نوفمبر 25, 2025
مع انطلاق حملة 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة: نساء غزة يواجهن غياب الحماية الدولية
مشاركة
مع انطلاق حملة 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة: نساء غزة يواجهن غياب الحماية الدولية

يصادف اليوم انطلاق حملة 16 يوماً من العمل لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وهي حملة دولية سنوية يقودها المجتمع المدني حول العالم للدعوة إلى منع العنف ضد النساء والفتيات ومواجهته باعتباره من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشاراً. وفي الوقت الذي يرفع فيه العالم شعارات الحماية والمساواة، تعيش نساء قطاع غزة واقعاً يتجاوز كل ما يمكن أن تصفه الحملة، إذ يمتد العنف ليطال مقومات الحياة الأساسية وحق الوجود ذاته. فتجد المرأة الغزّية نفسها تكافح يومياً من أجل البقاء وسط نزوح متكرر، وانعدام للأمان، وفقدان للمأوى والأزواج والأبناء، وانهيار منظومات الحماية والخدمات الأساسية. ويأتي هذا التزامن ليكشف بوضوح انهيار مبادئ الحماية التي يرفعها العالم، إذ تتجسّد في غزة أقسى صور العنف المركّب، وتبقى النساء شاهداً حيّاً على غياب أي حماية دولية فعلية وانكشاف كامل أمام آلة الحرب دون رادع أو ضمانة للنجاة.

لقد استهدفت حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة النساء بكل أشكال القتل الممكنة، من القصف المباشر للمنازل والشوارع إلى الحرمان من العلاج والغذاء. وخلال عامي الإبادة، فقدت أكثر من10621  امرأة حياتهن نتيجة الانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة،1 ليصبح فقدان الحياة جزءاً من الواقع اليومي الذي تعيشه النساء في القطاع. وفي هذا العام شكّلت سياسة التجويع الإسرائيلية المشددة أحد أقسى فصول المعاناة التي عاشتها النساء في قطاع غزة، إذ فتكت بأجسادهن وأجساد أطفالهن ودَفَعتهن إلى المخاطرة بحياتهن بحثاً عن لقمة تسدّ الجوع. ومع اشتداد انعدام الغذاء، اضطرت النساء إلى التوجّه نحو مراكز المساعدات الأمريكية أملاً في النجاة، لكن حتى هناك لم يجدن الأمان؛ فقد قُتلت 38 امرأة أثناء محاولتهن الحصول على الغذاء، في مشهد يلخص انهيار الحماية في أكثر لحظات الحياة بدائية وإنسانية.2

تذكر ميرفت محمد زيدان، 21 عاماً، لطاقم المركز كيف خرجت والدتها في محاولة لإنقاذ حياتهم من الجوع، لتفقد حياتها أثناء ذلك:

في حوالي الساعة 07:00 مساءً يوم الاثنين 2/6/2025، خرجت مع والدتي ريم سلامة زيدان، 46 عاماً، وأخي عبد الرحمن، 17 عاماً، من خيمتنا الواقعة بجوار مفترق الشؤون في حي الأمل بخان يونس، مشياً على الأقدام حتى وصلنا في نحو الساعة 1:30 فجر الثلاثاء 3/6/2025 إلى ملعب البلدية القريب من دوار العلم في مواصي رفح، بهدف الوصول إلى مركز المساعدات الأمريكية لأخذ كبونات المساعدات، نظرًا لعدم توفر الطعام في الخيمة وعدم امتلاكنا لأي أموال لشرائه، وكان المكان مكتظاً بالناس.

وفي حوالي الساعة04:00   فجراً بدأ الحشد بالسير نحو دوار العلم، فسرنا معهم ونحن ممسكون بأيدي بعضنا البعض، وفجأة بدأ إطلاق النار بكثافة، فحاولنا الاحتماء خلف جدار صغير. أثناء ذلك، سمعت فتاة تصرخ، فالتفتت ورأيت والدتي ساقطة على الأرض، حاولت قلبها لكنني لم أقدر، ثم ساعدني بعض الشباب على قلبها. كانت هناك بركة دم حولها وكانت تنزف من رأسها، حاولت الحديث معها لكنها لم ترد. جاء شب قال إنه ممرض وأمسك بها، وأخبرنا بأنه لا يوجد نبض، وأن والدتي قد استشهدت. شعرت بصدمة عميقة وحزن لا يوصف، وكأن قلبي توقف، واجتاحني فراغ عميق أشعر به حتى الآن.”3

