سبتمبر 22, 2025
عبد السلام: الناجي الوحيد من مجزرة أبادت عائلته كاملة
مشاركة
عبد السلام: الناجي الوحيد من مجزرة أبادت عائلته كاملة

تاريخ الإفادة: 16/7/2025

في خيمة نزوح بجوار مستشفى الشفاء في مدينة غزة، يعيش الطفل عبد السلام محمد عبد السلام الرباعي، ثمانية أعوام، الناجي الوحيد من مجزرة أبادت أسرته كاملة، تاركة جسده الصغير أسيراً لذكريات الفقد، ووجهه الصامت مرآة لألم أكبر من عمره.

عبد السلام لم يفقد والديه فحسب، بل خسر أيضًا شقيقتيه ريتاج، 10 سنوات، ولين، 5 سنوات، وأبناء عمومته ديما، 9 سنوات، وأنس، 7 سنوات، ومحمد، 4 سنوات. وحده خرج حيًّا من تحت الركام، ليواجه حربًا جديدة مع اليُتم والذاكرة والنجاة الثقيلة.

يقول الطفل عبد السلام في إفادته، لباحث المركز:في صباح 7/10/2023، استيقظت الساعة الثامنة للذهاب إلى المدرسة. لكن أمي أخبرتني أنه لا توجد مدارس بسبب الأوضاع، وقالت لي إنها خائفة عليّ وعلى أخواتي. شعرت وقتها بالخوف من أصوات الطيران”.

العم عمر عبد السلام الرباعي، 33 عاماً، الذي فقد بدوره زوجته وأطفاله الثلاثة في القصف نفسه، يحكي بمرارة تفاصيل ما جرى:

“مع بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، عشنا أياماً مرعبة، خاصة في غرب غزة، كانت الغارات عشوائية وعنيفة. بقينا في منازلنا أسبوعاً كاملاً، ثم صدر أمر إخلاء للحي. ومع ازدياد القصف نزحتُ مع أسرتي إلى مستشفى الشفاء، بينما نزحت أسرة شقيقي محمد إلى مستشفى الرنتيسي، ومن ثم إلى منزل جدهم في الشيخ رضوان حتى بداية الهدنة الأولى في نوفمبر 2023. بعد الهدنة، عادوا إلى شقتهم في ديسمبر 2023.

كنا ندرك أن الهدنة مؤقتة، وأن الحرب ستعود. ومع اشتداد الحصار والمجاعة، بدأنا نأكل الأرز والعدس والخبيزة، ثم علف الحيوانات اليابس حين نفدت المؤن. حتى أن والدة عبد السلام ذهبت وحدها إلى منطقة النابلسي لتجلب كيس طحين، سارت مسافة طويلة تحت الخطر لتؤمن لهم الطعام. حينها، كنا نعيش في ظروف مأساوية لم يكن فيها حتى كسرة خبز.

في يوم 18/3/2024، عند أذان المغرب، قصفت طائرات الاحتلال عمارتنا في شارع أبو حصيرة دون أي إنذار. لم أكن متواجد في العمارة حين جاءني اتصال يخبرني أن المنزل قُصف. هرعت رغم القصف والدبابات، ورأيت الجثث ملقاة في الشوارع. بحثت عن زوجتي وأبنائي وعن شقيقي وزوجته وأطفاله، لكن لم أجد أحداً. غادرت مجبراً. عدت بعد انسحاب الجيش في 1/4/2024 وتمكنت من استخراج جثامينهم – رحمهم الله. أنا فقدتُ في تلك المجزرة زوجتي وأطفالي الثلاثة: ديما، 9 سنوات، أنس، 7 سنوات، ومحمد، 4 سنوات. كانوا يلعبون مع ابن عمهم عبد السلام قبل لحظات فقط من استشهادهم. كما فقد شقيقي وزوجته وبناته. لم ينجُ سوى عبد السلام”.

يستعيد الطفل، عبد السلام، ذكرياته لباحث المركز، قائلاً: “خلال الهدنة، خرجت إلى الشارع فرأيت حجم الدمار. أمي نظفت الشقة، ونزلت ألعب مع أولاد عمي، ديما وأنس ومحمد. كنا نضحك ونلعب معاً، لكنهم جميعاً استشهدوا حين قصفت الطائرات العمارة”. ويضيف: “أيام المجاعة، كنا نأكل علف الحيوانات، وكان يابساً ولا يشبع. وفي يوم 18/3/2024، عند أذان المغرب، كنت في البيت. سمعت انفجارات قريبة جداً، وفجأة قصفت العمارة دون تحذير. وقعت على الأرض ووقع فوقي برميل ماء. أُصبت بجروح، وجدي وجدتي أنقذاني من تحت الردم”.

بعد المجزرة، عاش عبد السلام صدمة شديدة، التزم الصمت، وعزف عن اللعب والحديث، وانعزل عن الجميع. ورغم محاولة عمه إدماجه في حياة بسيطة عبر المدرسة وبعض الأنشطة، يبقى الحزن يثقل طفولته.

يقول العم، لباحث المركز: أدرّسه، أوصله إلى مركز تعليمي ليعوض ما فقده من تعليم، أحاول ان اوفر له ما أستطيع، أتركه يلعب كرة القدم، اللعبة الوحيدة التي تمنحه بعض الفرح. لكنه يعود إلى خيمتنا صامتًا، يغرق في الذكريات، يتجنب الكلام عن المجزرة، وكأن قلبه الصغير يحمل وزناً لا يحتمل.

بصوت خافت يخرج من بين دموعه، يقول عبد السلام في إفادته لباحث المركز: “أنا نفسي يكون عندي بيت مش خيمة، آكل وأشبع، أروح مدرستي بدون خوف ولا أسمع صوت الطيران. بدي أعيش زي باقي الأولاد، أضحك وألعب وأصير دكتور أو محامي أو معلم، وأفرّح ماما وبابا فوق. كثير بشتاق لماما وبابا وإخوتي. كل يوم بتذكرهم.. ماما كانت تحضني وتغنيلي، بابا كان يأخذني معه، وأختي ريتاج كانت تدرس معي. هلأ ما في حدا، كلهم راحوا. بحكي معهم لما أكون لحالي، وببكي على المخدة. نفسي يرجعوا، حتى لو لحظة، بس أحضنهم وأقولهم إني بحبهم.”

“أنا لا أطلب شيئاً لنفسي”، يختم العم إفادته، “كل ما أريده هو حياة كريمة لعبد السلام: بيت آمن، تعليم، علاج نفسي، ورعاية تعيد له الطفولة التي سُرقت منه. هذا الطفل ليس رقماً. هو إنسان، هو المستقبل. أرجو أن ينظر العالم إليه بعين الرحمة، قبل أن يضيع مستقبله كما ضاعت أسرته. وليبقى دم أهله وتضحيتهم أمانة لا تُهدر.”

قصة عبد السلام ليست مأساة فردية، بل شاهد حي على جريمة إبادة تتربص بأطفال غزة وتحرمهم أبسط حقوقهم في البيت، المدرسة، الأمان، والضحكة. إنها مأساة جيل بأكمله، جيل يُراد له أن يكبر في الخيام مثقلاً بالفقد والخوف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *