تاريخ أخذ الإفادة: 1/12/2025
أنا هناء صقر محمد أبو سيف، 36 عاماً، أرملة الشهيد محمد محمد رجب أبو سيف، الذي استُشهد وهو في السادسة والثلاثين من عمره. أنا أم لأربع طفلات يتيمات: فاتن، 13 عامًا، رزان، 12 عامًا، ليان، 8 سنوات، ونوال، 5 سنوات. كنت أعيش مع أسرتي في خان يونس، في أبراج مدينة حمد، قبل أن نُجبر على النزوح بسبب الحرب. نحن نقيم الآن في مركز إيواء اللجنة المصرية في الزوايدة بعد أن فقدنا منزلنا واستقرارنا.
قبل السابع من أكتوبر 2023، كانت حياتنا مستقرة، ومعيشتنا كريمة بفضل عمل زوجي كسائق على سيارة يعمل عليها بنظام الأجرة الأسبوعية. ورغم أنه كان يعاني من مرض في القلب، إلا أنه لم يتوقف يومًا عن بذل جهده لرعاية أسرته، وكان دائمًا يسعى ليضمن لبناته حياة مستقرة وآمنة. كبرت بناتي في بيت يملؤه الهدوء والحب، ولم يخطر ببالنا يومًا أن تنقلب حياتنا بهذا الشكل، وأن نفقد الأمان الذي كنا نعرفه فجأة برحيل الرجل الذي كان عمود هذا البيت.
في صباح 7 أكتوبر 2023، كان زوجي يستعد للذهاب إلى عمله، وكانت بناتي يجهزن حقائبهن للمدرسة. فجأة سمعنا أصواتًا غريبة؛ ظننتها أول الأمر صوت رعد، لكن الصوت كان أقوى وأقرب بكثير. توجهنا إلى نافذة الشقة، وما إن رأينا الصواريخ في السماء حتى أدركنا أن ما يحدث ليس أمرًا عابرًا، بل بداية حرب كبيرة ستغيّر كل شيء.
فتحت الإنترنت بسرعة لأتابع الأخبار، وفي نفس اللحظات وصلنا منشور من إدارة المدرسة يفيد بتعليق الدوام. قررنا عدم إرسال البنات فورًا خوفًا مما قد يحدث. ومع الأيام الأولى للحرب، كان الخوف يسيطر علينا بالكامل، وشعرنا أن القادم سيكون الأصعب.
في الأسابيع الأولى من الهجوم العسكري الاسرائيلي على غزة، كان الخوف والقلق يخيّمان على كل شيء، لكن وجود زوجي قربنا كان يمنحني أنا وبناتي قدرًا من الأمان وسط كل هذا الرعب. ومع استمرار الحرب، بدأت الحياة تصبح أكثر قسوة، نقص في الطعام والماء، ضعف في الاتصال، وشعور دائم بالتهديد والخطر وفقدان الأحبة.
في بداية ديسمبر 2023، طلب الجيش الإسرائيلي من سكّان أبراج مدينة حمد إخلاء الشقق تمهيدًا لقصف الأبراج. غادرنا شقتنا على عجل، ونزحنا إلى جامعة القدس المفتوحة. داخل الجامعة عشنا ساعات طويلة من الرعب الحقيقي؛ كانت الانفجارات قريبة جدًا، والجدران تهتز من شدة القصف.
وفي صباح اليوم التالي، اضطررنا للمغادرة مجددًا بعد اشتداد القصف وسقوط قذائف المدفعية والقنابل الدخانية حول المكان. اتجهنا نحو رفح وأقمنا في منطقة تلّ السلطان، داخل حفرة عميقة قريبة من بركسات وكالة الغوث. كانت رحلة النزوح مرهقة ومهينة بكل ما تعنيه الكلمة؛ لم يكن مع زوجي أي مبلغ للمواصلات، ولم نملك خيارًا سوى المشي والتنقّل بما نستطيع. وكانت المعيشة داخل تلك الحفرة قاسية إلى حدّ لا يمكن وصفه، وبرغم محاولتي أن أروي ما مررنا به، تبقى الحقيقة أوجع بكثير من أي كلام.
