علا محمد سالم صالح، 50 عاما، موظفة في الخدمات الطبية، متزوجة وأم لأربعة أبناء، سكان حي تل الهوى في غزة.
أعطيت هذه الإفادة لطاقم المركز بتاريخ 09/01/2024.
أنا متزوجة من عماد زكريا عبد الله أبو زيدـ 50 عاما، وهو موظف بالسلطة الفلسطينية، ولدي أربعة أبناء أكبرهم يحيى، 19 عاما، وزينة، 17 عاما، وكنزي، 15 عاما، وبتول، 14 عاما، ونقطن في برج السعادة 1 بشارع الأبراج في حي تل الهوى.
في 13/10/2023، ألقى الاحتلال الإسرائيلي عبر طائراته منشورات مكتوب بها بضرورة توجه أهالي غزة والشمال إلى جنوب وادي غزة. وبناء على ذلك تواصلنا مع أحد الأصدقاء من سكان خانيونس، ورحب باستضافتنا، وبالفعل توجهت أنا وأسرتي، حيث يقطن الأصدقاء في منطقة الشيخ ناصر ومكثنا عندهم مدة أسبوعين.
وفي 27/10/2023، قصف الاحتلال المنزل المجاور للمنزل الذي لجأنا إليه دون سابق إنذار أو تحذير، وسقط عدد من الشهداء وأدى القصف إلى إلحاق أضرار بالغة بالمنزل الذي نقطن فيه، وشاهدنا الأشلاء وهي تتطاير وركام المنزل انهال علينا. وخرجنا مسرعين إلى الشارع من شدة الخوف والفزع التي أصابتنا، وقرر أصحاب المنزل الذي نقطن فيه تركه لما لحقه من دمار، وخرجنا معهم وقررنا العودة إلى بيتنا بغزة، ومكثنا مدة يومين فيه.
في حوالي الساعة 2:30 مساءً يوم 29/10/2023، تلقينا اتصالات من قوات الاحتلال بضرورة إخلاء الأبراج لأنها ستتعرض للقصف من الاحتلال، فخرجنا بهدف التوجه إلى مستشفى القدس. ونحن بالطريق إليها قصف الاحتلال بناية أبو القمبز الموجودة بالشارع، ومن شدة الخوف والهلع توجهنا دون تفكير إلى مدرسة بنات تل الهوى الإعدادية، كأقرب مكان أمان بالنسبة لنا، وكان عدد النازحين فيها حوالي 3500 شخص. بدأنا بحياة صعبة كلها تحديات في المدرسة، فالمساعدات عن غزة توقفت، وكنا نحاول تدبر أمورنا بما هو موجود. ونظرا للشح في المواد الأساسية من طعام ومياه غادر عدد كبير من النازحين متوجهين إلى الجنوب، ووصل عددنا بالمدرسة إلى 185 شخصًا.
خلال هذه المدة نفد الماء في المدرسة، ومكثنا مدة أسبوعين بدون ماء، إلى أن نزل المطر فركضنا مسرعين بأخذ الجرادل، ووضعناها في فناء المدرسة وأخذنا الجرادل وانتظرنا أن تمتلئ، واستخدمناها للشرب فقط، والاعتماد بالأكل على المعلبات والنشويات.
في 19/11/2023، تفاجأنا بانتشار قناصة الاحتلال على المباني العالية المحيطة بالمدرسة، حيث كنا متواجدين بالطابق الثاني، وقررنا نحن وجميع النازحين الذين بقوا بالمدرسة النزول إلى الطابق الأول، اعتقادا منا أنه أكثر أماناً، فإطلاق النار الكثيف والقصف العشوائي كان يشعرنا بالرعب والخوف. الأيام من شدة صعوبتها كانت تمر ببطء، حيث مرت علينا أيام لا توصف، فنحن لا نستطيع الخروج من المدرسة والأكل شحيح والمياه غير متوفرة، والنقود التي كانت معنا نفدت والبنوك والصرافات الآلية متوقفة عن العمل في غزة لخطورة الوضع، فضلا عن انقطاعنا عن العالم، فالاتصالات والإنترنت منقطع، وعلمت لاحقا أن صديقاتي في الخارج ارسلوا المناشدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة أي خبر يخصني أنا وأسرتي.
