يحذر المركز الفلسطيني لحقوق الانسان من استمرار معاناة مرضى قطاع غزة وخاصة مرضى الدم والأمراض الوراثية، نتيجة النقص الحاد والخطير في أدويتهم، وما يترتب عليه من تداعيات خطيرة تهدد حياتهم مع استمرار العدوان الحربي للشهر السابع على التوالي. كما يوجه المركز نداءً عاجلاً بضرورة تحلي المجتمع الدولي ومنظماته الإنسانية بالمسؤولية الكاملة بعد تسجيل عدد من حالات الوفاة لمرضى لم يتلقوا أدويتهم منذ عدة أشهر بسبب تشديد الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وخاصة مدينة غزة وشمالها، وكنتيجة لعدم السماح بالدخول الحر لإرساليات الأدوية وبالكميات الكافية، في مخالفة واضحة لما ورد في المادتين 55 -56 من اتفاقية جنيف الرابعة.
ويؤكد المركز على وجود دلائل حقيقية تشير إلى أن قوات الاحتلال تُصر على دفع مئات المرضى للنزوح قسراً من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، في الوقت الذي وجهت ضربة قاسية ودمرت أهم مجمعين طبيين في قطاع غزة، هما مستشفى الشفاء الطبي ومستشفى ناصر الطبي، ما يعني القضاء على آمال المرضى بتلقي الخدمات الطبية الملائمة في جميع مناطق قطاع غزة، وتكريسا لجريمة إبادة جماعية تتضمن إخضاع سكان القطاع بما فيهم المرضى، بشكلٍ متعمد لظروف معيشية يراد بها التدمير المعنوي والمادي كلياً أو جزئياً، وذلك وفق المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية للعام 1948.
وبحسب متابعات المركز، يعاني (305) مريضاً/ـةً بالتلاسيميا، منهم (80) طفلاً، من فقدان أصنافاً دوائيةً مهمةً لحالتهم كــ”EXJADE” و “DESFERAL” وهي أدوية موصوفة لهم مدى الحياة، ونقصانها يشكل تهديداً لحياتهم. ويؤكد الأطباء أن أعراض ومضاعفات انقطاع المرضى عن تناول هذه الأدوية تبطئ عودتهم للحالة الصحية المستقرة على المدى الزمني القريب، وتشكل خطراً حقيقياً على حياتهم خصوصاً إذا تراكم الحديد في أجسامهم، حيث يؤدي تراكمه في البنكرياس إلى الاصابة بمرض السكري من النوع الأول، وتراكمه في الكبد يتسبب بتليفه، وترسبه في القلب يعتبر من أبرز أسباب الوفاة لمرضى التلاسيميا. ونتيجة لذلك توفي (18) مريضاً/ــةً بالتلاسيميا منذ بداية العدوان الحالي، فيما يصارع نحو (10) مرضى/ـات الموت بعد تدهور حالتهم الصحية[1]. وقد لجأ معظم هؤلاء المرضى إلى المستشفيات في بداية العدوان ليكونوا بالقرب من أماكن المتابعة الطبية، ومع استهداف هذه المستشفيات قُتل مريضين منهم، فيما يواجه باقي المرضى خطر الوفاة بسبب النقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، لا سيما (63) مريضاً/ــةً ممن تبقوا في مدينة غزة وشمالها.[2]
ووفق ما أفاد به المريض حسين نعيم كريزم، 31 عاماً، من سكان بلدة جباليا شمال قطاع غزة، لباحث المركز بأنه بات غير قادر على الحركة نتيجة المضاعفات الشديدة التي لحقت بحالته بعد انقطاعه لفترة طويلة عن تناول الادوية الطاردة للحديد، وهي غير متوفرة في مناطق شمال قطاع غزة بسبب الحصار الإسرائيلي. اضافةً لمعاناته في توفير وحدات الدم مع انهيار العمل في مختبرات المستشفيات في شمال القطاع.
