تحذر مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية من ترك نحو نصف مليون فلسطيني/ة فريسة للموت جوعاً وعطشاً في شمال قطاع غزة، بعدما انقطعت عنهم المساعدات بشكل شبه كامل منذ أسابيع، وشحت جميع الأصناف الغذائية والدوائية الأساسية وخاصة الطحين، نتيجة قيود الاحتلال واستمرار العدوان الإسرائيلي لليوم الـ 142 على التوالي.
وترى مؤسساتنا أن استمرار دولة الاحتلال في سياسة العقاب الجماعي المتمثلة في تجويع وتعطيش سكان قطاع غزة، وهو ما تجرمه جميع الشرائع والقوانين الدولية، يأتي في سياق استكمال أهدافها بتهجير سكان شمال قطاع غزة ودفعهم إلى النزوح جنوباً، والضرب بعرض الحائط القرارات التمهيدية لمحكمة العدل الدولية التي تلزمها بالامتثال الكامل بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية بما يضمن سلامة وأمن السكان الفلسطينيين/ات، وبتحري التدابير الاحترازية لعدم تنفيذ إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة، وهو ما تترجمه إسرائيل بمزيد من القيود والتضييق على دخول المساعدات الغذائية ما يخلق أزمة جوع وعطش غير مسبوقة في شمال قطاع غزة.
وتتابع مؤسساتنا الأوضاع الكارثية والاحتياجات الهائلة غير الملباه للسكان في قطاع غزة، وسط استمرار العدوان الإسرائيلي للشهر الخامس على التوالي، حيث يعاني ربع سكان القطاع ممن يتواجدون في شماله من انعدام حاد للأمن الغذائي. وبحسب آخر تقرير مشترك لبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف، فإن الأطفال تحت سن ال5 سنوات والحوامل والمرضعات يعانون من قصور كبير في الأغذية والمواد الأساسية لنجاتهم. كما ويعرض انعدام الأمن الغذائي هذا حياة كبار السن والمرضى للموت جوعاً وعطشاً، أو يهدد بمعاناة صحية ستؤدي إلى عواقب خطيرة تستمر لأجيال مقبلة. ووفقاً للتقرير، وجدت فحوصات التغذية التي أجراها الخبراء في مراكز الإيواء والمراكز الصحية في شمال قطاع غزة أن واحداً من بين ستة أطفال دون سن الثانية يعانون من سوء التغذية الحاد.
كما وتنظر مؤسساتنا بقلق بالغ بعد قرار برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، بتاريخ 20 فبراير/شباط 2024، وقف تسليم المساعدات الغذائية الحيوية إلى مناطق شمال غزة مؤقتاً حتى تسمح الظروف بالتوزيع الآمن للمساعدات، بالتزامن مع تقارير البرنامج نفسه التي تحذر من مجاعة حقيقية في شمال قطاع غزة. لذا فإننا ندعو البرنامج إلى بذل المزيد من الجهد والسعي لإيجاد سبل استئناف إيصال المساعدات عبر الضغط بوسائل مختلفة على دولة الاحتلال لفتح مسارات جديدة تعبر من خلالها المساعدات إلى السكان في شمال القطاع بكميات أكبر، ونبدي تفهمنا لحاجة البرنامج إلى ضمانات توفر الأمن لموظفيه وشركائه وأيضاً سلامة السكان.
وتبذل مؤسساتنا جهودها الحثيثة في توثيق وجمع إفادات لحالات الوفاة بسبب العطش والجوع، كما أننا رصدنا شهادات ووقائع توثق حالات لنازحين/ات لم يتذوقوا الطعام لأيام عديدة في مناطق شمال قطاع غزة، ما يفيد بوجود أزمة جوع وعطش شديدة، وهو ما يتطلب تدخلاً دولياً سريعاً لإدخال الغذاء والمياه والدواء.
وأفاد الدكتور حسام أبوصفية، مدير مستشفى كمال عدوان، لباحثينا بأن الأطباء يسجلون علامات ضعف وهزال شديد ناتجة عن سوء التغذية والجوع لدى جميع الحالات المرضية. ويضيف أبو صفية أن المستشفى يستقبل 3 أضعاف طاقته الاستيعابية بسبب معاناة السكان من أمراض يمكن علاجها عبر توفير طعام صحي يعزز المناعة في مواجهة انتشار العدوى في الأماكن المكتظة. وأكد أن جميع الحالات التي تعالج في المستشفى هي في وضع سيء وتظهر عليها علامات الشحوب والوهن بسبب فقدان التغذية السليمة، وهو ما يستدعي بقاءها لفترات أطول في المستشفى لتلقي العلاج، الأمر الذي يعتبر غاية في الصعوبة بالنظر إلى الإمكانيات المتاحة. ويرى أبو صفية أن هناك خصوصية لكل مريض بما يتعلق بالتغذية خصوصاً كبار السن والأطفال، ويعتبر فقدان أصناف غذائية مهمة كحليب الأطفال والدقيق والخضروات والفواكه بأنواعها عاملاً مساعداً في تدهور الأوضاع الصحية للسكان بشكل عام.
