يشدد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان على أن منع سلطات الاحتلال إدخال الأدوات المساعدة الأساسية لمبتوري الأطراف وذوي/ات الإعاقة في قطاع غزة، في ظل استمرار جريمة الإبادة الجماعية والقصف المتواصل وأوامر الإخلاء القسري الجديدة، يشكّل حكمًا بالإعدام البطيء لآلاف الجرحى والناجين ممن فقدوا أطرافهم. هؤلاء يُتركون بلا كراسٍ متحركة أو أطراف صناعية أو عكازات، في الوقت الذي يواجهون فيه تهديدات إسرائيلية بعملية عسكرية برية تطال مدينة غزة، وأوامر إخلاء تجبر فيها القوات المحتلة نحو مليون فلسطيني على النزوح القسري جنوبًا1، بما في ذلك عشرات الآلاف من ذوي/ات الإعاقة الذين لن يتمكنوا من الحركة أو الإخلاء الآمن. وقد بدأ الجيش الإسرائيلي بالفعل بتصعيد ممنهج ضد المدنيين، من خلال قصف الأبراج والعمارات السكنية التي تضم أشخاصًا من ذوي/ات الإعاقة، في وقت لا يمنحهم القصف سوى دقائق محدودة للنجاة، بينما يُحرمون من الوسائل الأساسية التي تكفل لهم حقهم في الحياة والأمان.
منذ بداية حرب الإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة، خسر ما يقارب خمسة آلاف فلسطيني وفلسطينية أطرافهم في واحدة من أكبر كوارث البتر التي يشهدها العالم منذ عقود. ويؤكد الأطباء الذين قابلهم باحثونا أن معظم هذه الحالات كان يمكن إنقاذها، لولا الانهيار شبه الكامل للمنظومة الصحية، والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات والمعدات الجراحية. دفع هذا العجز الطواقم الطبية إلى اعتماد البتر كخيار وحيد للحفاظ على الأرواح.2
حوّلت هذه الجريمة قطاع غزة إلى واحد من أكثر بقاع العالم التي تضم أعداد كبيرة من الأطفال مبتوري الأطراف،3 في صورة تعكس حجم المأساة الإنسانية المتفاقمة. ويزيد الوضع سوءًا أن هؤلاء الجرحى يحتاجون إلى عمليات ترميمية وأطراف صناعية غير متوفرة داخل القطاع، فيما لم يُسمح إلا لعدد محدود جدًا بالسفر لتلقي العلاج في الخارج، وغالبًا ما كانت الرعاية المقدمة لهم جزئية وغير كافية. ويُترك معظم هؤلاء الأطفال بعد بتر أطرافهم في ظروف حرب قاسية، محرومين من الرعاية الطبية اللاحقة ومن برامج إعادة التأهيل، بما يشكل انتهاكًا صارخًا لحقوقهم الأساسية. ولا يقتصر الأمر على فقدان أطرافهم، بل يمتد ليترك آثارًا نفسية واجتماعية عميقة تهدد نموهم الطبيعي ومستقبلهم.