لم يكن مع زوجي ما يكفي لشراء خيمة، ولولا لطف الله ثم فاعل خير لا نعرفه، وقف معنا واشترى لنا شوادر وخشب، وساعد زوجي على بناء خيمة صغيرة لنا، لما وجدنا مأوى نلجأ إليه. ورغم أنها كانت تفتقر للخصوصية تمامًا، وتدخلها الحشرات، ويخترقها البرد القارس كل ليلة، إلا أنها كانت كل ما نملك. كانت الحياة في تلك الخيمة امتحانًا يوميًا للصبر والمعاناة.
أما المياه، فكان الحصول عليها معاناة أخرى؛ كنا نقف لساعات طويلة في طوابير ممتدة لنتمكن من تعبئة ما يكفينا للشرب والاستخدام، وكانت المسافات التي نقطعها شاقة ومتعبة، خاصة مع وجود الأطفال.
ومع دخول الشتاء، تحولت حياتنا إلى كابوس حقيقي. هطلت الأمطار بغزارة، وغرقنا بالكامل، وجاءت السيول تتدفق نحونا مباشرة. نمنا فوق مياه الأمطار، وتغطينا ببطانيات مبللة بالكامل. كانت تلك من أسوأ أيام حياتي؛ بكيت كثيرًا، وتدهورت حالتي النفسية، ومرضت بناتي من شدة البرد والرطوبة. وكان زوجي، رحمه الله، يعمل سائقًا على الخط خلال وجودنا في رفح ليحاول تأمين ما نستطيع العيش به، لكن الحزن الشديد والضغط النفسي تسبّبا له بمضاعفات خطيرة في القلب. ومع تدهور حالته الصحية، أخذته إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، حتى يفحصوه ويطمئنّ على وضعه.
بينما كنّا نعيش في رفح في بداية يناير 2024، وصلنا خبر استشهاد زوجة شقيقي من عائلة الغفري، بعد أن استُهدف منزل أهلها في منطقة الصحابة بصاروخ من الطيران الحربي الإسرائيلي دون أي تحذير. كانت مجزرة كبيرة، فالمنزل كان مليئًا بأفراد عائلتها والنازحين الذين احتموا به، واستقبالنا لهذا الخبر زاد من جراحنا وأحزاننا التي لم تلتئم بعد.
وبعد فترة قصيرة، ومع انسحاب الجيش الإسرائيلي من مدينة حمد، قررنا العودة إلى شقتنا رغم كل المخاطر التي كانت تحيط بالمكان. مشاهدتنا للعمارة ما زالت واقفة أعطانا بصيص أمل للتمسك بالحياة من جديد. إضافة إلى ذلك، لم تعد بناتي قادرات على احتمال العيش في الخيمة؛ فقد كانت أيام النزوح قاسية على أجسادهن الصغيرة ونفسياتهن المتعبة. كنّا جميعًا نبحث عن أي مساحة تمنحنا القليل من الدفء والأمان.
عدنا إلى شقتنا ونحن نحمل معنا حلمًا صغيرًا بالاستقرار، لأن الحياة داخل الخيمة لم تكن حياة: برد لا يُحتمل، غياب كامل للخصوصية، حشرات، ومطر قادر على إغراق المكان في لحظة واحدة. وعندما دخلنا الشقة وشعرنا بحرارة الجدران وملمس الأمان، أدركت كم كنا بحاجة إلى هذا الشعور، ولو بشكل بسيط.
ورغم ذلك، لم تكن الظروف في مدينة حمد سهلة على الإطلاق، كان الخطر حاضرًا في كل زاوية، والقصف لا يزال قريبًا. لكن الأمر الذي أجبرنا على البقاء هو الذكرى التي لا تغيب عن بالنا: ليلة غرق الخيمة.. كنا نرتجف من البرد، والمطر يغمر المكان، والبطانيات مبللة، وبناتي يحاولن النوم وسط المياه. تلك اللحظة وحدها كانت كافية لأتمسك بالبقاء في الشقة مهما كلف الأمر. فبالرغم من كل المخاطر الموجودة حولها، كانت الشقة تحمينا من برد الشتاء القارس وحرّ الصيف، ومن الحشرات وقسوة النزوح. وفيها على الأقل مساحة من الخصوصية والراحة الإنسانية التي حُرمنا منها طويلاً.
مع بداية شهر أغسطس 2024، فوجئنا بالجيش الإسرائيلي يلقي مناشير فوق مدينة حمد وضواحيها، ومعها تقدّمت الآليات العسكرية الإسرائيلية بشكل مفاجئ تحت غطاء ناري كثيف وقذائف مدفعية لا تتوقف. كان المشهد مرعبًا بكل معنى الكلمة؛ الخوف كان يملأ المكان، والتوتر يسيطر على كل لحظة.