جمع طاقم المركز عشرات الإفادات من نساء قطاع غزة اللواتي اعتقلن في المعتقلات الإسرائيلية، وكشفن عمّا تعرضن له من انتهاكات جنسية جسيمة داخل السجون، شملت الاغتصاب، والتحرش، والتفتيش العاري، والألفاظ البذيئة، والتهديد بالاغتصاب. وقد نشر المركز شهادة موثقة لإحدى المعتقلات التي تعرّضت للاغتصاب أربع مرات على يد جنود إسرائيليين، إضافة إلى شتمها بألفاظ نابية بشكل متكرر، وتجريدها من ملابسها وتصويرها وهي عارية؛ في مشاهد تفوق قدرة العقل والنفس البشرية على تحملها.4 وتترك هذه الانتهاكات آثاراً نفسية وجسدية عميقة تمتد طويلاً بعد الإفراج عن النساء، فتقوّض حياتهن اليومية وقدرتهن على ممارسة أبسط حقوقهن، وتنعكس على أسرهن ومجتمعاتهن، ما يضاعف حجم المعاناة المستمرة التي تعيشها النساء في غزة.

أفادت الممرضة (أ.م)، 30 عاماً، حول الانتهاك الجنسي خلال اقتحام الجنود الإسرائيليين لمستشفى كمال عدوان في ديسمبر 2024:

” أرسل جيش الاحتلال شاباً أسيراً ينقل أوامر الضباط من داخل الدبابة، يطلب منا خلع الحجاب وكشف رؤوسنا. كنت أتحدث باسم النساء، فأجبته بثبات: “لن نخلع حجابنا ولو على قطع رقابنا.” تكرر الطلب مراراً، وحاول الجنود التحايل بطلبه من من هنّ دون العشرين ثم دون الخامسة عشرة، لكن الرفض كان قاطعاً في كل مرة. ولم يقتصر الضغط على ذلك، إذ حاولوا أخذ الأطفال بذريعة تصويرهم، غير أن الأمهات تمسكن بهم ورفضن رغم التهديدات. ثم طلب الجيش من 20 طبيبة وممرضة الخروج للتعرف على هوياتهن، مقابل وعد بإطلاق سراح النساء. تقدمت مع 19 زميلة ونحن نحمل بطاقاتنا، واقتادونا إلى مدرسة الفاخورة التي تحولت إلى ثكنة عسكرية محاطة بالدبابات والجنود. ثم دخلنا التحقيق واحدة تلو الأخرى. دفعني أحد الجنود نحو حمام المدرسة، حيث يجري التحقيق مع النساء.

 في الداخل، كان هناك ضابط واثنان من الجنود، يراقبونني بنظرات متوحشة. أخذ الضابط هويتي، ثم دفعني بقوة فسقطت على الأرض، كدت أصاب بسيخ حديدي، لكنه لم يمسسني. نظر إليّ بغلّ، وقال ببرود: “اخلعي ملابسك.” شعرت بجسدي يرتجف، وبأن الأرض تهتز تحت قدمي. لم أجب. فباغتني بسحب جاكيتي بعنف، ألقاه على الأرض، وأمرني برفع ملابسي للتفتيش، رفضت، فصفعني بقوة مروّعة على وجهي. احترق خدي بالألم، وخفت أن يكررها. لم أعد أحتمل، فاضطررت لرفع بلوزتي، ظهر بطني وظهري أمامهم، في إذلال لم أذق مرارته من قبل. لم يكتفوا بذلك، بل أمرني الضابط بإنزال البنطال. أنزلته قليلاً، فقام بلفّي بطريقة وحشية بينما كان الجنديان يفتشانني. لم يجدوا شيئاً، لكن ذلك لم يردعهم عن الاستمرار في إذلالي.. خرجت من الحمام مسرعة، أرتجف، أرتدي ملابسي بيدين مرتعشتين….. عرفت لاحقًا أن زميلاتي تم التحقيق معهن، وتم تفتيشهن وضربهن. لم يكن هناك استثناء، كنا جميعاً ضحايا هذا المشهد المهين.”5

ومع إعلان وقف إطلاق النار الهش، لم تشعر النساء بأي قدر من الأمان؛ فالخوف من اندلاع الحرب مجدداً يرافق كل لحظة من حياتهن، بينما تستمرّ الانتهاكات الإسرائيلية بلا توقف. ما زالت كثيرات يفقدن حياتهن وأخريات يفقدن أحباءهن واحداً تلو الآخر، أزواجاً، أبناءً، وإخوة، لتتبدل ملامح حياتهن بالكامل، ويجدن أنفسهن في مواجهة أدوار لم يخترنها، بل فُرضت عليهن قسراً. آلاف النساء صِرن المعيل الوحيد لأسرهن، يتحملن مسؤولية حماية الأطفال وتأمين المأوى والغذاء والدواء وسط واقع قاسٍ لا يرحم. لم يُمنحن حتى وقتٌ للحزن أو التعافي؛ فالحياة دفعت بهن إلى الصفوف الأولى بلا استعداد، في ظل غياب أي شبكة حماية تكفل لهن حق البقاء بكرامة.