“ابني رجب عمره 8 سنوات، طفلي البكر وفرحة عائلتنا كلها. كان نشيط ومرح ويحب الناس، متميز في المدرسة، ويعشق ركوب الدراجة الهوائية. لكن الحرب سرقت منه طفولته. منذ بدايتها صار يرتعب من الأصوات العالية، يعاني من نوبات هلع، ولا ينام إلا وهو ممسك بيدي. تأثر كثيرًا باستشهاد عمّه وخاله، وظلّ طوال الوقت ملتصقًا بي. بتاريخ 13 ديسمبر 2024، كنا جميعًا نازحين داخل أحد الفصول الدراسية بمدرسة الفلاح، وفجأة استهدفت الطائرات الإسرائيلية المكان بشكل مباشر. انهار كل شيء فوقنا. استشهد أخي حسن ووالدتي وشقيقة زوجي، تعرضنا جميعًا لإصابات مختلفة، لكن الإصابة الأصعب كانت لابني رجب. انهالت عليه الانقاض فتمزقت ساقه اليمنى وبُترت فور وصوله للمستشفى، وأصيب بكسر في الجمجمة وامتلأت ساقه اليسرى بالشظايا. كان وضعه حرجًا للغاية. بعد ثلاثة أيام استيقظ من الغيبوبة، ووجد نفسه بلا ساق، ومنذ ذلك اليوم لم نعرف طعم الراحة. رجب خضع لعمليات متتالية في ساقيه، يعاني من ألم لا يحتمله طفل، ويبكي بحرقة ويقول أنه يتمنى الموت بدلًا مما حصل له. أصبح سريع الانفعال، كثير الحساسية، يرفض أن يرى الناس ساقه المبتورة ويقول لي: “أنا بدي أغطّي رجلي”. ولم تنتهِ معاناته هنا، ففي يوليو الماضي، ومع اشتداد المجاعة وسوء التغذية، انكسر فخذه الأيمن بعد أن انزلق أثناء محاولته المشي بالعكّازات. تبيّن أنه يعاني من هشاشة عظام حادة بسبب قلة الغذاء والدواء، واضطر الأطباء لتركيب بلاتين داخلي وجبيرة خارجية. اليوم يعيش طفلي بين دموعه وألمه، يشعر بالنقص حين يرى أبناء خالته يلعبون من حوله، ويحاول مجاراتهم لكنه يعود ليبكي بصمت. وأنا كأم لا أملك إلا أن أراه يتألم، أعجز عن منحه طفولته التي سلبها الاحتلال”.
السيدة ساجدة البابا، 25 عامًا، من سكان حي الصبرة بمدينة غزة4
ووفق وزارة الصحة بقطاع غزة، فقد بلغ عدد مرضى البتر وإصابات الدماغ والحبل الشوكي خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (2023–2025) ما مجموعه 4800 حالة مسجّلة، وقد أجرت الجهات الطبية تقييماً مع الصليب الأحمر الدولي لنحو 2889 حالة بتر، حصل 953 مريضاً منهم على تحويلة للعلاج خارج القطاع، لكن لم يتمكن من السفر سوى 54 مريضاً فقط. وتشير البيانات إلى أن حالات البتر شكّلت النسبة الأكبر بواقع 1830 حالة (63%)، مقابل 1059 حالة (37%) من إصابات الدماغ والحبل الشوكي، منها 231 إصابة بالحبل الشوكي (SCI) و159 إصابة دماغية رضية (TBI).5
وتكشف البيانات أن الرجال شكّلوا النسبة الأكبر من المصابين، حيث بلغوا 77%، مقابل 23% من النساء. وتظهر الأرقام أن الفئة العمرية الأكثر تضررًا كانت فئة الرجال بين 18 و59 عامًا بعدد 1,651 إصابة، يليهم الأطفال الذكور دون سن 18 بعدد 633 إصابة، ثم الأطفال الإناث بعدد 383 إصابة، في حين سُجّل 222 إصابة بين كبار السن فوق 60 عامًا. أما جغرافيًا، فقد تصدرت مدينة غزة المشهد بعدد 1,101 إصابة، تلتها شمال غزة بعدد 726 إصابة، ثم المحافظة الوسطى بعدد 480 إصابة، وخانيونس بعدد 356 إصابة، في حين شهدت رفح 226 إصابة.6
وفق متابعة باحثي المركز، يعاني مصابو البتر وذوو الإعاقة في قطاع غزة خلال جريمة الإبادة الجماعية المستمرة من حرمان طويل ومتعمد من الأدوات المساعدة على الحركة، مثل الكراسي المتحركة والأطراف الاصطناعية والعكازات المساعدة. فقد منعهم الجيش الإسرائيلي من الحصول عليها أو الوصول إليها، ما اضطر كثيرين للزحف لمسافات طويلة للتنقل أو الهروب من القصف، ما تسبب في إصابات إضافية لهم في كثير من الحالات. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن سلطات الاحتلال فرضت إجراءات صارمة حرمت أكثر من 83% من الأشخاص ذوي الإعاقة من أبسط حقوقهم في الوصول إلى هذه الأدوات، بحجة إدراجها ضمن ما يسمى بالسلع “مزدوجة الاستخدام”.7 وأدى هذا المنع الممنهج إلى مضاعفة المعاناة، خصوصًا مع فقدان آلاف الأشخاص أدواتهم أثناء النزوح القسري أو تحت أنقاض منازلهم المدمرة، ما صعّب عليهم التنقل والحصول على العلاج وحتى ممارسة حياة كريمة.
“ قبل الحرب كنت أعمل في محطة بترول وأعيش حياة طبيعية مع أسرتي، لكن الحرب غيّرت كل شيء. في نوفمبر 2023 أصيبت طفلتي ريتال-7 أعوام- وبترت يدها، وبعدها بأشهر في فبراير 2024 أصبت أنا خلال قصف أثناء نزوحنا لمدينة رفح وبُترت قدماي الاثنين. قضيت فترة طويلة في المستشفيات بين غيبوبة وعلاج، وبعد خروجي بدأت معاناة أكبر مع غياب الأدوية والمسكنات. يمنع الاحتلال دخول العلاج، وحتى الطعام المناسب للمرضى لم يكن متوفر، كنا نعيش فقط على المعلبات المصنعة. حصلت من المستشفى الميداني الإماراتي بمدينة رفح على كرسي متحرك يدوياً، لكنه مع الوقت أصبح متهالك وغير مناسب لحالتي. الطرقات في مدينة غزة كلها مدمرة، مليئة بالركام والرمال والحفر، والكرسي لا يساعدني أبدًا، وفي كل تنقل كنت أحتاج من يحملني أو يرافقني، حتى ذهابي للعلاج الطبيعي صار معاناة يومية، حيث أصبحت الجلسات العلاجية بمستشفى مستشفى الأمير حمد المتخصص في شمال غزة رحلة عذاب، كونه يبعد 7 كيلومترات عن مكان نزوحي، وأضطر للذهاب بواسطة الكرسي المتحرك وسط طرق رملية مدمرة، يرافقني ابني مجد حتى أصل، وينتظرني أحد لأصدقاء ليساعدني بالعودة. بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة ومنع إدخال الأدوات المساعدة للمرضى والجرحى مبتوري الأطراف، لا أستطيع الحصول على كرسي كهربائي يوقف معاناتي. اليوم أكبر خوفي هو من تهديدات جيش الاحتلال بإخلاء مدينة غزة من سكانها، كما حصل في مرات سابقة حين اضطر الناس إلى النزوح مشيًا على الأقدام عبر طرق مدمرة. أنا مبتور القدمين ولا أملك كرسيًا كهربائيًا أو وسيلة تساعدني على الحركة. الكرسي العادي الذي بحوزتي متهالك ولا يصلح لعبور الطرقات الرملية المليئة بالحفر والركام. مع صدور أمر الإخلاء لن أتمكن من الحركة، وهذا يعني حكمًا بالإعدام عليّ، ومعاناة مضاعفة لعائلتي كلها التي لن تتركني وحيدًا. زوجتي وأطفالي الأربعة سيجدون أنفسهم عالقين معي وسط الخطر لأنهم لن يتخلوا عني، وهذه هي المأساة الأكبر: أن يُترك المبتورون والجرحى بلا وسيلة نجاة في مواجهة الموت”.
