تاريخ اخذ الإفادة: 10/11/2025م
نصرة محمد إبراهيم عسلية، متزوجة، 47 عاماً، سكان جباليا البلد بجوار المسجد العمري سابقاً، حالياً نازحة في الرمال- مدرسة مصطفى حافظ
أنا نصرة محمد إبراهيم عسلية، متزوجة وأم لستة أبناء، خمسة ذكور وبنت واحدة، كنا نعيش حياة هادئة ومستقرة في منزلنا الكائن في جباليا البلد قرب المسجد العمري. كانت حياتنا بسيطة وسعيدة، وأبنائي يكبرون مليئين بالطموح والأمل، يحلمون بمستقبل مشرق بعد تخرجهم من الجامعة، مثل أي شاب يسعى لبناء حياته. لكن هذا الهدوء تبدّد يوم السبت، السابع من أكتوبر 2023.
بات الوضع خطيراً إلى حد لا يمكن البقاء معه في البيت، أخبرني ابني الأكبر أحمد، 31 عاماً، بأن علينا مغادرة البيت فورًا لأن القصف الإسرائيلي أصبح يقترب، وقوات الاحتلال الإسرائيلي تقصف المنازل. في تلك الأثناء علمنا أن ابني محمود، 26 عاماً، قد خرج ولم يعد.
لاحقًا، وصلنا الخبر الذي مزّق قلبي إلى الأبد، محمود استُشهد. كان شقيقه محمد معه وقت الاستهداف، وشاهد اللحظة التي سقط فيها أخوه شهيدًا أمام عينيه، لكنه لم يتمكّن من نقل جثمانه. عندما سألته عن السبب، أجابني والدموع تملأ عينيه: “يا أمي، روح أخي صعدت إلى السماء، لكن كان هناك شاب جريح ما زال يتنفس، فأنقذته لأن فيه أمل بالحياة.” لم نتمكن من إقامة عزاء له، فالقصف والخوف والنزوح كانا يسيطران على كل شيء. كان محمود حديث التخرّج ومتزوجًا منذ تسعة أشهر فقط، مليئًا بالحياة والأحلام.
اضطررنا لمغادرة منزلنا في جباليا ونحن نحمل حزننا وألمنا، وانتقلنا إلى غزة البلدة القديمة، حيث لجأنا إلى بيت ابنتي المتزوجة. بقينا هناك حتى التاسع عشر من ديسمبر 2023، رغم التهديدات المتكررة من جيش الاحتلال بإخلاء المنطقة. أبنائي رفضوا النزوح إلى الجنوب رغم إدراكهم لخطورة الوضع، متمسكين بالبقاء في أرضهم وبيوتهم، بينما كنت أعيش بين الخوف والحنين والحزن العميق على ابني الذي غاب جسده عني، لكن ذكراه لا تفارقني أبدًا.
في ليلة التاسع عشر من ديسمبر 2023، عند الساعة التاسعة مساءً، اشتد القصف الإسرائيلي على المنطقة التي كنا نلجأ إليها في البلدة القديمة بغزة. كانت القذائف تتساقط بكثافة على المباني المحيطة بنا، وتحديدًا على الطوابق العليا، من دبابات الجيش الإسرائيلي المتمركزة شرق حي الشجاعية، بالتزامن مع قصف جوي عنيف شنّته الطائرات الحربية الإسرائيلية. عشنا تلك الليلة في رعب لا يوصف، لم نذق طعم النوم حتى طلوع الفجر، والخوف يسيطر على قلوبنا جميعًا.
فجأة، حضر شقيقي، محمد عسلية، في ساعة متأخرة من الليل، وطلب من أولادي أن يخرجوا معه ليتحدث إليهم خارج المنزل. شعرت حينها بقلقٍ شديد، وكنت أراقبهم من بعيد. بعد دقائق عادوا وملامح الحزن واضحة على وجوههم، لكنهم لم يخبروني بما قاله لهم، وكأنهم يخشون أن يثقلوا قلبي أكثر.
في صباح اليوم التالي 20 ديسمبر 2023، كنا نستعد لمغادرة المكان بسبب اشتداد القصف، فغادرنا متجهين نحو جباليا. وعندما وصلنا إلى مدرسة أربيكان، اقتربت مني مجموعة من نساء العائلة، والحزن يملأ وجوههن. علمت منهن الخبر الذي هز كياني، ابني محمد، 18 عاماً، قد استُشهد فجر يوم 20 ديسمبر 2023، عند الساعة الثالثة صباحًا، بعد استهدافه بصاروخ من طائرة مُسيّرة إسرائيلية (زنانة) في منطقة تُسمّى سراري في جباليا. وقع الخبر عليّ كالصاعقة، لم أستطع التحدث أو حتى البكاء، وشعرت وكأن جسدي انهار من شدة الصدمة.