ويُقدر أبو صفية أن أقل طفل فقد نحو 5 كيلو جرام من وزنه على الأقل، نتيجة سوء التغذية الحاد، هذا غير معاناة السيدات الحوامل وكبار السن، والمرضعات على وجهٍ خاص، حيث لا يجدن الطعام للاستمرار في الرضاعة الطبيعية، مما جعل انقطاع الحليب لدى المرضعات أمر شائع في شمال قطاع غزة.
ويعتبر أبو صفية أن الأطفال الرضع ممن تقل أعمارهم عن 6 أشهر هم الأكثر عرضة للوفاة بالنظر إلى إمكانيات المستشفيات الحالية، ولا يمكن للأطباء اسعافهم من الهزال الشديد الذي يسببه الجوع، كون الأعراض تظهر عليهم بسرعة كبيرة وتتطور إلى الأسوأ خلال فترة قصيرة.
وأفاد السيد ناصر أحمد، 56 سنة، من سكان حي الصفطاوي شمال قطاع غزة، وهو أب لخمسة أطفال، لباحثينا بما يلي:
“نعاني من مجاعة حقيقية، وهناك شح كبير في المواد الغذائية الأساسية، ولا أستطيع توفير أي نوع من أنواع الطعام لأطفالي، وأصبح أطفالي غير قادرين على الحركة، وقد أكلنا علف الحيوانات (الشعير والذرة). سمعنا عن بعض الوفيات في صفوف الأطفال نتيجة انعدام الغذاء الصحي والكافي، وأخشى أن أفقد أطفالي بسبب الجوع”.
كذلك أفادت السيدة م. ش، وهي أم لثلاثة أطفال، وتسكن في حي النصر بمدينة غزة، لباحثتنا بما يلي:
“فقدت زوجي منذ شهرين بسبب القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة، ولا يوجد معيل لي ولأطفالي الثلاثة. قبل أيام قمت بشراء بعض الشعير والذرة لصنع الخبز لأطفالي بما توفر من مال، وقد قاربت على النفاذ بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، فقد وصل سعر كيس الدقيق والتي تبلغ كميته 25 كيلوجرام إلى نحو 700$، ولا تتوفر أصناف مهمة كالخضروات والفاكهة، والأرز والسكر وزيت الطعام والعديد من المواد الأساسية، وإن توفرت يكون سعرها مرتفع جداً ولا نقوى على شرائها. كما أجد صعوبة بالغة في توفير الحليب لطفلي الصغير مع ارتفاع سعره لنحو 40 دولاراً للعلبة الواحدة، حيث اعتاد أطفالي أن يؤمن لهم والدهم كل ما يحتاجونه من الطعام والشراب، والآن بعد استشهاده أكابد من أجل اطعامهم أنا وممن تبقى من عائلة زوجي في شمال القطاع“.
كما يعاني السكان في أحياء مدينة غزة أزمة عطش شديد بسبب انقطاع مياه الشرب الآمنة وعدم كفاية المتوفر من مصادر المياه والتي بلغ العجز فيها نحو 90%، وهو ما يؤدي إلى تفاقم في سوء التغذية، فضلاً عن عدم كفاية المياه لأغراض الطهي والنظافة. ويحصل الافراد على 3 لتر لتغطي كافة الاستخدامات من نظافة وشرب.
وأفاد السيد وليد عادل عوض، 29 عاماً، والذي يسكن بحي الشيخ رضوان، غرب مدينة غزة، لباحثينا ما يلي:
“منذ شهرين لم يتم ضخ أي لتر واحد إلى خزانات منازلنا، ويجبرنا هذا الأمر إلى جلب المياه الصالحة للشرب حال توفرها من أماكن بعيدة، أو شراء مياه البحر من الشاحنات القليلة التي تجوب الشوارع لأغراض الغسيل والنظافة. نحن نتحمل تكاليف كثيرة من خلال شراء طعامنا وشرابنا بأسعار مرتفعة، ومنذ بداية اليوم نسعى للبحث عن شيء نأكله ونمضي أياماً بدون أي طعام أو شراب. جميعنا نقص وزنه بمعدل 10- 15 كيلوا للفرد، ونرى أن الأوضاع آخذة بالتطور نحو الأسوأ مع مرور الوقت“.