السيد حمزة عبد نصر سالم، 33 عاماً، من سكان مخيم جباليا بشمال قطاع غزة، نازح بمدينة غزة8
خلال أشهر الحرب الماضية، لم يعد في قطاع غزة أي مراكز متخصصة لعلاج مبتوري الأطراف بعد أن دمّر الجيش الإسرائيلي مستشفى الأمير حمد بن جاسم، ومستشفى الوفاء للتأهيل، ومستشفى الأمل للتأهيل، إضافة إلى استهداف وتدمير أقسام العظام في عدد من المستشفيات أهمها مجمع الشفاء الطبي، والذي كان يحتوي على أجهزة تصوير طبي مهمة لإجراءات التشخيص المتقدمة. ووسط هذا الخراب، يتلاشى بعض الأمل بعد تقويض عمل مركز الأطراف الصناعية، الذي تديره بلدية مدينة غزة، كونه متخصص في صناعة وصيانة الأطراف الصناعية، لكنه اليوم يواجه خطر التوقف التام نتيجة التهديد بإخلاء المدينة، وبسبب الحصار ومنع إدخال المواد الأساسية بحجة ما يسمى “الاستخدام المزدوج”، فضلًا عن أزمة الوقود وانقطاع الكهرباء.9 ومع تزايد أعداد المراجعين بشكل غير مسبوق، يقف آلاف المصابين/ات في مواجهة عجز شامل لا يقتصر على الأطراف الصناعية فقط، بل يشمل أيضًا العكازات والكراسي المتحركة والأدوات المساعدة على الحركة، ما يضاعف من معاناتهم اليومية ويعرضهم لمضاعفات صحية خطيرة في ظل غياب الرعاية الكافية.
يؤكد المركز أن السياسات الإسرائيلية جعلت الوصول إلى العلاج أو سبل الفرار من أماكن الخطر شبه مستحيل بالنسبة لذوي/ات الإعاقة في قطاع غزة، بعد أن جُرّدوا عمدًا من الأدوية والأدوات المساعدة عبر سياسة متعمدة تستهدف الفئات الأكثر هشاشة. إن إصابات البتر التي لحقت بآلاف الأطفال والبالغين تندرج بوضوح ضمن الأفعال المكوِّنة لجريمة الإبادة الجماعية، وتحديدًا الفعل الثاني المنصوص عليه في المادة الثانية من اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، والمادة السادسة من نظام روما الأساسي، والمتمثل في إلحاق أذى جسدي أو نفسي جسيم بأعضاء من الجماعة. فالبتر لا يعني فقدان عضو فحسب، بل إعاقة دائمة تقيد استقلالية الفرد وتعيق مشاركته الفاعلة في المجتمع، فيما تمتد آثاره إلى الجانب النفسي عبر الصدمات المستمرة، وفقدان الثقة والشعور بالعجز، بما يعيق القدرة على ممارسة حياة طبيعية ومستقرة.
كما يُعد المركز حرمان هؤلاء المرضى من حقهم في العلاج والدواء وإمكانية السفر لتلقي العلاج خارج القطاع المحاصر، سياسة عقاب جماعي ممنهجة ترتكبها سلطات الاحتلال بحق المدنيين الفلسطينيين، وهو سلوك ينتهك أحكام اتفاقيات جنيف الرابعة التي تلزم قوة الاحتلال بضمان الرعاية الصحية وتوفير ما يلزم لبقاء السكان المدنيين وفق المادتين 55 – 56، كذلك يمثل خرقًا مباشرًا لالتزامات دولة الاحتلال الإسرائيلي بموجب اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي تكفل الحق في الحصول على وسائل الحركة، والعلاج، والعيش باستقلالية، وكرامة.
لذلك، يدعو المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري لإلزام سلطات الاحتلال بوقف جريمة الإبادة الجماعية المستمرة ضد المدنيين في قطاع غزة، وضمان إدخال الأدوات المساعدة والأطراف الصناعية والأدوية دون أي قيود. كما يطالب المركز الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة بفتح ممرات إنسانية آمنة وإتاحة السفر العاجل للمرضى ومبتوري الأطراف لتلقي العلاج خارج القطاع، باعتباره حقًا مكفولًا بموجب القانون الدولي. ويدعو المركز المحكمة الجنائية الدولية إلى فتح تحقيق عاجل في هذه الانتهاكات التي ترقى إلى مستوى جرائم الإبادة الجماعية، كما يحث الدول الأطراف في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة على ممارسة ضغط سياسي وقانوني جاد لضمان حماية حقوق ذوي الإعاقة في غزة وتمكينهم من العيش بكرامة كاملة.