بعد قليل، اتصل بي زوجي وطلب مني أن أنزل من الصف في المدرسة، فخرجت، وما إن وصلت إلى الساحة حتى التقيت بابني أحمد. كانت عيناه تفيض دموعًا وهو يقول لي: “يا أمي، عوّضك الله.. عبد الرحمن استُشهد.”
لم أستوعب ما سمعت. لم يمضِ وقت على استشهاد محمد حتى جاء خبر فقدان عبد الرحمن، 21 عاماً، الذي استهدفه صاروخ من طائرة مُسيّرة أثناء وقوفه أمام محل سوبر ماركت في جباليا، في الساعة الحادية عشرة صباحًا من اليوم نفسه، يوم نزوحنا إلى المدرسة ويوم رحيل شقيقه محمد.
كان عبد الرحمن شابًا خلوقًا ومتفوقًا، حصل على معدل 92% في الثانوية العامة، ودرس تخصص تكنولوجيا المعلومات، كان ذكيًّا وهادئًا، أفتخر به وأعلّق عليه آمالي في المستقبل. أتذكّر آخر لحظاتي معه قبل استشهاده، حين كنا نسير معًا في الطريق نحو مدرسة أربيكان، وكان قد اشترى لي عصيرًا. نظرت إليه وقلت له ممازحة: “يا عبد الرحمن، والله الحرب ما أثرت عليك… ما أحلاك اليوم، متشيّك ومهندم.” لم أكن أعلم أن تلك النظرة ستكون الأخيرة، نظرة وداعٍ أمّ لابنها دون أن تدري. بعد ساعة واحدة فقط وصلني خبر استشهاده.
كانت المقبرة قريبة من المدرسة، فخرجت لتوديعه وأنا في حالة انهيار تام. رأيته في النعش، رفعت الغطاء عن وجهه لأراه لآخر مرة، ولم أستطع إلا أن أودّعه بعينين غارقتين في الدموع وقلب يتمزق. فقدت في يوم واحد ابني محمد وعبد الرحمن، ولم أستطع حتى أن أدفن محمد، إذ لم يتمكن طاقم الإسعاف أو الدفاع المدني من سحب جثمانه لأنه كان قريبًا من دبابة إسرائيلية في منطقة السراري. ذلك اليوم سيبقى محفورًا في قلبي إلى الأبد، يوم فقدت فيه اثنين من أبنائي في نفس اليوم.
بعد يومين فقط من لجوئنا إلى مدرسة أربيكان، اقتحمها الجيش الإسرائيلي في 22 ديسمبر 2023، وأجبرونا على مغادرتها تحت إطلاق النار باتجاه غرب غزة. كانت تلك لحظات لا تُحتمل، كيف أترك جثمان ابني ملقى خلف دبابة وأمضي؟ كانت أقسى لحظة في حياتي، حين اضطررت إلى ترك قطعة من قلبي هناك، لا أعرف أن كانت الكلاب الضالة ستنهش جسده أم ستمر فوقه الآليات. بقي محمد خلف الدبابة الإسرائيلية، ولم نتمكن من استعادة جثمانه. خرجنا من المدرسة ونحن محطمون نفسيًا، ونزحنا إلى مبنى الجامعة الإسلامية، حيث عشت عشرين يومًا في حالة نفسية مأساوية. كنت أعدّ الساعات والدقائق على أمل العودة إلى جباليا لاستعادة جثمان ابني، وأدعُ الله يوميًا أن يحفظه من الأذى. بعد عشرين يومًا عدت إلى المدرسة، ووجدت جثمانه، ودفنته الى جوار شقيقه بتاريخ 10 يناير 2024. حينها فقط، هدأ قلبي قليلًا.
ومضت الشهور بعد ذلك مثقلة بالوجع، لا تشبه إلا بعضها. كنا نعيش فقط لأننا مضطرون إلى العيش، نحمل ذكريات أبنائي ونحاول أن نلتقط أنفاسنا وسط هذا الخراب. وهكذا، حتى يوم25 ديسمبر 2024، وبينما كنت أعد القهوة لابني أحمد،31 عاماً، جلس إلى جواري، وكانت طائرة “الكواد كابتر” تحلق فوق المدرسة. كنت خائفة عليه، فقدت ثلاثة من أبنائي ولم أحتمل فكرة فقده أيضًا. توسلت إليه ألا يخرج من المدرسة، لكنه ابتسم وقال بهدوء: “يا أمي، لا تخافي، الموت والرزق بيد الله، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، سأبيت الليلة عند أصدقائي، لا تقلقي عليّ.”
