أطلقت وزارة التربية والتعليم في محافظات الضفة الغربية يوم الإثنين 8 أيلول/سبتمبر 2025، العام الدراسي 2025-2026، وبينما ينطلق طلبة العالم صباحاتهم في رحلة تعليمية جديدة، يواجه أطفال قطاع غزة عامهم الدراسي الثالث على التوالي وسط نزوح جديد وموت جديد، في أتون حرب وحشية تسلبهم طفولتهم وتغتال حقهم في التعليم، مهددة مستقبلهم بالضياع وحرمهم من أي فرصة لبناء حياة كريمة ومستقبل آمن.
مع مشارفة حرب الإبادة على قطاع غزة عامها الثالث، تواصل آلة القتل والتدمير الإسرائيلية وحشيتها، محدثة دمارًا هائلًا يمس كل حجر وبشر، بما في ذلك الأطفال والمدارس والكادر التعليمي. منذ بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى أيلول/سبتمبر 2025، قُتل نحو 13,500 طالب وطالبة، فيما حُرم أكثر من 785,000 طالب وطالبة من حقهم في التعليم بسبب السياسات الإسرائيلية الممنهجة. كما فقد أكثر من 800 معلم ومعلمة وكادر تربوي حياتهم، إلى جانب نحو 190 عالمًا وأكاديميًا وباحثًا.1
كما تعرّضت مدارس قطاع غزة لأضرار مادية واسعة نتيجة القصف والهجمات الإسرائيلية، حيث لحقت أضرار بنسبة تقارب 95% من إجمالي المدارس. ويحتاج أكثر من 90% من المباني المدرسية إلى إعادة بناء أو تأهيل رئيسي قبل أن تتمكن من العودة للعمل بشكل طبيعي. وقد استُهدف 662 مبنىً مدرسياً بالقصف المباشر، أي ما يقارب 80% من إجمالي المدارس، فيما دمر الاحتلال 163 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية بالكامل، بينما لحقت أضرار جزئية بـ 388 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية، ما جعل استمرار العملية التعليمية شبه مستحيل وعطل مستقبل آلاف الطلبة.2 وذلك ضمن سياسة ممنهجة من الاحتلال الإسرائيلي لتجهيل الأجيال القادمة، وزرع الأمية بينهم، وحرمانهم من التعليم الأساسي الذي يشكّل حجر الأساس لمستقبلهم. كما يهدد هذا التدمير الممنهج للمدارس والبنية التعليمية نموهم المعرفي والاجتماعي، ويعرقل قدرتهم على بناء حياة مستقرة وآمنة، ما يجعل مستقبل غزة التعليمي والاجتماعي في مواجهة تهديد حقيقي للتراجع والانكسار.
ورغم كلّ ما يمر به قطاع غزة من دمار وحصار، فقد انتزع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة محاولات الحفاظ على حق أطفاله في التعليم معتبرًا ذلك فعل مقاومة وصمود في وجه أساليب الاحتلال التي تهدف إلى تحطيم إنسانيته وسلبه كل مقومات الحياة الكريمة. وقد تجسدت هذه المحاولات من خلال إقامة خيم تعليمية في مراكز الإيواء والمخيمات، أو عبر مراكز تعليمية يشرف عليها معلمون متطوعون، مدعومون بشكل محدود من بعض المؤسسات. غير أن هذه المبادرات تواجه تحديات جسيمة، فهي معرضة لاستهداف الاحتلال الذي لا يميز بين الأطفال والبالغين، وتقع غالبًا في أماكن مكتظة ومفتقرة لأبسط مستلزمات الطلبة من كتب وقرطاسية ومقاعد وطاولات، ما يجعل استمرار التعليم واستدامته معركة يومية بحد ذاتها.