كانت النساء في غزة جزءاً أساسيا ًمن حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في القطاع؛ فقد تعرضن للقتل والإصابة، وفقدن الأزواج والأبناء والأقارب، ودُمّرت منازلهن ومجتمعاتهن ومصادر رزقهن بالكامل، ما نزع الاستقرار من حياتهن وترك آثاراً عميقة طويلة الأمد. وما زال الغالبية يعشن اليوم في خيام مهترئة تفتقر إلى أدنى خصوصية أو خدمات أساسية، فيما تتفاقم صعوبة الظروف مع دخول فصل الشتاء. فقد غرق العديد منهن في مياه الأمطار المتسرّبة إلى الخيام، وأصبح البرد تهديداً حقيقيًا لأطفالهن، ما زاد من شعورهن بالخوف المستمر وانعدام الأمان.

وفي الوقت ذاته، تنتظر نساء مصابات بالسرطان أو اللواتي تعرضن للبتر والتشوهات وغيرهن رفع الحصار ليتمكنّ من الوصول إلى العلاج المناسب خارج القطاع، في ظل عدم قدرة النظام الصحي المحلي على تلبية احتياجاتهن المتخصصة بعد تدميره خلال الحرب ومنع دخول المستلزمات الطبية.

وتتزامن كل هذه المعاناة مع غياب أي خطط عاجلة لإعادة الإعمار، وانخفاض مستوى الدعم المؤسسي والدولي طويل الأمد، ما يترك النساء في واقع يفتقر إلى الاستقرار والأمان. هذه الظروف المتراكمة زادت من تعقيد حياتهن ووضعت تحديات كبيرة أمام قدرتهن على استعادة مسار الحياة اليومية، وجعلت كل خطوة نحو التعافي أو الاستقرار تواجه عراقيل مستمرة وغياب أي أفق واضح للمستقبل.

تزامناً مع انطلاق حملة 16 يوماً لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن النساء في قطاع غزة ما زلن يواجهن واقعاً قاسياً من العنف، وسط غياب حماية دولية ومؤسساتية فعّالة. كما يشدد المركز أن آثار الإبادة الجماعية على النساء لا تختفي بانتهاء الحرب، بل تستمر لتترك ندوباً عميقة في أجسادهن ونفوسهن، وتنعكس على حياتهن اليومية وعلى الأجيال القادمة. هذه الجريمة الوحشية تؤكد الحاجة الملحة لتمكين النساء من إعادة بناء حياتهن، ومواجهة المستقبل بثقة، واستعادة القدرة على العيش بكرامة، رغم كل ما فقدنه وما خسرنه خلال حرب الإبادة؛ لذلك يوصي المجتمع الدولي بـ:

  • محاسبة المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في جريمة الإبادة الجماعية، وضمان الامتثال الفوري لمذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بما يعزز إنهاء سياسة الإفلات من العقاب ويضمن تحقيق العدالة للنساء وسائر الضحايا المدنيين.
  • تنفيذ تدخلات عاجلة وفورية في قطاع غزة، تشمل حماية النساء والفتيات من العنف المباشر وغير المباشر، وتأمين المأوى والغذاء والخدمات الصحية الأساسية، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، لتخفيف معاناتهن وحفظ حياتهن.
  • وضع خطة دولية شاملة لتقديم دعم طويل الأمد ومستدام لقطاع غزة، يشمل حماية النساء، وتوفير الخدمات الأساسية، وتمكينهن اقتصادياً واجتماعاً لضمان استقرار حياتهن وحقهن في العيش بكرامة
  • إنشاء برامج دعم نفسي طويل الأمد للنساء في قطاع غزة، مع التركيز على معالجة الصدمات النفسية والآثار الجسدية للعنف.
  • إدراج النساء بشكل فعال في خطط إعادة الإعمار لضمان تلبية احتياجاتهن الخاصة، وتوفير بيئة آمنة ومستدامة للعيش، تشمل السكن، والمرافق الأساسية، والخدمات الصحية والتعليمية، بما يعزز قدرتهن على استعادة حياتهن اليومية وممارسة حقوقهن بكرامة.

  1. وزارة الصحة الفلسطينية، إحصائيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة 2023-2025. رابط ↩︎
  2. مقابلة هاتفية أجراها طاقم المركز مع د. إسماعيل ثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي، بتاريخ 20 نوفمبر 2025. ↩︎
  3. تلقى طاقم المركز الإفادة بتاريخ 14/6/2025، في حي الأمل بمدينة خان يونس. ↩︎
  4. المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان. (نوفمبر 10, 2025). المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان يوثق شهادات اغتصاب وتعذيب جنسي ممنهج. رابط ↩︎
  5. تلقى طاقم المركز الإفادة بتاريخ 17/1/2025، بمدينة غزة. ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *