أماني رفيق محمد الكفارنة، 36 عاما، أم لـ 8 أبناء، سكان بيت حانون شمال غزة، ونازحة حاليا وسط قطاع غزة.
بعد مرور أكثر من عام مازالت اماني تعاني مرارة وحسرة الفقد، بملامح ذابلة وعيون غارقة بالدموع قالت لي: “كنا معا تحت الانقاض، نادى علي بعلو صوته ليطمئن انني مازالت على قيد الحياة ويخفف عني عتمة المكان، استطعت ان امسك به رغم ثقل الركام على جسدي، لكنه تركني انا واطفاله نواجه قسوة الحياة واختار الشهادة.”
“أنا متزوجة من حسن يعقوب عبد ربه الكفارنة، 40 عاما، وكان يعمل موظف أمن بجامعة القدس المفتوحة- فرع بيت لاهيا، عندي 8 أبناء وهم: رائد، 18 عاما، وبهاء، 16 عاما، وحلا، 14 عاما، ولارا، 12 عاما، وديما 10 أعوام، وملاك، 7 أعوام، ومصطفى، 5 أعوام، وأميرة، عامان.
في حوالي الساعة 6:30 صباح يوم السبت 07/10/2023، بينما كنت أجهز أبنائي للذهاب إلى المدارس سمعنا صوت انفجارات قوية وقريبة جدا، فنحن نسكن بالقرب من الحدود الشرقية الفاصلة في بلدة بيت حانون، وكان زوجي بالعمل وتواصل معي عبر هاتفه النقال، وطلب مني أن نلتزم بالبيت جميعا، وأن أجهز حقيبة الطوارئ، ثم عاود الاتصال بي وطلب مني أن آخذ الأولاد وأتوجه إلى اهلي، حيث يسكنون بالقرب من عيادة الوكالة في بلدة بيت حانون.
وفي حوالي الساعة 10:00 مساء اليوم نفسه، ألقت قوات الاحتلال الإسرائيلي منشورات بضرورة إخلاء بلدة بيت حانون، فخرجنا وتوجهنا إلى منزل أحد الأصدقاء في منطقة قليبو بالقرب من المستشفى الإندونيسي، وتواصل معي زوجي مرة أخرى وطلب مني أن أخرج من المكان إلى إحدى المدارس، وبالفعل توجهت مع أبنائي إلى مدارس أبو زيتون في مخيم جباليا.
صباح يوم الأحد الموافق 08/10/2023، حضر زوجي إلى المدرسة وبقينا معا داخل المدرسة، صوت القصف شديد وقريب، تلقينا خبر استشهاد أكثر من شخص من العائلة والاقارب والجيران.
وفي حوالي الساعة 11:00 صباح يوم الاثنين 09/10/2023 ، خرجت أنا وزوجي إلى سوق معسكر جباليا لجلب الأغراض الاساسية كجرة غاز صغيرة وكيس من الطحين ومجموعة من المعلبات، وبينما نحن بالسوق في منطقة الترنس، حيث يوجد كشك لبيع الكبدة مقابل مول ابو داير، اردنا تناول الفطور، تفاجأت بجسدي ملقى على الأرض ووجهي ملتصق بالأرض وفوقي ركام لا أستطيع الحركة منه أو رفع رأسي، والمكان معتم جدا. وفي تلك الأثناء، سمعت صوت زوجي يقول “ام رائد انت كويسة، لا تخافي سنخرج من هنا.” فشعرت بالاطمئنان عندما سمعت صوته وأدركت أنه بجانبي وأخبرته أنني بخير، وصار ينادي بعلو صوته: “نحن أحياء تحت الردم.” سمعت صوت هاتف زوجي يرن لكنه لم يستطع الرد فالركام علينا ولا نستطيع الحركة. استطعت بعد محاولات أن أحرك اليد اليمنى وأن أخلصها من بين الحجارة فارتطمت بزوجي وكان جسمه شديد السخونة، وبعد ذلك بدأنا نستنشق رائحة حريق قوية دخلت علينا، وعلمت بعد ذلك أن القصف الإسرائيلي تسبب باشتعال عدد من محلات بيع البلاستيك والاسفنج. ناديت زوجي لكنه لم يرد علي، اعتقدت أنه تعب من الركام الملقي على جسده. ثم سمعت صوت الكباش وهو يحفر من فوقي، وفي تلك الأثناء دخل الحصى والرمل والغبار إلى وجهي وعيوني وصرت أصرخ بصوت عالٍ جدا من شدة الألم، فسمع احد الموجودين بالخارج صوتي، وقال : “في حد عايش تحت الردم.” صرخت مرة ثانية، واستطعت أن أخرج اليد اليمنى وأحركها، فهرعوا تجاهي وبدأوا بإزالة الردم وكان فوقي عمود باطون، حيث بقينا تحت الركام أكثر من ثلاث ساعات، فاستطعت رفع الجزء العلوي من جسمي، وصرت أتلفت باحثة عن زوجي، وأطلب وأتوسل من طاقم الدفاع المدني والإسعاف إنقاذه، لأنهم كانوا مشغولين برفع الركام عن الجزء الأسفل من جسدي. وبعد أن استطاعوا أرادوا نقلي إلى المستشفى، ولكني رفضت حتى أرى زوجي، وبالفعل أزالوا الركام عنه لكنه كان قد فارق الحياة، فصرت أصرخ وفقدت الوعي. استيقظت وأنا داخل المستشفى الإندونيسي، والمشفى مكتظ بالمصابين والشهداء الملقون على الأرض، وعلمت أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي قصفت منطقة السوق “الترنس” في مخيم جباليا، المكان الذي كنت به أنا وزوجي. تم تحويلي إلى مستشفى الشفاء وتبين أنني أعاني من تلف بالأعصاب في الشق الايمن بجسدي، وتم تغريز رأسي بـ 40 غرزة، ووجهي بـ 5 غرز، فضلا عن إصابتي بالعين اليمنى. لذلك تم تحويلي إلى مستشفى العيون بحي النصر، وتم إجراء عملية تنظيفات بالعين، فقدت الرؤية بها. ونظراً لشدة القصف والأحزمة النارية المتواصلة على مدينة غزة، وفي 16/10/2023، غادرت المستشفى ونزحت مع ابني الاكبر رائد ووالدتي وشقيقتي أروى، 33 عاماً، إلى منزل أحد الأصدقاء بمخيم النصيرات، وباقي أبنائي مع أعمامهم في مركز ايواء “مدرسة السوارحة” بالنصيرات، فوضعي الصحي لا يسمح بمكوثي داخل مدرسة.
