تاريخ اخذ الإفادة: 15/7/2025
هبة محمد جهاد أبو زيد، 21 عاماً، انثى، سكان معسكر جباليا بالقرب من نادي خدمات جباليا، وحالياً نازحة في مدرسة الكرمل – مدينة غزة
قبل أن تنقلب حياتي رأسًا على عقب، كنت أعيش بأمان مع عائلتي، التي تتكون من ثمانية أفراد: والدي محمد جهاد أبو زيد، 46 عامًا، ووالدتي مريم محمد علي، 38 عاماً، وشقيقي الأكبر ياسر، 20 عامًا، وشقيقي مجد، 17 عامًا، وشقيقي فادي، 16 عامًا، وشقيقتي راما، 10 سنوات، وشقيقي غسان، 4 سنوات ونصف. كنا نعيش في شقة بمنزل العائلة المكون من ستة طوابق علوية.
في 7 اكتوبر، كنت قد استيقظت وجهزت نفسي لأخذ شقيقتي راما إلى المدرسة، وفجأة سمعنا أصوات الانفجارات ونحن في الشارع. شعرنا بالخوف الشديد وعدنا مسرعين إلى البيت لنحتمي ونتجنب أي خطر، وجلسنا مع والدينا، عشنا يومين في حالة ذهول ورعب وصدمة. وبعد يومين، وتحديدًا في 10/10/2023، اضطررنا للنزوح من البيت إلى مبنى تابع لوكالة الغوث في معسكر جباليا، حيث مكثنا لمدة شهرين، وكان أقاربنا نازحين معنا في نفس المكان. كان المكان مزدحمًا للغاية ويفتقر للخصوصية، وظروفه الإنسانية سيئة جدًا من حيث الاكتظاظ وسوء المرافق الصحية، وكانت أكبر معاناتنا الحمامات.
أما الغرفة التي نزحنا فيها فكانت مساحتها 5×6 أمتار، عبارة عن غرفة صيانة تحتوي على حديد وأسبست ومعدات، وداخلها 30 شخصًا. بعد فترة، باشر أهلي وأقاربنا بتنظيف المكان وتجهيزه كي نستقر فيه. خلال إقامتنا في الإيواء، كان الاحتلال الإسرائيلي يقصفنا بالقذائف المدفعية والقنابل الغازية، ويطلب منا التوجه إلى غرب مدينة غزة أو الجنوب.
في شهر نوفمبر 2023، عندما أعلنت الهدنة المؤقتة، كنا نعيش في حالة من القلق الدائم، لم نشعر بأي راحة، وكان شعورنا دائمًا أن القادم اسوأ، وهذا ما حدث بالفعل، فقد انتهت أيام الهدنة واشتد القصف بالطيران الحربي الإسرائيلي.
كانت الأيام صعبة للغاية، مليئة بالرعب، وكان القصف مستمرًا على مدار الساعة لدرجة أننا لم نكن قادرين على الخروج إلى دورة المياه خارج الصف، خوفًا من القصف المستمر حول المكان، فاضطررنا لقضاء حاجتنا داخل الغرفة، خشية مغادرة مكاننا بسبب الطيران الحربي الإسرائيلي المتواصل.
بعد مرور شهرين من الحرب، اضطررنا للنزوح إلى مبنى صناعة الوكالة في شارع الصناعة، حيث مكثنا فيه نحو ثلاثة أشهر، بداية من شهر ابريل 2024. كان والدي وإخواني يعملون عند شخص يملك بسطة لبيع الكريمة والحفاضات والعدس، مقابل اجرة يومية. قبل أن يعملوا، مر علينا شهران دون طحين، عشنا خلالها ظروف المجاعة القاسية، حتى أصبح من الصعب إيجاد الخبز. كان طعامنا يقتصر على الخبيزة، ونأكلها بالملعقة بسبب نقص الطحين والخبز.
خلال فترة نزوحنا في صناعة الوكالة، كان والدي يحرص على مرافقتي ووالدتي إلى دورة المياه، يغلق علينا المكان ليحافظ على خصوصيتنا، نظرًا لازدحام المكان واختلاط الناس فيه. كانت الأيام مرعبة جدًا، خاصة عندما حاصر الجيش الإسرائيلي جمعية أصدقاء المريض بشارع الشهداء ومربع الجامعات، وكانوا يطلقون النيران بشكل عشوائي. ومع اقتراب الجيش الإسرائيلي من مبنى صناعة الوكالة، اضطررنا للنزوح إلى جباليا في الصباح الباكر الساعة 6 صباحًا، وقطعنا الطريق مشيًا على الأقدام.
حين عدنا إلى بيتنا في جباليا، شعرنا ببعض الراحة النفسية لكوننا عدنا إلى منزلنا، رغم أن الحياة كانت شاقة للغاية، لم تكن المياه متوفرة للشرب أو للاستخدام، وكان إخواني يذهبون إلى أماكن بعيدة لجلب المياه والحطب. كانت الحياة صعبة وخطيرة جدًا، فالقصف بالطيران الحربي الإسرائيلي مستمرًا طوال الوقت، ولم يكن هناك نوم منتظم، وكان القصف قريبًا جدًا، حتى أن جميع المنازل المجاورة لنا تعرضت للقصف، ولم يتبق إلا منزلنا وعدد قليل من المنازل في الحارة.