وفي ذلك اليوم تحديدًا، كان زوجي يشعر بتعب شديد؛ كان وجهه منتفخًا وعيناه متورمتين، ونظر إليّ وقال لي:
“وين نروح؟ ما عندي خيمة أو مكان نقيم فيه… ومش عارف إيش رح يصير.” حاولت بكل قوتي أن أطمئنه، وشرحت له أن المناشير تعني ضرورة الإخلاء لحماية حياتنا، لكنه كان غارقًا في الحيرة والخوف، ثم قال لي: “بدي أأمنك إنتِ والبنات عند شقيقاتك نسرين ورسمية.. وهم نازحات في مدرسة بمنطقة الظهرة.”
في البداية رفضت كلامه، وسألته: “ليش ما بدك تطلع معنا؟ ليش تضل بالشقة لوحدك؟” لكنه ظلّ مصرًّا على موقفه، ومع إصراره الشديد اضطررت أنا والبنات للذهاب إلى شقيقاتي في مدرسة الظهرة.
عندما أوصلنا زوجي إلى المدرسة، حاولت مرة أخرى إقناعه بالبقاء معنا: “خليك معنا، ما في داعي تروح، طالما في إخلاء.” حتى أزواج شقيقاتي حاولوا إقناعه، لكنه شرح للجميع أنه لا يستطيع المغادرة؛ الشقة ربما تُسرق إن بقيت خالية، وظروفنا المادية لا تسمح لنا بخسارة ما تبقى. كما أن الإقامة داخل الصف في المدرسة قد تقيّد شقيقاتي من أخذ حريتهن، ولم تكن لدينا خيمة نستطيع وضعها بجانب المدرسة. تعددت الأسباب، وفي النهاية رفض البقاء رغم كل المحاولات.
عاد زوجي إلى مدينة حمد، لكنّه كان يتواصل عبر الهاتف معي يوميًا ليطمئن عليّ وعلى البنات، وكان يزورنا في المدرسة يوماً بعد يوم، حتى في أخطر الأوقات لم يتخلّ عنا. خلال وجوده هناك، كان الجيش الإسرائيلي يتمركز على أطراف المنطقة، بينما بقي عدد من شباب الجيران، من 7 إلى 8 أشخاص، على أمل أن ينسحب الجيش في أي لحظة.
أما نحن في المدرسة، فكانت الحياة لا تُطاق. ثمانية أيام من النزوح داخل الصفوف كانت كفيلة باستنزاف أعصابنا:
ازدحام شديد، غياب للراحة والخصوصية، ضوضاء لا تهدأ من صراخ الأطفال، وطوابير طويلة أمام دورات المياه… وفي كل لحظة كان الخوف على زوجي يكبر داخلي، لأن أحدًا لم يكن يعرف ما قد يحدث في اليوم التالي.
في اليوم الثامن من نزوحنا، ومنذ الصباح وحتى المغرب، لم يصلني أي اتصال من زوجي. حاولت الاتصال به مرات كثيرة، لكن لم يكن يجيب. بدأ الخوف يتسلل إلى قلبي شيئًا فشيئًا، وكنت أسمع في المدرسة أصوات القصف من الطيران الحربي الإسرائيلي على أبراج مدينة حمد، والانفجارات التي كانت تُسمع بوضوح حتى في الظهرة غرب خان يونس.
نزلت إلى ساحة المدرسة، وكانت الأخبار التي يتداولها الناس عن قصفٍ شديد على مدينة حمد تزيد قلقي. كان لون السماء يميل للأحمر مع غروب الشمس، وشعرتُ لأول مرة منذ بداية اليوم بشيء ثقيل ومخيف في صدري، إحساس لم أعرفه من قبل… إحساس بأن شيئًا سيئًا يحدث.