وتعتبر تجربة المريض كريزم نموذجاً لمعاناة جميع المرضى في مدينة غزة وشمالها حيث أفاد بما يلي: “مع بداية العدوان لم نستطع الوصول إلى مركز الخدمة المتخصص في مستشفى الصداقة التركي لصعوبة توفير وسائل المواصلات وقتها، فتوجهت مع عدد من زملائي المرضى لمستشفى الشفاء للحصول على وحدات الدم، والتي تم توفيرها لنا بصعوبة كبيرة بسبب الضغط الكبير الناتج عن تزايد أعداد الجرحى، يضاف إلى ذلك أننا نتلقى هذه الوحدات بدون أن يتم فحصها من الفيروسات مع عدم استخدام فلاتر الدم وهذا ما يعرضنا لخطر الإصابة بأمراض أخرى. وطيلة أشهر العدوان لم أتمكن من مراجعة أي طبيب متخصص بأمراض الدم لكتابة الكمية المطلوبة من الأدوية ومتابعة حالتي، كما أنه لم تتوفر لنا أي صنف دوائي سواء EXJADE الذي يُعطى على هيئة أقراص، أو DESFERAL الذي يُعطى مباشرة ً في الوريد، وهي أدوية يتم صرفها من خلال وزارة الصحة فقط، وغير متوفرة في الصيدليات. ونتيجة عدم حصولي على أي جرعة دوائية منذ أكتوبر 2023، أعاني من مضاعفات شديدة أفقدتني القدرة على الحركة، وفي إجراء غير كاف أحاول الاكثار من شرب الشاي لتقليل جزء من الخطر الذي يتسبب به انقطاعي عن الادوية. أشعر أننا نُترك لنموت بصمت دون أن يتم توفير الأدوية لمرضى التلاسيميا”.
كذلك يعاني حوالي (105) مرضى من اضطراب وراثي نادر “الهيموفيليا”، وهو ناجم عن نقص أو غياب أحد عوامل التجلط في الدم (البروتينات)، يحدث غالباً في الذكور؛ حيث ينزف المصاب به بعد الإصابة لفترة أطول أكثر من الشخص الطبيعي، ويحتاج المريض إلى أدوية يتناولها مدى الحياه أهمها “FACTOR8– .”FACTOR9ومنذ الأيام الأولى للعدوان واجه مرضى الهيموفيليا تحديات كثيرة منها نقص هذه الأدوية الذي يؤدي إلى تلف الأعضاء والأنسجة لدى المرضى/ـات، كذلك ضعف المتابعة الطبية بعد سفر (2) من أصل (5) أطباء يتابعون أمراض الدم الوراثية. ويعتبر هؤلاء المرضى الأكثر تأثراً في حالة الإصابة مع استمرار العدوان الحربي، فهم معرضون للموت نتيجة صعوبة حصولهم على أدويتهم، بما يشمل الأدوية المسكنة.
وقد تسبب استمرار العدوان الحربي في وفاة (23) مريضاً/ــةً من أصل (360) مريضاً/ـةً بالتليف الكيسي، وهو اضطراب وراثي يُسبب تلفاً شديداً في الرئتين والجهاز الهضمي والأعضاء الأخرى في الجسم، ويحتاج المرضى للتعايش معه الكثير من الأدوية والعلاجات المزمنة كـ creon، وGentoycin، وأصناف من الحليب العلاجي بالإضافة إلى الفيتامينات بكافة أنوعها، حيث شكل نفاذ هذه الأدوية خطراً كبيراً على حياتهم. وقد تم اخلاء عدداً من هؤلاء المرضى في حالة الخطر الشديد من مدينة غزة وشمالها للمتابعة في مستشفيات جنوب القطاع، والتي لم تقدم أي خدمة طبية لهم بسبب الأوضاع الكارثية التي حلت بها، ليتقرر تحويل نحو (20) مريضاً/ــةً في حالة الخطر الشديد للعلاج خارج قطاع غزة، نجح (6) حالات فقط بالخروج من قطاع غزة لتلقي العلاج حتى الآن[3]. وكان من ضمن هذه الحالات المريضة ملاك جمال حسن،22عاماً، والتي ساءت حالتها بسبب نقص الأدوية والظروف الصعبة التي فرضها العدوان على مرضى قطاع غزة، ما استدعى تحويلها إلى جمهورية مصر لتلقي العلاج المناسب، بينما توفيت شقيقتها المريضة بالتليف الكيسي، ألاء جمال حسن، 24 عاماً. وبحسب ما أفاد به والدهما جمال سعدات حسن، 52 عاماً، فإن ابنتيه كانتا متعايشتين مع مرضهما من خلال الالتزام بنمط العلاج المناسب رغم صعوبة توفير بعض الأدوية قبل العدوان الحربي الحالي، إلا أنهن بعد انقطاعهن عن دوائهن ازدادت حالتهن سوءاً طيلة الأشهر السابقة.