ووفق بيانات بلدية غزة فقد قطعت قوات الاحتلال الإسرائيلية مصادر المياه عن قطاع غزة، ومنعت إدخال الوقود اللازم لتشغيل الآبار، وعمدت عبر آلتها الحربية إلى تدمير نحو 40 بئراً للمياه، و9 خزانات من مختلف الأحجام، ونحو 42 ألف متر طولي من شبكات المياه بأقطار مختلفة. كذلك دمر الاحتلال آبار محلية ومركزية أبرزها بئر الصفا في شمال شرق المدينة والذي يغذي 20% من احتياجات المدينة من المياه، فيما يتم حجب المياه المشتراة من شركة ماكروت الإسرائيلية التي تغطي 25% من حاجة المدينة. بهذا يكون الاحتلال قد دمر نحو 60 بئراً من أصل 80 بئراً كانت تعمل قبل العدوان الحربي على قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير وتضرر محطة التحلية والتي تغذي المدينة بنحو 10% من احتياجاتها اليومية.
وما زالت فرق الهيئات المحلية والبلدية في شمال قطاع غزة عاجزة عن اصلاح هذه الآبار والخطوط الناقلة للمياه المغذية للأحياء السكنية، بسبب نقص الإمكانيات ونزوح معظم الكوادر الفنية المتخصصة إلى مناطق جنوب القطاع، وهو ما تسبب في انهيار شبه كامل لمنظومة الخدمات البلدية.
ويُخاطر سكان شمال القطاع الجائعين/ات بحياتهم أثناء انتظار شاحنات المساعدات القليلة التي تصل إليهم، وذلك بالاحتشاد بالقرب من نقاط متقدمة تتواجد فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي وسط قطاع غزة، بالإضافة إلى الخطر الكبير الذي يتعرضون له أثناء بحثهم على بعض النباتات والأعشاب البرية لسد جوعهم، وهو ما تقابله قوات الاحتلال بإطلاق النار عليهم وتركهم ينزفون حتى الموت في مشاهد متكررة.
وأفاد السيد محمد جمال أبو سمعان، من سكان حي الزيتون بمدينة غزة، لباحثنا ما يلي:
“أترقب موعد وصول الشاحنات المحملة بالمساعدات كالعشرات من سكان شمال القطاع، كان آخرها يوم الأحد 18 فبراير/شباط، حيث علمت أنها ستصل الساعة التاسعة صباحاً عبر شارع الرشيد، وذلك بعد فترة انقطاع دامت ثلاث أسابيع. تكبدت عناء المشي في أجواء ماطرة حتى وصلت منتظراً الشاحنات، وبمجرد وصولها توجه الآلاف إليها غير عابثين بالخطر المتمثل بوجود آليات الجيش الإسرائيلي والتي قامت بإطلاق النار علينا لتصيب عدد من المدنيين، هذا غير عشرات الإصابات بسبب التدافع للحصول على أكياس الدقيق. عدت إلى أطفالي وعائلتي بدون أي شيء هذه المرة، ونستمر في استخدام بدائل الدقيق من طحن أعلاف الطيور والحيوانات. وأنا مُضطر إلى هذه المخاطرة للحصول على الدقيق، حيث لا أستطيع شراؤه في حال توفر في السوق المحلية بأسعار عالية بلغت نحو 700$ للكيس الواحد”.
وأفادت المسنة سميرة عيسى، 68 عاماً، من حي النصر بمدينة غزة، لباحثينا بما يلي:
“أعيش أنا وزوجي المسن في شمال قطاع غزة، وذلك بعد أن نزح أبنائي مع زوجاتهم وأطفالهم إلى جنوب القطاع. لا يوجد طعام في المدينة، وعندما حاول زوجي الذهاب لانتظار شاحنات الطحين على طريق شاطئ بحر غزة، تعرضوا لإطلاق النار من الجيش الإسرائيلي، وتعرض بعض المدنيين لإصابات نتج عنها حالات وفاة. وفي كل مرة يعود زوجي دون أن يتمكن من الحصول على الطحين. ونقوم بخلط الماء والنشاء لنتمكن من سد جوعنا”.
وفي ضوء ذلك، تُجدد مؤسساتنا مطالبة المجتمع الدولي للعمل على وقف جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال بحق 2.3 مليون فلسطيني/ة في قطاع غزة، من خلال سياسة العقاب الجماعي المتمثلة بالتجويع والتعطيش ودفعهم إلى النزوح بعيداً عن أماكن سكناهم في ظروف تفتقر لأبسط حقوق الانسان. وعليه فإننا:
نسخة تجريبية