“كنتُ طالبًا مجتهدًا في مدرسة (د) الإعدادية قبل الحرب، وكنتُ قد حققت معدل 95%، وكان حلمي أن أكمل دراستي بتفوق كما اعتادت أسرتي أن تفخر بي. لكن منذ نزوحنا إلى مخيمات خانيونس، وانقطاعنا عن مدارسنا، توقفت حياتي التعليمية تمامًا، ولم أتلق أي درس نظامي منذ ذلك الحين.
بعد عدة شهور، افتُتحت مدرسة بسيطة جدًا بجهود فردية، تقدّم أربعة مواد أساسية فقط: اللغة العربية، الإنجليزية، الرياضيات، والعلوم العامة. ورغم ذلك، سرعان ما اكتشفت أنني لم أعد قادرًا على الاستيعاب كما كنت سابقًا، فالظروف لا تساعد: هناك خوف شديد، ولا توجد كتب، ولا مواد تعليمية كافية، والدروس المكثفة التي تُعطى خلال شهر أو شهرين لا تكفي لتعويض عام كامل. وبدلاً من مقعد الدراسة، اضطررت للعمل في بيع الحلوى لأتمكن من تأمين مصروفي ومساعدة أهلي. أكثر ما أشعر به اليوم هو الخوف: الخوف من أن يبقى مستقبلي محاصرًا بين عمل لم أختره وتعليم فقدته، والخوف من أن يضيع حلمي كله، وأن يُمحى طموحي في أن أصبح شيئًا أكبر من مجرد بائع صغير.”3
محمد أحمد الحبيبي، 15 عامًا، من مدينة رفح، ويعيش حاليًا كنازح في مواصي خانيونس
بينما أفادت المعلمة شيرين أحمد سلامة سكر، 26 عاماً، معلمة في أحد الخيم التعليمية، لطاقم المركز، معبرة عن معاناة طلابها الذين حرمتهم حرب الإبادة من حقهم في التعلم والحياة الطبيعية
“أواجه صعوبات كبيرة في تعليم الأطفال وليس كما قبل الحرب، إذ ينعكس انقطاعهم الطويل عن الدراسة على مستواهم العلمي؛ فهم يطلبون مني باستمرار تهجئة الكلمات وكتابتها على السبورة ليتمكنوا من كتابتها بالشكل الصحيح. كما يقلقني ذعرهم الشديد عند وقوع قصف قريب من المخيم، حيث يتركون الدرس ويركضون نحو الخيام في حالة من الهلع، إضافةً إلى ما يظهر من سلوك عدواني بينهم.
يعاني الطلاب من ضعف في التركيز وانشغال دائم بأعباء الحياة داخل المخيم، كجلب المياه أو الوقوف في طابور التكية، فلا أستطيع جذب انتباههم إلا عبر الأنشطة العملية والتجارب التعليمية. فعلى سبيل المثال، في درس “الهرم الغذائي” اضطررت إلى شرحه أربع مرات حتى يتمكنوا من استيعابه؛ إذ إن وقع المجاعة القاسية التي يعيشونها يجعل من الصعب للغاية أن أميز لهم بين الأغذية وفوائدها، وهم محرومون من أبسطها. إنهم يشتكون باستمرار من الجوع، وضعف التركيز، وحالة التعب الدائمة. وحتى عندما أطلب منهم إنجاز الواجبات المنزلية، تعتذر الغالبية عن عدم قدرتها على القيام به، لغياب من يعينها بسبب انشغال الأمهات في صراع الحياة اليومية.”4
ورغم جهود وزارة التربية والتعليم ووكالة الأونروا لإطلاق برامج التعليم الافتراضي، تواجه هذه المبادرات عقبات جسيمة، أبرزها انعدام الأمن، وانقطاع الكهرباء المستمر، وضعف شبكات الإنترنت، أو غيابها تمامًا في كثير من المناطق. كما تضيف الحالة النفسية المزمنة التي يعاني منها معظم أطفال القطاع بعد ما يقارب عامين من حرب إبادة دموية أبعادًا إضافية للتحدي، إذ دمّرت هذه الحرب أحلامهم واغتالت طفولتهم، واستبدلتها بالخوف والقلق ونوبات هلع دائمة. بعض الأطفال فقدوا ذويهم، وآخرون تعرضوا لفقدان أطراف أو جزء من صحتهم، فيما تستنزف عمليات النزوح المتكررة قدراتهم وطاقاتهم. وتعاني الغالبية من صدمات نفسية جسيمة وطويلة الأمد.