وفي منتصف الليل، قرابة الساعة الثانية صباحًا، تلقيت اتصالًا يخبرني بأن أحمد استُشهد بصاروخ أطلقته طائرة F-16 أثناء وجوده مع أصدقائه قرب الجامع العمري في جباليا البلد. لم أصدق، وقضيت الليل كله في قلق وانتظار حتى طلوع الصباح. هرعت إلى مستشفى المعمداني وأنا أرجو أن يكون مصابًا فقط، لكني وجدته مسجى بين الشهداء. تعرفت عليه من حذائه. رأيت العشرات من الجثامين، وشعرت حينها أن قلبي توقف. كان أحمد هو الرابع الذي أفقده من أبنائي، لكني سلّمت أمري لله وتقبلت قضاؤه مؤمنة صابرة، فهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وسألقاهم يومًا ما.
دُفن أحمد بجوار شقيقيه عبد الرحمن ومحمد، لتُصبح قبورهم الثلاثة متجاورة. نُزع من صدري ثلاثة قلوب، واحدًا تلو الآخر. وفي مايو 2025، اضطررنا للنزوح مجددًا من جباليا بعد الاجتياح الأخير إلى مدرسة مصطفى حافظ في حي الرمال.
ومع اشتداد حدة الحرب في سبتمبر 2025 ونحن ما زلنا في مدرسة مصطفى حافظ، أصبحت المنطقة هدفًا دائمًا للقصف، ليالٍ من التفجيرات وأصوات “الروبوتات” العسكرية وقناصة الجامعة الإسلامية جعلت الخروج من المدرسة مستحيلًا. كانت طائرات “الكواد كابتر” تحوم ليلًا ونهارًا وتطلق النار على المدنيين، حتى استُهدفت المدرسة أكثر من مرة ونحن داخل الصفوف.
وقبل إعلان وقف إطلاق النار، وصلنا تحذير من إدارة أصدقاء المريض بضرورة إخلاء المدرسة منتصف الليل استعدادًا لقصفها. خرجنا مسرعين في ظلمة الليل تحت أزيز الطائرات والقصف المستمر، وتركنا كل ما نملك خلفنا. نزحنا نحو منطقة السرايا ننتظر انفجار المكان. وعندما تم تفجيره صباحًا، عدنا بخوف لنرى آثار الدمار، وكلنا رهبة من تقدم الدبابات الإسرائيلية نحو الجلاء.
نار فراقهم لا تبرد، تتجدد كل يوم. كأنهم استشهدوا بالأمس.. هم في قلبي دائمًا، لا يغيبون عن ذاكرتي لحظة. أستحضر تفاصيل حياتهم وأنا أعدّ الطعام، أضع الملاعق بعددهم ثم أتذكر أنهم رحلوا. كنت أحلم بإكمال دراستي الجامعية بعد تخرّج أبنائي، لكن برحيلهم فقدت حياتي وأحلامي جميعًا.
كانت أيامهم أجمل أيام حياتي، في الأعياد يزورونني واحدًا تلو الآخر، يقدمون العيديات في مظاريف مزخرفة، ويتنافسون أيها الأجمل. يوم الجمعة كان يومنا العائلي، نلتقي فيه أنا وهم وزوجاتهم، نضحك ونتحدث ونتقاسم الفاكهة والشاي والمكسرات. كانت لمّتنا دفء البيت والحياة. كنت أوصيهم دائمًا أن يبقوا معًا بعد موتي، ولم أكن أعلم أني سأفقدهم في حياتي. كم هو مؤلم أن تعيش أمّ مرارة الفقد وحرمانها من أبنائها إلى الأبد.
كل شيء تبدّد تحت صواريخ الاحتلال التي خطفت أرواح أبنائي ودمرت بيتنا المكوّن من أربعة طوابق، ولم يتبقَّ لنا سوى البقاء منذ خمسة أشهر في مدرسة مصطفى حافظ بعد اجتياح جباليا. بقي لي ابن واحد فقط، عبد الله، 25 عاماً، يعيش في ظل ضغط نفسي شديد، وقد أصبح خوفي الأخير. أخشى أن يفقد توازنه النفسي والاجتماعي من شدة ما نحيا فيه من خوف وحرمان.
اليوم وبعد وقف إطلاق النار، أشعر بعجزٍ عميقٍ لعدم قدرتي على حماية أبنائي أو إنقاذهم، وهو إحساس يلازمني، كأن واجبي الأمومي في الحماية تحوّل إلى شعور دائم بالذنب وفقدان الرغبة في الحياة، حتى بات الموت أمنية لألتحق بهم.
اصبحت اميل الى الانعزال والانطواء، لم اعد قادرة على المشاركة الاجتماعية أو الشعور بالفرح. اليوم، كل ما أريده هو أن يُوثّق هذا الألم، ليبقى شهادة حيّة على ما فعله الاحتلال بعائلة كانت تحلم بالحياة، فجازاها بالموت الجماعي.