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه (19/11/2023)، توجه زوجي إلى الطابق الثاني لجلب غرض خاص بنا، فأطلق قناصة الاحتلال النار تجاهه وأصابوه بعيار ناري في كتفه الأيسر، واستطاعت إحدى النازحات وهي تعمل ممرضة أن توقف النزيف وتقطب الجرح لدى زوجي، حيث كان معها حقيبة إسعافات أولية.
وفي نفس اليوم صعدت السيدة أم المؤيد حلس لجلب ملابس لأطفالها من الطابق الثاني فتم إطلاق النار عليها من قوات الاحتلال، وأصابتها بعيار ناري بالعنق أدى إلى استشهادها على الفور.
وفي 20/11/2023، صباحا، تفاجأنا بطائرة دورون إسرائيلية تتجول بيننا في فناء المدرسة وتلتقط الصور لنا، مع العلم أننا كتبنا لافتات بخط كبير وباللغة الإنجليزية “حيث كنا نضع لافتات كبيرة كتبناها باللغة الانجليزية وكان المكتوب هو ” نحتاج إلى ماء”، و”إننا مدنيون”.
في صباح اليوم التالي 21/11/2023، علمنا أن قوات الاحتلال متمركزة بالمدرسة المجاورة لنا وهي مدرسة أم القرى، وفي حوالي الساعة 11:30 صباحا من اليوم نفسه، بينما نحن منهمكون في توفير أبسط متطلبات أطفالنا، تفاجأنا باقتحام دبابة إسرائيلية جدار المدرسة، فتجمعنا جميعا وبشكل سريع ككتلة واحدة ووقفنا على أحد جدران الصفوف. حضنت بناتي وأنا أرتجف، ووجوههن تحولت إلى اللون الأصفر وابنتي الصغيرة تبكي، والأخرى وضعت يديها على وجهها وجسدها يرتجف، وأنا أنظر إلى قوات الاحتلال وهم ينتشرون في المدرسة. وكان زوجي بجانبي فأراد التقدم خطوات بسيطة للوقوف أمامنا كنوع من الحماية لنا، فأطلقوا النار المباشر تجاهه فأصيب بثلاثة أعيرة نارية أدت إلى استشهاده على الفور. عندها بدأت بالبكاء وحاولت أن أضع يداي على عيون بناتي وابني حتى لا يروا هذا المشهد الرهيب. ابنتي الكبرى فقدت الوعي، فقامت إحدى النازحات بإمساكها خوفا من أن تسقط على الارض وبدأت بإيقاظها. وتقدم اثنان من أصدقاء زوجي وهما أبو أحمد الحمارنة، وعلي الودية باتجاه زوجي لإسعافه، فأطلق الجنود عليهم النار وسقطوا فوق زوجي واستشهدوا على الفور. حاول ابني يحيى التوجه إلى والده الملقى على الأرض، لكن الشباب أمسكوا به خوفا من إطلاق الاحتلال النار عليه. في تلك الأثناء كنت أود الصراخ بصوت عالٍ والنحيب على المصاب الذي أصابني أنا وأبنائي، لكن صوتي لم يخرج وبقيت واقفة في مكاني احتضن بناتي بقوة. وبدأ جنود الاحتلال ينادون عبر مكبرات الصوت بخروجنا من المدرسة، وعلى مدخل المدرسة من الخارج فصلوا الرجال عن النساء وطبعا ابني الوحيد كان مع مجموعة الرجال، وطلبوا منهم التوجه إلى الشارع الفرعي، المؤدي إلى وزارة الداخلية في حي تل الهوى. كانت المنطقة مدججة بالآليات والدبابات وجنود الاحتلال، فضلا عن القناصات المنتشرة على البنايات المتبقية ولم يتم قصفها وتدميرها. ونحن النساء طلبوا منا رفع أيدينا والسير لعدة خطوات ومن ثم المكوث على ركام بعض الأبراج التي دمرت، حيث البرج الذي كنت أقطن فيه دمر بالكامل. كانت المنطقة موحشة جدا والجثث ملقاة بالشوارع، والدمار في كل مكان. ثم طلبوا منا الوقوف ورفع أيدينا والسير باتجاه حي الزيتون ، ورفضوا السماح لنا بأخذ أغراضنا من المدرسة، حيث استمرينا بالسير مدة تزيد عن 4 ساعات. كنت أسير وأنا أبكي حرقة على زوجي الذي تركته ملقى على الأرض ومعرض لأن تنهشه الكلاب، والقلق على ابني الذي تركته معهم ماذا سيفعلون فيه، وبدأت الأفكار تدور في رأسي .. هل سيعدمونه ؟؟، أم يعتقلوه ويعذبوه؟؟ حتى وصلنا إلى حي الزيتون تحديدا إلى مدرسة المجدل، وبقينا داخل المدرسة مدة أربعة أيام، وكنا ننام على بلاط المدرسة، حيث تبرعت إحدى النازحات التي كان معها القليل من النقود بإحضار صحن رز يوميا من أحد الباعة المتجولين خارج المدرسة، وكل واحدة منا تأكل ملعقة فقط.
وفي 22/11/2023، تلقيت اتصالا من ابني يحيى وأخبرني أن الاحتلال ألقاه عاريا، حيث يرتدي فقط ملابسه الداخلية على مفترق نتساريم، وطلب منه التوجه إلى الجنوب، وأن أحد الاشخاص أوصله إلى مقر الصناعة التابع لوكالة الغوث للاجئين ” الأونروا ” في خانيونس والذي تم تحويله إلى مركز إيواء، وكانت أختي متواجدة به.
وفي 24/11/2023، وكان أول ايام الهدنة، ونظرا لانعدام الحياة بغزة قررت التوجه مع إحدى النازحات إلى جنوب القطاع، فأنا لم أعد أملك المال وهي كان معها جزء من أجرة المواصلات. وعندما وصلت مركز الإيواء ” الصناعة ” دفعت أختي باقي الأجرة، وأخذت ابني وتوجهنا إلى أحد منازل الأصدقاء لأقطن عندهم وهم من عائلة شعت.
وبعد أسبوع حيث انتهت الهدنة، تم قصف المنطقة بحزام ناري وتضرر المنزل الذي كنا فيه والمنطقة، وبدأت قوات الاحتلال تلقي المناشير بضرورة النزوح من مدينة خانيونس.
لم أفكر كثيرا وخفت أن ما حدث معي سيتكرر في خانيونس. أخذت أبنائي وتوجهت إلى رفح، تحديدا إلى مدرسة بنات رفح الإعدادية التابعة لوكالة الغوث بحي تل السلطان، فأنا غير مستعدة على البقاء بمكان غير أمان، حيث خسرت الكثير الذي لا يعوض في هذه الحرب. وها أنا يوميا أصارع مع أبنائي من أجل البقاء، فالمكان مكتظ بالناس، وهو غير مهيئ للعيش وغير نظيف وغير صحي. ابني يحيى مريض “يعاني من ازمة صدرية” يستنشق يوميا دخان النار الناتج عن الورق والحطب والكرتون الذي يستخدمه النازحون لطهو الطعام وإعداد الخبز، فضلا عن شح المياه المالحة والحلوة والتي نشتريها ونعاني في تعبئتها، وغلاء الأسعار المبالغ فيه فطهو أبسط الأكلات ” كالمجدرة ” يكلف 200 شيكل، ومعاناة استخدام دورات المياه فهي دائما مزدحمة وغير نظيفة ولا يوجد بها ماء، وفي حال احتاجت إحدى بناتي التوجه للدورة المياه في ساعات الليل، يجب أن أكون بصحبتها خوفا عليهن .. فلو لم يستشهد زوجي لخفف عني هذه المسؤولية الصعبة التي ألقيت على عاتقي بشكل مفاجئ.
نسخة تجريبية