يعيش سكان قطاع غزة أقسى صور النزوح القسري وأشدّها وطأةً، بعدما أمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي سكان شمال وادي غزة بالتوجه نحو جنوبه، بالتزامن مع تكثيف القصف العشوائي وتفجير المجنزرات المفخخة في المحافظات المستهدفة بالإخلاء القسري لإجبار المدنيين على النزوح. وقد فُرض على المدنيين النزوح وسط حصار خانق ومجاعة متصاعدة، وفي ظل انعدام كامل لمقومات الحياة الأساسية.
في هذا الواقع الذي يفوق حدود الاحتمال الإنساني، تجد النساء أنفسهن محاصرات بين سعيهن المستميت لحماية أطفالهن من الموت نتيجة القصف في شمال وادي غزة، وإدراكهن المرير أن الأماكن التي أمر الجيش الإسرائيلي بالتوجه إليها تخلو من أي عنصر أمان. وفي هذا السياق، تتكشف زيف الادعاءات الإسرائيلية بأن محافظات الوسطى والجنوب “مناطق إنسانية وآمنة”، إذ أسفر القصف المستمر لهذه المحافظات 133 مرة منذ 11 أغسطس حتى 27 سبتمبر2025 عن مقتل 1,903 مدنيين، أي 46% من قتلى قطاع غزة خلال الفترة نفسها،1 ما يثبت غياب أي مكان آمن، وبالتالي تترك النساء وأطفالهن في مواجهة تهديد دائم بلا حماية أو ملاذ.
في الوقت نفسه، تفتقر المناطق التي أجبرت قوات الاحتلال السكان على النزوح إليها إلى أبسط مقومات البقاء، فلا غذاء كافٍ ولا مياه صالحة للشرب، ولا خدمات صحية أو إنسانية، فيما تغيب البنية التحتية الأساسية بشكل شبه كامل. وقد أدى الاكتظاظ الهائل الناتج عن تدفق عشرات الآلاف من العائلات إلى جعل الحصول على مأوى لائق أمراً شبه مستحيل. وتُظهر الخرائط الصادرة عن الاحتلال أن المساحة المخصصة لما يُسمى “مناطق إيواء” لا تتجاوز 12% فقط من مساحة قطاع غزة، في محاولة متعمدة لحشر أكثر من 1.7 مليون شخص ضمن نطاق جغرافي ضيق، ضمن سياسة التهجير القسري الرامية إلى تفريغ شمال غزة ومدينة غزة من سكانهما.2
وفي ظل هذه الظروف، تتكدَّس الأسر داخل خيام مهترئة على أبواب فصل الشتاء، فيما تُترك آلاف العائلات الأخرى لتفترش العراء بلا أي غطاء أو حماية، ليصبح هذا الواقع القاسي صراعًا يوميًا من أجل البقاء.
وقد أفادت (أ.ع)، 57 عاماً، أنها اضطرت للنزوح تاركة منزلها وكل ما تملك، وسارت مع أسرتها مشياً على الأقدام وسط القصف والدمار، حتى انتهى بها الحال بلا مأوى في العراء، قائلة: “مع بدء الهدنة عدتُ مع أولادي إلى غزة وبقيت صامدة حتى 25 سبتمبر 2025. لم يكن أمامي أي خيار وسط الروبوتات المتفجرة والانفجارات وطائرات الكوادكابتر التي تحاصرنا في معسكر الشاطئ. حاولت إنقاذ ما تبقى من منزلي لكن أسعار النقل كانت خيالية، فاضطررنا لترك أغراضنا والاكتفاء بحقيبة صغيرة. خرجتُ مع أولادي وأحفادي الصغار، أودّع بيتي بدموع الوداع الأخير، وسرنا وسط الركام وأصوات القصف حتى نزفت أقدام أحفادي من الحجارة وبكوا من الإنهاك والخوف. عند وصولنا مواصي خان يونس مشياً على الأقدام وسط إنهاك نفسي وجسدي يفوق الاحتمال، لنجد أنفسنا بلا مأوى أو أي مقومات للحياة.”3
ونتيجةَ الطلب الشديد على وسائل النقل وندرة الوقود الناتجة عن إغلاق المعابر، تجاوزت أسعار المواصلات قدرة السكان، ما أجبر المئات منهم على السير على الأقدام لمسافات شاقّة تحت حرارة الشمس أو برد الليل القارس. وخلال هذه الرحلات المضنية، واجهت النساء أصعب المحن، حيث حملن على أجسادهنّ الضعيفة والجائعة، برفقة صراخ وبكاء أطفالهن المذعورين، ما تبقى من ممتلكاتهن القليلة التي يمكن أن تعينهن على البقاء. ومع ذلك، لم تكتفِ آلة القتل الإسرائيلية بمشاهد الإذلال والمعاناة، بل عمدت طائرات الكواد كابتر إلى استهداف النازحين بشكل عشوائي، ما حوّل كل لحظة من النزوح إلى مواجهة مستمرة مع الموت، في تجربة إنسانية قاسية تتجاوز حدود الاحتمال.
أفادت نبال شملخ، 28 عاماً، لطاقم المركز عن تجربة نزوحها مع أطفالها التي كانت قاسية للغاية، وعن شعورها بالعجز والخوف المستمر، وعن انعدام مقومات الحياة في المنطقة التي لجأت إليها حالياً قائلة: “في 19/09/2025 اجتاحنا خبر النزوح نحو جنوب وادي غزة محمّلاً بالصدمة والخوف بعد تجارب مريرة سابقة. منذ لحظة إلقاء المناشير غمرنا التوتر، ورأينا إطلاق النار من الدبابات وطائرات “كواد كابتر”، وسقطت شظية قرب خيمتي، حيث يجلس أطفالي، لتصبح حياتنا في خطر مباشر. انتظرنا وسيلة نقل ثلاثة أيام في الشارع بلا مأوى، ثم اضطررت أنا وزوجي وأطفالي للسير على الأقدام تحت حر الشمس والدخان والقذائف، في رحلة شاقة ومليئة بالخوف عليهم. كنت أحمل لهم بعض الماء والخبز، فيما اكتفيت بالقليل حفاظاً على ما يكفيهم. كنا نشهد حالات إغماء متكررة بسبب الحر ونقص الغذاء والماء، وكل خطوة كانت تثقلنا بالقلق والعجز. وأخيراً وصلنا إلى مخيم خانيونس لنجد أنفسنا في خيمة تفتقر لأبسط مقومات الحياة: لا خصوصية ولا راحة ولا مكان آمن للأطفال، مع غلاء الطعام وندرة المياه، ما جعل نقصها أحد أشد الأزمات التي نواجهها. يعيش الأطفال اليوم وسط خوف وقلق دائم بلا أي دعم نفسي، فيما يثقلني شعور العجز تجاههم يوماً بعد يوم.”4
تواجه النساء في قطاع غزة أثقل تبعات النزوح القسري، حيث يتداخل الخوف المستمر من القصف مع فقدان الشعور بالأمان وانعدام أي أفق للنجاة. وقد أسفر هذا الواقع المليء بالتهديدات اليومية عن حالة من القلق المزمن والتوتر النفسي الحاد، إضافة إلى شعور دائم بالعجز أمام حماية أطفالهن. كما وجدت كثير من النساء أنفسهن تحت ضغط هائل يتمثل في اتخاذ قرارات مصيرية بين البقاء تحت القصف أو الهروب إلى العراء، وهو ما ولّد مشاعر متواصلة من الذنب والإرهاق العقلي والانكسار النفسي.
وفي الأماكن التي أجبر الجيش الإسرائيلي السكان على النزوح إليها، وجدت النساء أنفسهن أمام ظروف لا تقل قسوة عمّا تركنه خلفهن، حيث افتقرت هذه المناطق بالكامل لمقومات الحياة الأساسية، من مأوى ملائم أو حماية. وقد اضطررن لمواجهة تحديات يومية قاسية في رعاية أطفالهن وتلبية احتياجاتهم الأولية في بيئة تحاصرها المعاناة. وترتّب على ذلك أضرار نفسية طويلة المدى، تشمل الاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة، إضافة إلى شعور مستمر بفقدان القيمة الذاتية وانعدام الأمان والأمل في المستقبل.
يُعد الترحيل القسري إبادة جماعية بحد ذاته عندما يتزامن مع حرمان السكان من الغذاء والرعاية الطبية والمأوى، لما يترتب عليه من تدمير جسدي ومعنوي لأعضاء المجموعة. وقد ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي هذا النوع من الإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة، إذ أُجبر المدنيون، بمن فيهم النساء، على النزوح تحت ظروف لا إنسانية تحرمهم من مقومات الحياة الأساسية. ولا يقتصر أثر هذه السياسات على البعد المادي فحسب، بل تمتد لتلحق أذى نفسي جسيم بالنساء، من خلال تعريضهن لمعاناة مستمرة، وفقدان الأمن الغذائي والصحي، وانعدام الحماية الأساسية، وهو ما يُعد من الأفعال المصنفة كجريمة إبادة جماعية وفق القانون الدولي.
وعليه، يطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي بالتدخل العاجل من أجل وقف جريمة الإبادة الجماعية فوراً في قطاع غزة، ووقف جميع أشكال النزوح القسري والاستهداف المباشر للمدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال.
ويشدد المركز على ضرورة محاسبة المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في جريمة الإبادة الجماعية، بما في ذلك جريمة النزوح القسري دون توفير مقومات الحياة الأساسية ضد النساء والمدنيين الفلسطينيين، وضمان الامتثال الفوري لمذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بما يعزز إنهاء سياسة الإفلات من العقاب ويضمن تحقيق العدالة للنساء وسائر الضحايا المدنيين.
كما يدعو المركز إلى فتح المعابر بشكل فوري ودائم لضمان تدفق المساعدات الإنسانية الأساسية، بما يشمل الخيام والغذاء والماء والدواء ومواد الإيواء، وضمان وصولها العادل إلى النساء والأطفال في مناطق النزوح.