عدت إلى الصف وأخبرت شقيقتي بأن زوجي لم يتصل طوال اليوم، وقلت لها: “إنتِ عارفة طبعه… مستحيل يمر يوم بدون ما يتواصل معنا أو يطمن علينا، وآخر مرة زارنا كانت قبل يوم واحد بس، بتاريخ 15/08/2024.” حاولت شقيقتي تهدئتي وقالت: “يمكن يكون نزل على دير البلح عند أخوته.” لكنني كنت واثقة من داخلي وقلت لها:
“مستحيل… لو راح، مستحيل يروح بدون ما ييجي يطمن علينا.” وأثناء حديثي معها، سمعنا الناس يتحدثون بأن الآليات العسكرية الإسرائيلية اجتاحت مدينة حمد. عندها ذكّرتني شقيقتي نسرين بالتواصل مع أهلي في شمال غزة للاطمئنان عليهم. وضعت الشريحة في الهاتف، وما إن وضعتها حتى رنّ الهاتف بيد شقيقتي. ردّت شقيقتي دون أن تعرف من المتصل، وما إن أخذت الهاتف منها حتى سمعت صوت جارنا أبو صبري.
سألته مباشرة عن زوجي، فأجابني بصوت متردد: “في شاب استشهد… وشاب تصاوب.” حاولت أن أسأله عن زوجي تحديدًا، لكنه صمت فجأة… ثم طلب رقم شقيقه. أعطيته رقم شقيق زوجي، لكن في تلك اللحظة شعرت بأن قلبي يسقط من مكانه. غمرني الشك والرعب، وبدأت أبكي وأصرخ دون إرادة مني.
بتاريخ 16/08/2024 انقطع الاتصال بزوجي نهائيًا.
وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من مدينة حمد بتاريخ 24/08/2024، تمكن رجال الإسعاف من دخول المنطقة وانتشال جثمانه. وعندما رأيته ملفوفًا بالكفن، وعليه إصابات واضحة في رأسه وجسده نتيجة صاروخ حربي إسرائيلي… كانت تلك اللحظة أفظع ما مررت به في حياتي. شعرتُ أن روحي خرجت من جسدي، وأن السند الذي كنت أعتمد عليه أنا وبناتي قد رحل إلى الأبد. انهارت حياتنا في لحظة واحدة، وتغير كل شيء إلى الأبد.
بعد أن انقطع الاتصال مع زوجي وأدركتُ أنه استشهد، دخلتُ في حالة نفسية لا تُوصف. كان الشعور بالفقد كبيرًا، والفراغ عميقًا لدرجة أنني لم أستطع البقاء في الشقة مع بناتي ولو ليلة واحدة. الجو كان ثقيلًا بالحزن والخوف، وكل زاوية في الشقة كانت تذكرني به وبحياتنا التي غابت فجأة. وبعد أيام عصيبة لا تُحتمل، اضطررت للعودة إلى المدرسة حيث تقيم شقيقتاي نسرين ورسمية، بحثًا عن أي ملاذ مؤقت يحميّني أنا وبناتي، وعن أقل قدر من الأمان وسط هذه الظروف القاسية.
استشهاد زوجي غيّر حياتنا بالكامل. أصبحنا نشعر بالوحدة وانعدام الأمان، وغياب السند الحقيقي الذي كان يحمينا ويقف بجانبنا في كل تفاصيل الحياة. فجأة أصبح كل العبء عليّ وحدي، خاصة مع ابنتي الكبيرة فاتن التي حملت جزءًا من هذا الحمل رغم صغر سنها. بناتي الصغيرات لم يتوقفن عن سؤالهن الدائم عن والدهن، وهذا وحده كان يكسر قلبي كل يوم ويزيد من حجم الفراغ والحزن.
ولاحظتُ تغيرًا كبيرًا في شخصية فاتن بعد استشهاد والدها. أصبحت أكثر هدوءًا وحزنًا، وتميل للعزلة، وفقدت الكثير من مشاعر الأمان والاستقرار. الضغوط النفسية كانت هائلة عليها بسبب الظروف القاسية التي نعيشها، لدرجة أنها بدأت تُظهر مؤشرات خطيرة من ضيق شديد، اندفاع وتهور، وخوف متراكم… حتى وصلت إلى محاولات الانتحار أكثر من مرة. كانت تمرّ بلحظات معتمة جدًا، لكن رحمة الله كانت تسبق كل شيء وتنقذها في كل مرة.
وما زلت حتى الآن أحاول بكل ما أملك أن أثبّت فاتن وأخفف عنها. فهي طفلة تحملت فوق طاقتها بكثير. أصبحت تسرح طويلًا، وتتصرف بعصبية، وتقول لي مرارًا: “ما في حياة بعد بابا.” كل ذلك كان جزءًا من ألمها وصدمتها.
تلقت فاتن أربع جلسات دعم نفسي فقط، ثم توقف الدعم تمامًا. ونحن جميعًا بحاجة إلى دعم نفسي مستمر، أحاول احتواءها، وأحاول أن أخلق لبناتي أي مساحة صغيرة من الفرح والأمل، رغم أن الحمل أثقل بكثير مما أستطيع احتماله وحدي.
بعد فقدان المعيل الوحيد، أصبحت المسؤولية على كتفي أكبر بكثير مما أستطيع تحمله. الضغط النفسي لا يُحتمل. نعتمد الآن في طعامنا على تكية الطعام التي توزع داخل المخيم. بناتي يشعرن بالخجل الشديد أثناء تعبئة المياه.
مسألة المياه بحد ذاتها أصبحت مصدر ألم يومي.. فبناتي يسألنني دائمًا: “ماما.. ليش ما عندنا أخ يساعدنا ويحمل المياه؟” وهذا السؤال وحده يكشف حجم الفراغ الذي تركه والدهن، وحجم الحاجة التي لم يعد بإمكاني سدّها.
خلال الهدنة الثانية في يناير 2025، كانت ظروفنا صعبة إلى حد كبير. تقلبت عليّ الأحزان، واشتدت عليّ المواجع، وكنت أتمنى في كل لحظة لو أن زوجي، رحمه الله، كان بيننا، ليشاركنا تفاصيل حياتنا اليومية ويخفف عنا. كان دائمًا يحلم بأن تتوقف الحرب لنعيش بأمان واستقرار، وأنا وبناتي كنا نتمسك بذلك الأمل رغم كل شيء.
خلال الهدنة كان هناك خروقات مستمرة من الجانب الإسرائيلي، قصف، أصوات طيران، وانفجارات متقطعة. هذا أثر على بناتي نفسيًا بشكل كبير، كنّ يعانين من الكوابيس، والقلق المستمر، ولم يكن يشعرهن بالأمان سوى وجودي إلى جانبهن بعد رحيل والدهن.
أيام المجاعة كانت الأسوأ على الإطلاق. بناتي كنّ يعانين من سوء تغذية شديد، أصبح جسدهن هزيلاً، وكنّ يقضين أغلب الوقت مُلقَيات على الأرض من شدة التعب والضعف. وعندما كان الناس يذهبون إلى أماكن المساعدات في موراج ورفح ونتساريم وزكيم، لم أستطع الذهاب بسبب خطورة تلك النقاط، وهذا ضاعف خوفنا وقلقنا. كنا دائمًا جائعات، نبحث عن أي شيء يسد رمقنا.. تلك الأيام لا تُنسى.
وفي 20/09/2025، وصلني خبر استشهاد والدي من جيران أهلي، بعد قصف مدينة الشيخ زايد شمال القطاع. كان يعيش في أبراج الشيخ زايد. رحيله كان صدمة أخرى فوق صدماتنا؛ فقد كان يساعدنا ويقف إلى جانبي بعد فقدان زوجي، وكان حنونًا للغاية على البنات. وكان وجوده يمنحنا قدرًا من الأمان الذي حُرمنا منه كثيرًا.
وفي وقف إطلاق النار الحالي منذ أكتوبر 2025، ما زالت الحياة قاسية. لم يتحسن شيء بشكل حقيقي. مصادر الخطر والخوف ما زالت تحيط بنا؛ كل يوم نسمع عن تفجيرات وخروقات إسرائيلية، وبناتي يعشن حالة خوف مستمرة. نحن نعيش اليوم في خيمة تعاني من البرد الشديد، ونقص في الملابس والأغطية والفرش، وهذا يزيد معاناتنا.
اروي ما حدث لنا وأنا أحمل في داخلي كل ما عايشته من فقد ونزوح وخوف، وما واجهته بناتي من صدمات نفسية وحرمان من التعليم والاستقرار. الوضع النفسي لبناتي لم يتحسن، بل ازداد سوءًا. كأن الحرب لم تكتفِ بما أخذته منا. فلا يزال الألم يلاحقهن كل يوم.
ما مررنا به لم يكن مجرد ظروف، بل جرائم طالت حقنا في الحياة الكريمة والأمان، وغيّرت مسار حياتنا بشكل دائم.