كثفت قوات الاحتلال الإسرائيلي تصعيد هجومها العسكري على مدينة غزة لتنفيذ خطتها العسكرية المعلنة الرامية إلى السيطرة الكاملة على المدينة وتفريغها من سكانها وتهجيرهم قسرًا نحو جنوب القطاع. يأتي ذلك في وقت يتواصل فيه العدوان العسكري الإسرائيلي في جميع أرجاء قطاع غزة، بما في ذلك منطقة المواصي غربي خانيونس، التي أعلنتها دولة الاحتلال منطقة إنسانية،1 في خطوة تضليلية لتمرير التهجير القسري لمئات آلاف المواطنين، وتنفيذ أوسع لجريمة الإبادة الجماعية التي تستهدف محو الفلسطينيين.
ووفق متابعة طواقمنا، زادت قوات الاحتلال في الأيام الماضية من وتيرة تفجير الروبوتات المفخخة خاصة في ساعات الليل والفجر في مناطق جباليا النزلة ومنطقة أبو إسكندر وشارع الجلاء حتى مفترق الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة. كما رُصدت تفجيرات ليلية متكررة شرق بركة الشيخ رضوان باستخدام طائرات مسيرة إسرائيلية تلقي حزما من المواد الناسفة على المباني المرتفعة.
ويتواصل القصف المدفعي الإسرائيلي الكثيف شمال شرقي حي الشيخ رضوان، بالتوازي مع إطلاق نار من طائرات مسيرة من نوع “كواد كابتر”، إضافة إلى استهداف مباشر من رافعة عسكرية منصوبة شرق بركة الشيخ رضوان باتجاه منازل المدنيين في حي الشيخ رضوان وشارع الجلاء.
ودفع كل ذلك آلاف المواطنين للنزوح قسرًا باتجاه شاطئ بحر جباليا قرب الأبراج المصرية، في حين توجهت أعداد أخرى باتجاه الجنوب حيث يتكدس الآلاف دون توفر مساحات تستوعب أعداد النازحين.
كما تتواصل حركة النزوح جنوب مدينة غزة بعد إعلان الجيش الإسرائيلي عزمه السيطرة على المدينة وإخلائها من السكان، ما أدى إلى فقدان آلاف العائلات لمساكنها ومصادر معيشتها.
وتنفذ قوات الاحتلال منذ 11/8/2025، هجمات عسكرية مكثفة برًّا وجوًّا في ثلاثة محاور من مدينة غزة، الجنوبية والشرقية والشمالية؛ ليحاصر المدينة، مع أوامر متكررة تطالب السكان بالتوجه إلى الجنوب، ضمن عملية عسكرية جديدة أطلقت عليها قوات الاحتلال “عربات جدعون 2” تستهدف ما تبقى من البنية التحتية والمساكن في مدينة غزة.
وفي إفادته لطاقم المركز، أفاد المواطن حسن الشريف، 66 عامًا من سكان حي الشيخ رضوان: “بعد منتصف الليل سمعنا انفجارًا ضخمًا. خرجنا لنجد بيت جيراننا قد تحول إلى ركام. لم يبقَ شيء سوى الغبار، فأخذت عائلتي وصرنا نركض بالشارع دون أخذ أبسط الأشياء معنا من المنزل.”
أما المواطنة مروة الأسي، 45 عامًا من سكان منطقة الزرقا، فأفادت لطاقم المركز “اضطررنا للهرب بسبب كثافة النيران وتدمير المنازل أمامنا. النزوح بالنسبة لي موت بطيء لا يقل قسوة عن القصف، فنحن نمكث بالشارع ولا نعلم وين نروح.”
كما أفادت المواطنة إنعام يوسف الناجي، 21 عامًا جنوب بركة الشيخ رضوان “نزحت مع عائلتي سيرًا على الأقدام تحت القصف المدفعي والجوي نحو غرب غزة. كانت لحظات رعب لم نعش مثلها من قبل”.
وإلى جانب تصعيد الهجوم العسكري في محاور الجنوب والشرق والشمال من المدينة، كثفت قوات الاحتلال منذ بداية سبتمبر الجاري غاراتها الجوية لتشمل مختلف أحياء مدينة غزة، خاصة الأحياء الغربية، حيث يتكدس مئات آلاف النازحين، وركزت الغارات على استهداف الأبراج السكنية والبنايات العالية.
ووفق متابعة طواقمنا، عند حوالي الساعة 13:30 من يوم الجمعة الموافق 05/09/2025، دمرت طائرات الاحتلال الإسرائيلي برج مشتهى المكون من 14 طابقًا، قرب دوار أنصار غرب غزة، بعد أن أبلغت سكانه بضرورة الإخلاء الفوري.
ويضم البرج عشرات الوحدات السكنية التي كانت تؤوي مئات العائلات، كثير منها نازح من مناطق أخرى مدمرة.
وشكل تدمير البرج صدمة جماعية للسكان الذين وجدوا أنفسهم في العراء، وسط حالة من الفزع والرعب والهلع بين الأهالي وسكان الخيام المجاورة.
ووفقًا لإفادة المواطنة أم ماهر الراعي (50 عامًا) التي نزحت مع عائلتها منذ أسبوعين إلى البرج، وجاء خبر الإخلاء كالصاعقة: “شعرت أن قدميّ تشبثتا بالأرض ولم أستطع الحركة. أولادي ساعدوني على النزول، ووقفنا بالشارع نشاهد البيت الذي سترنا بعد النزوح وهو يتهاوى أمام أعيننا.”
أما الطفل محمد مشتهى (9 أعوام) من سكان البرج فقال: “كنت ألعب مع إخوتي، فجأة بابا صاح وقال لازم ننزل بسرعة. ركضنا على الدرج وصوت الطيارة فوقنا قوي. لما وصلنا الشارع، شفت البرج بيوقع مثل جبل، وألعابي وكتبي كلها راحت”.
وفي خطوة مماثلة، قصفت طائرات الاحتلال يوم السبت الموافق 06/09/2025، برج السوسي الواقع بالقرب من مفترق الصناعة، ويضم هو الآخر عشرات الوحدات السكنية المأهولة، ودمرته بالكامل.
وأفادت الطفلة آية الزين، 14 عامًا لطاقم المركز: “كنا عايشين مع خالتي بنفس الشقة بعد ما بيتنا الأول انقصف، لما قالوا لنا نطلع، أخذت حقيبة فيها الأساسيات، لكن نسيت دفتر الرسم، وأجندة يومياتي، وألبوم الصور. وقفت بالشارع أبكي وأنا أشوف شقتنا تختفي بالتراب”.
وفي جريمة أخرى، دمرت قوات الاحتلال عند حوالي الساعة 18:30 يوم الأحد الموافق 07/09/2025، عمارة الرؤيا الواقعة بالقرب من مفترق المالية جنوب غرب مدينة غزة، والتي كانت تؤوي عشرات العائلات.
تدمير هذه الأبراج السكنية لا يعني فقط خسارة المنازل، بل طمس حياة وذكريات مئات العائلات التي باتت بلا مأوى للمرة الخامسة أو السادسة وحتى العاشرة، مع استمرار موجات النزوح وفقدان أدنى مقومات العيش الكريم.
ونتيجة اعدام الخيارات، اضطرت العديد من العائلات إلى نصب خيام بدائية على الشاطئ أو في الشوارع المدمرة، وسط صعوبات في الحصول على مياه شرب وغذاء ودواء.
وأفادت المواطنة شهد شعبان، 25 عامًا من سكان شارع النفق: “سقط صاروخ بجانب بيتنا بينما كنت أُرضع طفلي. خرجنا مسرعين بلا أحذية أو متاع. لم نحمل شيئًا سوى أرواحنا.”
أما المواطنة أم عوني الربيعي، النازحة في محيط مستشفى الشفاء في خيمة مهترئة، فقالت: “يسألني أطفالي كل ليلة: أين سننام؟ لا أملك جوابًا. الخوف والجوع أصبحا رفيقنا الدائم ولا نملك المال لنقلنا للجنوب أو لشراء خيمة.”
وسط كل ذلك، كثفت قوات الاحتلال جرائم القتل الجماعي ضد السكان المدنيين في مدينة غزة، ما أدى عشرات القتلى والجرحى.
وضمن ما وثقته طواقمنا في الأيام الماضية:
عند حوالي الساعة 01:00 يوم الجمعة الموافق 05/09/2025، قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي خيمة تؤوي نازحين داخل مقر الجامعة الاسلامية غرب مدينة غزة، ما أدى إلى مقتل 4 مواطنين من عائلة العفيفي، بينهم أب وطفليه.
وعند حوالي الساعة 05:00 من اليوم نفسه، قصفت طائرات الاحتلال شقة سكنية في حي اليرموك وسط مدينة غزة، ما أدى إلى مقتل ثلاثة مواطنين من بينهم طفلة وسيدة، من عائلتي جودة وسلامة.
وعند حوالي الساعة 05:30 من اليوم نفسه، شنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي غارة محيط مقر الجوازات سابقاً الواقع بحي الرمال غرب مدينة غزة وهي منطقة مكتظة بخيام النازحين. أسفر ذلك عن مقتل 6 مواطنين، بينهم سيدة وطفلان، من عائلات طوطح ومصلح والجبالي. (يحتفظ المركز بأسماء الضحايا).
وعند حوالي الساعة 23:30 يوم الخميس الموافق 04/09/2025، قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي خيمة تؤوي نازحين بالقرب من مفترق أبو مازن في حي الرمال الجنوبي غرب مدينة غزة. أسفر القصف عن مقتل 5 مواطنين من عائلة البسوس، منهم أربعة أطفال أشقاء، في مشهد يختصر حجم المأساة وعمق الفاجعة.
وعند حوالي الساعة 02:10 يوم الأربعاء الموافق 03/09/2025، قصفت طائرات الاحتلال شقة سكنية تؤوي نازحين من عائلة الجريسي بالقرب من مصنع اسليم في شارع النفق شمال مدينة غزة. أسفر القصف عن مقتل 5 من أبناء العائلة، بينهم شقيقان ونجليهما.
وعند حوالي الساعة 11:30 من اليوم نفسه، قصفت طائرات الاحتلال شقة سكنية تؤوي نازحين من عائلة أبو عيطة بالقرب من جسر الشيخ رضوان بحي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة، مما أدى إلى مقتل خمسة من أفراد العائلة، بينهم سيدة وطفل.
وسط هذه الحالة المروعة من القتل الجماعي والتدمير الشامل للمباني والتجويع الممنهج، والمستمرة منذ نحو عامين، يعيش سكان قطاع غزة الذين يزيد عددهم عن مليوني إنسان حالة إرهاق جسدي ونفسي غير مسبوقين مع انعدام مقومات الحياة الأساسية.
إزاء كل هذه التطورات، يجدد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان تحذيره السابق من التداعيات الكارثية للخطة الإسرائيلية المعلنة، الرامية إلى السيطرة الكاملة على مدينة غزة وتفريغها من سكانها وتهجيرهم قسرًا نحو جنوب القطاع.
وينبه إلى أن ما يجري تمهيد إسرائيلي لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين وتهجير من تبقى منهم خارج الحدود في أكبر عملية تطهير عرقي تشهدها الأراضي الفلسطينية منذ النكبة، بينما يصمت المجتمع الدولي أو يعجز عن التدخل الجاد لوقف الإبادة الجماعية التي تدخل الآن شهرها الثالث والعشرين.
ويؤكد المركز أن إعلان الاحتلال منطقة المواصي منطقة إنسانية ليس سوى غطاء دعائي وتضليلي لتمرير التهجير القسري لمئات آلاف المواطنين، وأن الواقع في المنطقة كارثي على كل الصعد نتيجة استمرار الانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين الفلسطينيين.
وتعرضت منطقة المواصي وهي بالأساس منطقة زراعية تفتقر للمباني والخدمات، لقصف إسرائيلي متكرر طوال الأشهر الماضية، ما أسفر عن آلاف القتلى والجرحى، فضلا عن الاستهداف اليومي بقذائف المدفعية وإطلاق النار من الآليات العسكرية والزوارق الحربية الإسرائيلية، رغم أن الاحتلال قدّمها منذ بداية هجومه العسكري قبل نحو 23 شهرًا على أنها ملاذ آمن للنازحين.
المركز يؤكد أن إعلان الاحتلال مناطق “إنسانية” طوال الأشهر الماضية، لم يقترن بأي التزام قانوني من جانب دولة الاحتلال، بل شكّل وسيلة إضافية لتجميع المدنيين وفرض ظروف معيشية قاسية عليهم، تسهل قتلهم وتجويعهم وتهجيرهم قسرًا فضلا عن فرض وقائع جديدة على الأرض.
ويكشف استمرار القصف المتكرر، وحرمان النازحين من الغذاء والرعاية الصحية، في منطقة المواصي بوضوح أن الهدف الحقيقي هو توسيع سياسات التطهير العرقي وليس حماية المدنيين، وأن تجميع سكان غزة والنازحين فيها الذين يقدر عددهم بين 800 ألف ومليون نسمة إنما يمهد لتهجيرهم خارج وطنهم.
ويطالب المركز المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة برفض هذا التضليل ومحاسبة دولة الاحتلال على جرائمها، وضمان حق سكان غزة وكل المدن لفلسطينية البقاء فيها، وتوفير ممرات آمنة وفعالة لإيصال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين وفق القانون الدولي الإنساني.
ويطالب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان المجتمع الدولي، وخاصة: الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمفوض السامي لحقوق الإنسان، باتخاذ إجراءات عاجلة وفورية لوقف تنفيذ الخطة الإسرائيلية، ومنع تكرار نكبة جديدة بحق الفلسطينيين، وحماية مدينة غزة، أكبر المدن الفلسطينية، التي تضم مئات المعالم التاريخية والحضارية، وإلزام إسرائيل بوقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها ضد سكان قطاع غزة.