بعد اسبوع انتقلت لأعيش مع أبنائي داخل المدرسة. كان الوضع صعباً وسيئاً للغاية، فالاختلاط مع أشخاص لا أعرفهم، ودورات المياه المشتركة، والدخول بالدور، وشح الماء، وصف الطابور على تعبئة الماء، وانقطاع الغاز، وضرورة إشعال الحطب للطهو، وأنا ممنوعة من الوقوف مباشرة أمام النار ويجب تجنب الهواء الملوث. كان أبنائي يحاولون مساعدتي، وكانوا يكتفون في أغلب الأيام بالسندويشات “الدقة، والزعتر.” ابنتي حلا كانت تتعاون هي ورائد وبهاء في غسل الملابس ونشرها، يساعدوني ويخففون عني، حتى تدهورت الأوضاع في مخيم النصيرات، واشتد القصف الإسرائيلي على المخيم، فبدأ سكان المنطقة بالنزوح. وفي 20/12/2023، نزحنا إلى مدرسة العامرية بحي تل السلطان بمدينة رفح، حيث صنعت خيمة من القماش والخشب، فهي أفضل من الصف، فالاختلاط يجلب الأمراض المعدية، لكنها كانت صغيرة لا تتجاوز 6 م ، فكان ابني رائد، وبهاء ينامون خارج الخيمة في ليال الشتاء القارص، وبدأ اطفالي يعانون من النحافة وشحوب الوجوه، فضلا عن مرض الزكام والسعال الشديد والسخونة التي كانت تعاني منها طفلتي أميرة (عامان)، وانتشار الفطريات بالجسم وحشرات الراس لقلة الاستحمام وعدم وجود ملابس والأغطية الكافية لهم.
ومن الجدير ذكره، أن راتب زوجي توقف لأنه شهيد، فكان هو مصدر الدخل الوحيد لنا، مع العلم أن راتبه كان جيدا ونستطيع أن نعيش منه أنا وابنائي ونشتري جميع الأغراض والمستلزمات التي تنقصنا الآن وعاجزة عن توفيرها.
كنت أعيش حياة كريمة في حياة زوجي، كان يجلب الكماليات والرفاهيات كما يجلب الأساسيات، وكان حريصا أن نخرج أسبوعيا لقضاء وقت ممتع معا ويشتري كل ما يطلبه الأولاد، حجز المدرسين الخصوصيين لابني رائد لأنه كان في مرحلة الثانوية العامة، وكان يطمح أن يصبح طبيبا، فانهدم الحلم وأصبح رائد يقضي وقته بصف طابور على الماء مرة وعلى المخبز مرة، وعلى التكية مرة أخرى.
وفي 15/05/2024، ونتيجة توغل قوات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة رفح، منذ نحو أسبوع، مع تواصل القصف والأحزمة النارية وهدم العديد من المباني السكنية على ساكنيها، اضطررت للانتقال إلى خيمة في موقع التل بدير البلح بجوار خيمة أمي وختي. لكن الحياة ازدادت قسوة وصعوبة خصوصا مع الغلاء، وشح السلع وخصوصا المعلبات والطحين الذي كنت معتمدة عليه في اطعام ابنائي، حتى طعام التكية لا يكفي إشباع ثلاثة من أطفالي فالكمية قليلة جدا. وحتى المساعدات التي كانت توزع في رفح غير متوفرة الآن، فنحن 9 أفراد ننام على 4 فرشات، و4 أغطية، ولا يوجد غاز، ويجمع أبنائي الورق والنايلون والكرتون وقطع البلاستيك لإشعالها لطهو العدس أو المعكرونة في الوقت الحالي.”
وختمت أماني حديثها بتنهيدة تفصح عن القهر الذي تعيشه قائلة: “لو بقي زوجي حسن لما عانيت من ثقل المسؤولية الملقى على عاتقي، وهوّن عليّ مرارة العيش والنزوح والخوف الملازم لي ولأبنائي منذ استشهاده”.