“في كانون الثاني/يناير 2025، مع الهدنة، عدنا إلى منطقة الصفطاوي في غزة. بعد أن تأكدنا أن منزلنا في جباليا قد هُدم، ومع ذلك صدّقنا أن الاستقرار ربما عاد أخيرًا، وأنني سوف أتابع دراستي ولو إلكترونيًا على الأقل. لكن سرعان ما اكتشفنا أن الحرب لا تعرف معنى للاستقرار. عادت الأوامر، وعاد النزوح، وعادت معها معاناتي الأكبر: ضياع تعليمي. بالنسبة لي، النزوح المتكرر أخطر من الموت، لأنني أموت كل يوم حين أرى حياتي الطبيعية المستقرة تتلاشى. في أيار/مايو 2025 نزحت من الصفطاوي إلى مخيم الشاطئ، وها أنا اليوم، في أيلول/سبتمبر 2025، أُجبرت من جديد على النزوح من غزة إلى الجنوب، كما أمر جيش الاحتلال. أستقبل عامي الدراسي الجديد في رحلة نزوح جديدة، وهذه المرة هي الثامنة. وبين هذه السلسلة الطويلة من النزوح، ضاعت سنتي الدراسية مرة بعد مرة (السنة الثالثة). لم أعد قادرًا على أن ألحق بفترة الإعدادية التي شارفت على الانتهاء، وأنا لم أدرس منها سوى شهر في الصف السابع. ولم أستطع اللحاق بالصفوف الإلكترونية في مدرستي الأصلية، لأننا لا نملك سوى هاتفين، وتكون الأولوية لاختي التي في الثانوية العامة، وأخي الذي لحق بها هو الآخر. وحتى إن سمحت لي الفرصة لأتابع ما يرسلونه، لا أستطيع أن أستوعب حجم المعلومات، ولا أملك سوى أن أقدّم اختبارات الترفيع وأُرفع وأنا لا أفقه شيئًا تقريبًا”.5
محمد ياسر عفانة، 14 عامًا، من مخيم جباليا، ويعيش حاليًا كنازح في مواصي خانيونس
إزاء ذلك، يؤكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان أن استمرار حرمان أطفال غزة من حقهم في التعليم يشكل جريمة ممنهجة ترتقي إلى أحد أشكال الإبادة الجماعية، تستهدف القضاء على مستقبل الأجيال الفلسطينية. تنتهج السياسات الإسرائيلية إجراءات متعمدة لتدمير المؤسسات التعليمية، بما في ذلك المدارس والمكتبات ومراكز التعليم، وقتل المعلمين والطلاب، وخلق بيئة تمنع الأطفال من التعلم والتطور. وتمس هذه الممارسات السلامة النفسية والفكرية والاجتماعية للأطفال، وتطمس آمالهم في بناء مستقبل معرفي وحياة كريمة، لتصبح أجيال كاملة محرومة من الحق الأساسي في التعليم وفرص التطور الطبيعي.
لذلك، يحث المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي على التدخل الفوري والعاجل لإلزام سلطات الاحتلال بوقف جريمة الإبادة الجماعية المستمرة بحق المدنيين في قطاع غزة، وضمان حماية حقوق الأطفال في الحياة أولاً، إلى جانب صون كافة حقوقهم الأساسية، بما في ذلك الحق غير القابل للتصرف في التعليم، وتوفير البيئة الآمنة التي تمكنهم من التعلم والنمو بشكل طبيعي.