بقينا في منزلنا في جباليا رغم القصف المستمر والظروف القاسية، إلى أن اصدرت قوات الاحتلال الإسرائيلي في شهر أبريل 2024 أوامر لجميع سكان المعسكر بإخلائه بشكل كامل، ثم اجتاحوا المنطقة ووجّهوا إلينا عبر مكبرات الصوت أوامر بالنزوح نحو غرب غزة. عندها اضطررنا إلى مغادرة منزلنا والتوجه إلى معسكر الشاطئ، حيث أقمنا في منزل عمتي لمدة أربعين يومًا.
بنهاية شهر مايو 2024، عدنا إلى جباليا، وكان بيتنا ما زال قائمًا، كما عاد عدد كبير من الأهالي، بينما الذين تهدمت منازلهم بفعل القصف الإسرائيلي أقاموا خيامًا، ومدوا خطوط مياه، وحاولوا التأقلم مع الوضع رغم استمرار القصف الجوي والمدفعي واستهداف قوات الاحتلال الاسرائيلي لتجمعات المدنيين.
بتاريخ 5 أكتوبر 2024، الساعة الثامنة صباحًا، كنت قد أنهيت جميع أعمال المنزل، بينما كان إخوتي يعملون على عربة لتوصيل الأغراض مقابل أجر يومي قليل. بعد أن أنجزت عملي المنزلي، طلبت مني أمي أن أرافقها لزيارة بيت خالي، فقلت لها: “المرة القادمة إن شاء الله”، وبقيت في البيت، ثم نزلت إلى الطابق الأرضي وجلست مع جدتي حتى الظهر. وفجأة بدأ القصف الإسرائيلي واستمر حتى العصر. عندها قلت لوالدي أن يذهب لإحضار أمي خشية أن يصيبها مكروه، فأجابني أن أصعد إلى البيت وأجهز الحقائب استعدادًا للنزوح من الشمال إلى معسكر الشاطئ، لأن الوضع لم يعد يطمئن.
صعدت إلى الشقة لأجهز الأغراض، وما إن فتحت الباب حتى فوجئت بلهيب أحمر يملأ المكان، وسقطت جميع النوافذ، والنار مشتعلة في كل زاوية. أردت أن أعبر من الصالون إلى غرفتي لأخذ الأغراض، لكنني تراجعت بسرعة ونزلت إلى الطابق الأرضي وجلست عند جدتي نحو نصف ساعة. حينها عادت أمي، فقلت لها أن نصعد معًا لنحضّر ما نحتاجه للنزوح لأن الوضع صار خطيرًا. صعدنا أنا وأمي وأبي وإخوتي، وبدأنا بتجهيز الأغراض الضرورية، لكن أثناء ذلك تجدد القصف الإسرائيلي، وكان أعنف من المرة السابقة. وكان الهدوء قصير لا يتجاوز ساعة ونصف فقط. بعد أن أنهينا التحضير، قال لنا أبي إننا سنغادر في الصباح عند طلوع النهار. صلينا العشاء، وافترشنا أرض الصالون، وجلسنا جميعًا معًا.
وفجأة، اخترقت قذيفة إسرائيلية نافذة المطبخ أمام أعيننا، لتصطدم بالثلاجة وتتناثر شظاياها في كل مكان. أصبنا جميعًا: سقطت الثلاجة على أبي وأصابته في رجليه، وأخي محمد أصيب في المنطقة التناسلية وكعب رجله، وفي ذراعه وأسفل إبطه وأسنانه، مما أفقده القدرة على النطق وأحدث تشوهات في وجهه. أخي ياسر أصيب في فخذه ووجهه ويديه الاثنتين، وشظية استقرت في رأسه. أخي فادي أصيب في فخذه الأيسر، وتحت ركبته اليسرى، وفي كف يده اليمنى. أخي غسان أصيب برضوض متفرقة، وأختي راما أصيبت في قدميها وارتدت بجسدها على الحائط من قوة الانفجار. أما أنا، فأصيبت رجلي اليسرى أسفل الركبة، وبُترت في تلك اللحظة، وفقدت الوعي فورًا لحظة إصابتي.
صعد عمي على الدرج محاولًا إسعافنا، فقد كنا جميعًا نصرخ من شدة الألم والرعب. أثناء ذلك، أطلق الجيش الإسرائيلي قذيفة أخرى على الشقة، فتراجع عمي خطوة إلى الخلف، ورغم ذلك عاد وحاول حملي، ولكنه لم يستطع إكمال الطريق، فالدرج كان مدمّرًا بالكامل، ورجلي كانت مرخية، وكان النزيف مستمرًا. جاء الجيران على الفور وأحضروا الإسعاف، ونُقلنا إلى مستشفى كمال عدوان، حيث شخص الأطباء حالاتنا جميعًا، ونُقل خمسة منا إلى المستشفى الإندونيسي نظرًا لشدة الإصابات، بينما بقي والدي وغسان وراما في مستشفى كمال عدوان.
عند وصولي، كانت المستشفى شبه خالية، معظم الأطباء نزحوا بسبب التهديدات تهديدات قوات الاحتلال المستمرة، ودمّي ضعُف حتى وصل إلى مستوى 5، وبقيت أنزف في سريري بين سبع حالات بتر سبقتني. في الليل، شخص طبيب الأوعية حالتي وأخبر والدتي بأن ساقي بحاجة للبتر، وأنا فاقدة الوعي، حتى أن الأطباء توقعوا وفاتي. لم أسمع أي صوت، وكنت أستفرغ مادة خضراء. بتاريخ 6/10/2024، الساعة الرابعة عصرًا، بترت ساقي. استيقظت في اليوم التالي هزيلة وفي حالة صدمة، مع آلام شديدة بجسدي كله.
لاحقًا، أصبت بالغرغرينا وتسمم بكتيري، وبدأ الدود يظهر من ساقي. سمعت والدتي تخبر الدكتور بأنها تشم رائحة عفن صادرة من ساقي. وعندما كشف عن ساقي ورأى الدود، صمت ثم قال إن وضعي صعب، وأخبر والدتي بضرورة التنسيق لنقلي، لكنه أشار إلى أنهم محاصرون من الجيش الإسرائيلي ولا يستطيعون القيام بذلك. بعد ذلك، اتصلت والدتي بخالي الذي يعمل سائقًا في مستشفى العودة، وساعد في نقلي. نُقلت إلى مستشفى العودة، وسط خطر شديد، حيث كانت الدبابات الإسرائيلية تحاصر المكان وكان هناك إطلاق نار عشوائي مستمر.
بتاريخ 10 اكتوبر 2024، أجريت لي عملية ثانية نتيجة إصابتي بالغرغرينا في ساقي، وكانت حالتي حرجة، وتم تزويدي بوحدات دم. أخواني الثلاثة، ياسر ومحمد وفادي، كانوا محاصرين في مستشفى الإندونيسي، واضطرت والدتي للبقاء معي بسبب خطورة وضعي الصحي. كان وضع إخوتي صعبًا جدًا، خاصة أخي ياسر، الذي كان بحاجة أيضًا إلى بتر ساقه، فتم تحويله إلى مستشفى العودة وأجريت له عملية جراحية. كانت والدتي تنتقل بين مستشفى العودة ومستشفى الإندونيسي، وسط ظروف محيطة خطيرة جدًا.
قال لي الأطباء إن فترة مكوثي في المستشفى لن تتجاوز ثلاثة أسابيع، لكنني اضطررت للبقاء نحو ثلاثة أشهر في مستشفى العودة بسبب الحصار الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي. قبل أسبوعين من وقف إطلاق النار في يناير 2025، نُقلت إلى مستشفى الإندونيسي. بعد استقرار وضعي الصحي عقب العملية، تم التنسيق لخروجي إلى غرب غزة، وقال لنا الطبيب إن الخروج سيكون سيرًا على الأقدام لأن قوات الاحتلال الإسرائيلي تمنع وصول سيارات الإسعاف.
خرجنا سيرًا على الأقدام، وكنت على كرسي متحرك، بينما كان الطيران الحربي الإسرائيلي يقصف المنطقة. رأينا كلابًا تنبش الجثث الملقاة والمتحللة على الأرض، وانتهى بنا المطاف في معسكر الشاطئ. خلال هذه الفترة، اضطرت عائلتي لشراء جميع الأدوية على نفقتهم الخاصة، إذ لم تكن متوفرة في المستشفى.
واجهت صعوبات شديدة بسبب وضعي الجسدي، حيث عانيت من ضغط نفسي شديد واكتئاب، وكانت حالتي النفسية محطمة، وظللت أفكر باستمرار في وضعي وأتساءل الى متى سأبقى على هذا الكرسي المتحرك.
حاليًا، أعاني من آلام نفسية ومضاعفات جسدية بسبب الإصابة، حيث لا تزال هناك عظمة في ساقي المبتورة تحتاج إلى إزالتها، إذ يسبب احتكاكها معي ألمًا ومضاعفات مستمرة. أتابع حالتي في مركز الأطراف الصناعية بجوار بلدية غزة، حيث أتابع بشكل منتظم وأجري جلسات تدليك لساقي.
بتاريخ 11/12/2024م، حصلت على تحويلة طبية لتركيب طرف صناعي خارج البلاد، ومع ذلك لم أتمكن حتى الآن من السفر، حيث يقف الاحتلال الاسرائيلي عائقًا أمام حريتي في الحصول على العلاج، وسط الأوضاع المأساوية في غزة. أحتاج بشكل عاجل لتركيب طرف صناعي يمكنني من المشي على قدمي وممارسة حياتي بشكل طبيعي، دون الاعتماد على تعاطف الآخرين. أريد أن أعيش حياتي بحرية، أكمل تعليمي وأعمل، وأستعيد استقلاليتي.