وأضاف والدهما لباحث المركز بما يلي ” لم أتمكن من توفير الأدوية لبناتي خصوصاً مع عدم قدرة جميع المرضى للوصول إلى مراكز العلاج المتخصص، وكانت التحديات تحيط بنا من كل جانب بعد أن نزحنا إلى مخيم النصيرات ولم تتمكن بناتي من استخدام جهاز التبخيرة بسبب الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي، بالإضافة إلى صعوبة توفير المكملات الغذائية والفيتامينات. وكانت اللحظة الفارقة هي تعرض مبنى مجاور لنا للقصف المباشر بتاريخ 31 أكتوبر2023، وبسبب استنشاقهما الغبار والأتربة ورائحة البارود، ولحساسية وضعهما الصحي ساءت وتدهورت حالة كل من آلاء وملاك، وبدأت أعراض خطيرة تظهر عليهما كصعوبة التنفس، واصفرار العينين، وانتفاخ كبير في البطن وألم في المعدة، يصاحبه أوجاع في الصدر، وضعف عام في العضلات أفقدهما القدرة على الحركة. قمنا بالتوجه إلى مستشفى غزة الأوروبي للمتابعة الطبية إلا أن عدم وجود طاقم طبي متخصص بعد سفر الكثير من الأطباء حال دون تلقي العلاج المناسب، فتم البدء بإجراءات التحويلات الطبية لهما، لكن تدهورت حالة آلاء وتوفيت بتاريخ 9 يناير2024، ونتيجة ً لبطء آلية تحويل المرضى وإجراءاتها تأخرت ملاك حتى تمكنت من السفر بتاريخ 9إبريل 2024″.
وفي ضوء ما سبق، يجدد المركز الفلسطيني لحقوق الانسان مطالبته المجتمع الدولي بضرورة إجبار اسرائيل على وقف العدوان الحربي والحصار على قطاع غزة، ويدعو الأطراف السامية المتعاقدة على اتفاقية جنيف الرابعة بضرورة الضغط من أجل وقف انتهاكات الحق في الصحة التي ترتكبها اسرائيل بصفتها القوة القائمة بالاحتلال ويقع على عاتقها مسؤولية كفالة واحترام حقوق الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها وحمايتها[4]. ويرى المركز أن كافة المؤسسات الدولية وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية يقع على عاتقها مسؤولية العمل بشكلٍ عاجل لإنقاذ مرضى قطاع غزة وخاصة مرضى الدم والامراض الوراثية من خلال إدراج أدويتهم المتخصصة ضمن قوائم الأدوية الطارئة وادخالها لكافة مناطق قطاع غزة، لاسيما المراكز الصحية في مدينة غزة وشمالها. ويؤكد المركز على أهمية حصول جميع المرضى على حقوقهم في تلقي العلاج المناسب، لذا فإنه يطالب كافة الجهات المعنية بتوفير الإمكانيات اللازمة لعمل مختبرات الدم، خاصةً مرشحات وفلاتر الدم لضمان سلامة عمليات نقل وحدات الدم لهؤلاء المرضى.
——————
[1] معلومات جمعها باحث المركز من أطباء متخصصين بأمراض الدم بتاريخ ١-٢/٤/٢٠٢٤.
[2] مقابلة أجراها باحث المركز مع أ. إبراهيم عبد الله، جمعية أصدقاء مرضى التلاسيميا، بتاريخ: 02/04/2024.
[3] مقابلة أجراها باحث المركز مع م. أشرف الشنطي، مدير جمعية أصدقاء مرضى التليف الكيسي، بتاريخ 30/03/2024
[4] اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، المادة 47.
نسخة تجريبية