمرضى في العائلة تستنزف طاقات النساء بشكل مضاعف، في ظل تدهور ظروفهم الصحية وغياب الدعم اللوجستي.
تقول عبير محمد عدوان، أم خمسة أطفال:
“كنا في مدرسة حلب ببيت حانون، وفي 10/11/2024، حاصرتنا الدبابات الإسرائيلية وأجبرتنا على الخروج. اضطررنا للتخلي عن كل أمتعتنا بسبب صعوبة الطريق والخوف الشديد، إذ كانت الدبابات تلاحقنا دون توقف. بعدما فقدنا كل شيء، لجأنا إلى ملعب اليرموك، حيث وفّرت لنا الإدارة خيمة بسيطة من شادر وبعض الأخشاب. نعيش الآن في هذه الخيمة مع والد زوجي، 73 عامًا، ووالدته، 68 عامًا، وكلاهما يعاني من أمراض مزمنة كالضغط والسكري ويحتاجان إلى رعاية خاصة. أنا المسؤولة عن رعايتهما وسط ظروف الحرب القاسية، مما يزيد من أعبائي. نعاني جميعًا من البرد القارس، حيث يتعرض والدا زوجي لنزلات برد وسعال مستمر، بينما نفتقر لأبسط وسائل التدفئة والكهرباء. أواجه يوميًا مشقة غسل الملابس يدويًا وطبخ الطعام على النار. في إحدى الليالي، مزقت الأمطار الغزيرة خيمتنا بالكامل، فغرقت بالمياه وابتلت ملابسنا والفرش، مما أصابني وأطفالي بالإنفلونزا والمغص، بينما زادت معاناة والدي زوجي من البرد الشديد. نعجز عن شراء الأدوية بسبب ارتفاع أسعارها وانعدام توفرها. أطفالي يواجهون الشتاء بلا ملابس مناسبة، وحالة والدي زوجي المؤلمة تزداد سوءًا. إحساسي بالعجز يمزقني يومًا بعد يوم، فأعيش معاناة لا يمكن وصفها.”5
ومع استمرار الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة وتدهور الأوضاع الإنسانية بشكل كارثي، أصبح الحصول على الماء الساخن شبه مستحيل، مما يفاقم معاناة الأسر عامةً والنساء على وجه الخصوص، حيث تُجبر النساء على استخدام الماء البارد في أداء الأعمال المنزلية مثل غسل الأطباق والملابس، وهو عبء إضافي يرهقهن يوميًا. لكن هذه المعاناة لا تقتصر على الأعمال المنزلية فحسب، بل تمتد إلى النظافة الشخصية الشهرية للنساء، التي تصبح أكثر صعوبة وإيلامًا في ظل استخدام الماء البارد. كما يُضاف إلى ذلك عبء الاهتمام بنظافة الأطفال وكبار السن، الذين تتطلب احتياجاتهم اليومية مزيدًا من الجهد، خاصة في ظل الأجواء الباردة وانعدام وسائل التدفئة الكافية.
أفادت نور عبد اللطيف، 35 عاماً، أم لثلاثة أطفال:
“لقد استطعت أن أتحمل أهوال الحرب، لكن البرد في الخيمة هزمني وكسرني من الداخل. كل عظمة في جسدي تؤلمني من شدة البرد، والخيمة، مهما حاولنا، لا تحمينا من هذا الصقيع القاسي. عندما أستحم، أبكي بكل ما أملك من قوة بسبب المياه الباردة التي تخترق عظامي. والدورة الشهرية في هذا البرد القارس أصبحت كابوسًا لا يطاق، تضاعف الآلام الجسدية والنفسية. وهناك عذاب آخر قد يجهله البعض، وهو غسل الأطباق والملابس يدويًا باستخدام المياه الباردة حينها أشعر أنني فقدت الإحساس بأطرافي. أما أطفالي، فمعاناتهم تفتك بقلبي. أقضي ليالي الشتاء الطويلة مستيقظة أتفقد أحوالهم وأنفاسهم، أشعر أن قلبي سيتوقف من البرد فكيف هم؟ ومعظم الوقت، أنا مصابة بالإنفلونزا والزكام وآلام الحلق، في ظل شبه انعدام للأدوية الأساسية البسيطة، وإن وجدت، تكون باهظة الثمن. الشتاء هنا ليس مجرد فصل بارد، بل معركة قاسية يومية للبقاء على قيد الحياة.” 6
في ضوء هذه المعاناة الإنسانية والمضاعفة خصوصاً للنساء، يدعو المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان