سبتمبر 3, 2025
صرخة من المعتقل: شهادة إيناس بداون عن اعتقالها داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي
مشاركة
صرخة من المعتقل: شهادة إيناس بداون عن اعتقالها داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي

تاريخ الإفادة: 20/8/2025

أنا إيناس أحمد عبد الفتاح بدوان، 32 عاماً. درست التعليم الأساسي وحصلت على شهادة البكالوريوس فيه. كنت أعيش حياتي الطبيعية مع عائلتي في حي الزيتون بمدينة غزة، وأحلم كبقية الفتيات بحياة مستقرة مليئة بالأمان، إلى أن اندلعت الحرب بعد السابع من أكتوبر 2023 فغيّرت مسار حياتي بالكامل.

مع بداية الهجوم العسكري الإسرائيلي، وبعد أربعة أيام فقط من القصف العنيف على منطقتنا في حي الزيتون، اضطررنا أنا وإخوتي إلى النزوح من منزلنا. لجأنا إلى عائلة “أبو عثمان السرحي”، وهي عائلة تعرفت عليها من خلال العمرة في السعودية. انتقلنا للعيش في منزلهم الكائن بجوار مدرسة دير اللاتين في غزة. بقينا هناك نحاول الاحتماء من القصف المتواصل.

بتاريخ 8 ديسمبر 2023 اجتاح الجيش الإسرائيلي المنطقة، فحاصروا البيت الذي كنا فيه لمدة أسبوع كامل. كنا طوال ذلك الأسبوع نعيش وسط رعب متواصل: القصف المدفعي ينهال من كل جهة، رشاشات ثقيلة تحيط بالمنزل، وقنابل دخانية ألقوها داخل البيت سببت لنا حالات اختناق وإغماء. كنا معزولين تمامًا، الاتصالات مقطوعة ولا نعرف إن كان أحد في الخارج يعلم عنا. لم يكن يصلنا أي خبر، ولم نكن قادرين على الاستغاثة. كانت أيامًا سوداء، شعرت خلالها أن الموت يقترب منا في كل لحظة.

في صباح يوم الجمعة الموافق 15 ديسمبر 2023، بعد أسبوع من الحصار، رفعنا رايات بيضاء علّنا نستطيع الخروج بسلام. خرجنا من البيت لكنهم اعتقلونا جميعًا على الفور. كنا ثماني نساء وأربعة رجال. كان بيننا فتاة مريضة بالصرع تحتاج إلى دوائها باستمرار.

حاولنا التكلم معهم اننا مدنيين، ومعنا مريضة، إلا انهم من اللحظة الأولى عاملونا بوجشية وإذلال. اقتادونا بقوة، فصلوا الرجال عن النساء، جردوا الرجال من ملابسهم، حتى الداخلية منها. وأجبرونا نحن النساء على خلع بعض ملابسنا أمام الجنود من دون وجود أي مجندة. رفعوا ملابسنا الداخلية وصوبوا أسلحتهم نحونا وهم يضحكون ويتهكمون علينا. طلبوا منا رفع ملابسنا إلى الأعلى، وإنزال البنطال، والدوران أمامهم في وضعية مهينة ومخجلة، لا تُحتمل. حتى زوجة أبو عثمان السرحي، التي كانت منقبة، لم تُستثنَ؛ فقد أُجبرت على خلع نقابها، ثم أجبروها على إنزال بنطالها تحت تهديد السلاح، في مشهد يحطم كل ما للإنسان من كرامة وخصوصية. كان ذلك إذلالًا متعمدًا وانتهاكًا صارخًا للكرامة الإنسانية، لحظة محفورة في ذاكرتي كجرح لا يندمل.

بعد أن انتهوا من التفتيش المهين، نقلوا الرجال إلى البيت المجاور للتحقيق، وهناك قيدوا أيديهم، فيما أعادونا نحن النساء إلى منزل عائلة السرحي. ثم بدأت القوات الإسرائيلية بمصادرة ممتلكاتنا الشخصية؛ فقد استولوا على مبالغ مالية ضخمة تعود لعائلة السرحي بلغت (600 ألف دولار)، إضافة إلى (1.5 كغم من الذهب السعودي). وفي تلك الحقيبة أيضًا كان دواء الصرع الخاص بابنتهم المريضة، لكن الجنود رفضوا إعطائها إياه، ورفضوا كذلك إعادة الحقيبة بحجة أنهم أرسلوها إلى إسرائيل.

لم يقتصر الأمر على ذلك، بل صادروا حقيبتي الخاصة التي كانت تحتوي على (400 دولار، 200 شيكل، وبطاقتي صراف آلي تعودان لي ولوالدي)، إضافة إلى هاتفي المحمول وكل محتوياته. ومع ازدياد تدهور حالة البنت المريضة التي كانت بحاجة ماسة إلى علاجها، ظل والدها يتوسل للجنود أن يعطوها الدواء من الحقيبة، لكنهم رفضوا ببرود. حتى حينما طلبت الطفلة الذهاب إلى الحمام، لم يسمحوا لها إلا بصعوبة وبعد إلحاح شديد.

ثم بدأ الجنود يوجهون إلينا أسئلة متكررة: “لماذا أنتم متواجدون في هذا المكان؟”. بعد ذلك اقتادوني شخصيًا للتحقيق في الطابق الخامس من العمارة، بطريقة عنيفة وفجة، ومعهم كلب مسعور وضعوا على فمه لجامًا حديديًا. كاد الكلب أن ينقض عليّ لولا أن أبعده الضابط في اللحظة الأخيرة، لكن الرعب تسلل إلى جسدي بالكامل، وكنت على يقين في داخلي أنني ذاهبة إلى الموت. كنت أرتجف وأفكر فقط بأنهم سيعدموني هناك في الطابق الخامس.

في إحدى شقق الطابق، جلس أمامي ضابط إسرائيلي ملثم، يتحدث العربية والإنجليزية، وبدأ يطرح أسئلته بلهجة قاسية مليئة بالتخويف والتهديد. كان يصرخ في وجهي باستمرار، وكانت أولى أسئلته عن اسمي وأسماء إخوتي وأخواتي وأين يتواجد أفراد عائلتي. ثم سألني مباشرة: “أين يوجد السنوار؟”، فأجبته أنني لا أعرف.

لاحقًا جاء ضابط آخر ملثم، عرّف نفسه باسم “موسى”، كان صوته أكثر حدة ونبرته أشد قسوة. بدأ حديثه معي بعبارة صادمة: نحن من يوم 7 أكتوبر 2023 بطلنا نعرف الله”. ثم انهال علي بالأسئلة حول سكان المنطقة وجيراني، ومن شارك في أحداث 7 أكتوبر. سألني تحديدًا عن شقيقي الذي يبلغ 25 عامًا إن كان قد شارك، فأجبته بالنفي. وسألني: “أين كنتِ عندما وقعت أحداث 7 أكتوبر؟”، فقلت له: “كنت نائمة”. كما سألني عما شاهدته على مواقع التواصل الاجتماعي في ذلك اليوم، وهل قمت بنشر صور أو منشورات، فأكدت أنني لم أنشر شيئًا.

أخذوا هاتفي المحمول وأصروا على الحصول على كلمة السر، وما زال الهاتف معهم حتى الآن. ثم أجبروني على محاولة الاتصال بشقيقي، لكن لم يكن هناك إرسال، فحمدت الله في داخلي لأنه لم يتم الرد. كنت طوال الوقت مطرقة بعيني إلى الأرض، عاجزة عن النظر إلى وجه الضابط من شدة الخوف، فصرخ بي قائلًا: ارفعي عينيك واطلعي فيّ.. بدي أشوف عيونك.

وسط هذا الترهيب، هددني الضابط بشكل مباشر ومخيف “بدنا نخلي 10 أشخاص يغتصبوكي.. بدنا نحبسك.. بدنا نقتلك إنت وعيلتك.. وبدنا ننزل البيت على روسكم”. كانت كلماته كالسكاكين، شعرت أن الموت يقترب بالفعل، وأن هذه التهديدات قد تتحقق في أي لحظة. استمر التحقيق ثلاث ساعات كاملة، لكنها بدت لي وكأنها ثلاثون سنة. فقدت تركيزي وعقلي، لم أعد قادرة على التفكير أو استيعاب ما يجري.

طوال فترة التحقيق، كنت أسمع صرخات الشباب المحتجزين في الطوابق الأخرى، وأسمع أصوات الكلب وهو ينقض عليهم، وأصوات الجنود يضربونهم بكعوب البنادق. الضابط نفسه كان يتركني أحيانًا دقائق ليتناول طعامه، بينما كنت أغرق في الخوف والارتجاف. بدا أنه شاب في الثلاثينيات من عمره، يتحدث العربية بلهجة درزية، وكان يحمل دفترًا يسجل فيه الملاحظات أثناء التحقيق.

من بين الأسئلة التي وجهت إليّ أيضًا: “لماذا لم تذهبي إلى الجنوب؟”. لم أجد إجابة سوى الصمت. وعندما انتهى التحقيق في وقت الغروب، أنزلوني من الطابق الخامس. لم أصدق أنني ما زلت على قيد الحياة. كنت أشعر بإنهاك شديد جسديًا ونفسيًا، ورأسي مثقل بصدمة الساعات الثلاث التي عشتها كأنها دهور.

بعد انتهاء التحقيق، جاء الضابط الإسرائيلي وأمر جنوده أن يمسك كل واحد منهم يد امرأة، واقتادونا جميعًا إلى الخارج. كان المشهد مروعًا؛ إذ كان عدد الجنود المنتشرين في المنطقة يقارب مئتي جندي إسرائيلي، فيما أنزلوا الرجال والشباب معنا، وأجبرونا على السير جميعًا أمامهم كـدروع بشرية، بينما الجيش يسير خلفنا بكثافة السلاح.

واصلنا المسير حتى وصلنا إلى منطقة الشجاعية، تحديدًا بالقرب من “بيج ماركت” بجوار “مخبز اليازجي”، حيث أوقفونا وأجلسونا على الأرض. سألونا إن كنا جوعى، ثم أعطوا كل واحد منا قطعة خبز يابسة. كنت أحاول التحدث معهم باللغة الإنجليزية، وحين أخذت حصتي من الخبز لم أتمكن حتى من أكلها؛ إذ نادوا عليّ بسرعة، فتركت الخبز وتوجهت إليهم. رأيت الضابط يمسك جهاز “آيباد” وعليه قائمة بأسماء، فرأيت اسمي مميزًا بخط أحمر. سألته: “إلى أين ستأخذونني؟ هل ستقتلونني؟” فاكتفى بالرد: “حنشوف”.

أمام عينيّ كان أولاد عائلة السرحي الثلاثة معصوبي الأعين ومقيّدي الأيدي، فاقتادونا جميعًا معًا، بينما تركوا والدهم ووالدتهم وأختهم المريضة خلفنا. كنت أنا الوحيدة التي لم يُعصبوا عينيها، لكنهم جعلوني أسير بجوار الشباب الثلاثة. وفي الطريق انخلع حذائي، فاضطررت إلى متابعة السير حافية القدمين فوق طريق وعرة مليئة بالحجارة والركام، والجنود يحيطون بنا من كل جانب.

واصلوا إجبارنا على المشي لمسافات طويلة ثم التوقف والجلوس، وفي كل مرة كنا نجلس فيها كانت دبابة إسرائيلية تدور حولنا، ما زاد إحساسنا أننا نُساق مباشرة إلى الموت. على طول الطريق شاهدت شاحنات عسكرية تنقل صناديق مياه، ودبابات مصطفة إلى جانب عشرات الجنود المسلحين.

في تلك اللحظات كان كل تفكيري ينحصر في الموت القريب، وشعور خانق أنني قد أُعدم في أي لحظة دون أن يعرف أهلي أين اختفيت أو ماذا جرى لي. الإرهاق نال مني حتى غفوت للحظات بينما كنا جالسين على الأرض. كانت الساعة تقترب من الثانية بعد منتصف الليل. استيقظت فجأة بضربة قوية من أحد الجنود على ظهري، أيقظتني من غفوتي القصيرة التي، رغم قصرها، منحتني شعورًا غريبًا بالراحة، وكأنها مهرب مؤقت من كابوس طويل لم ينتهِ بعد.

طلب منا الجيش الإسرائيلي أن نواصل السير، فمشينا مسافات طويلة في شوارع الشجاعية، دون أن أعرف من أي الطرق يسلكوننا. كانت الشوارع وكأن زلزالًا قد ضربها، كلها ركام ومنازل مهدومة بلا معالم واضحة، كأن المدينة مُسحت من الوجود. وبينما نحن نسير، سمعت أحد الجنود يتحدث باللغة الإنجليزية مع زملائه قائلاً: اقتلوهم جميعًا، وأنا بينهم. ارتجف قلبي، وبدأت أقرأ الشهادة وآيات من القرآن الكريم، أرفع يدي بالدعاء إلى الله أن ينجينا من بين أيديهم.

بعد فترة، جاءت ناقلة جند، فأجبروا الشباب الثلاثة من عائلة السرحي على الصعود إليها، وسط ضرب عنيف. ثم أخذ أحد الجنود بلوزة أحدهم وربطها على وجهي ليغميه. بعدها جاء دوري؛ اعتقلوني بعنف، كبلوا يدي بقسوة، وانهالوا على بتهديدات لفظية جارحة. كنت في صدمة نفسية كبيرة، خاصة وأنني فتاة شابة عزباء، أتعرض لأول مرة في حياتي لهذا النوع من الاعتقال القسري المهين. ثم صعدت معهم إلى ناقلة الجند.

داخل الناقلة، كنا مكدسين معًا، والجنود ينهالون علينا ضربًا على رؤوسنا بين الحين والآخر. كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرًا، وكنا منهكين تمامًا، جسديًا ونفسيًا، لكن حين لاحظوا أننا نغفو من شدة التعب أخذوا يصرخون في وجوهنا بعنف: لا تناموا! الطريق طويلة!”.

الجلوس في ناقلة الجند كان عذابًا مضاعفًا؛ القيود تشل حركتنا، وأجسادنا المتعبة لا تجد راحة. شعرت بتشنجات شديدة في ساقي، وخدر اجتاح جسدي كله، فبدأت أتحرك قليلًا يميناً ويساراً في محاولة لتخفيف الألم، لكن الجنود كانوا يراقبون كل حركة. وكلما لاحظوا أننا نتحرك، صرخوا علينا بطريقة مخيفة: لا تتحركوا!”.

في تلك اللحظات كنت أتشبث بآياتي وأدعي دعاء سيدنا يونس: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين”. كنت أشعر فعلًا وكأني في “بطن الحوت”، لكن بطن الحوت قد يكون أرحم وأمانًا من هذا المكان الذي كنت فيه مع الجيش الإسرائيلي.

وفجأة، بعد مسافة طويلة، توقفت الناقلة. أنزلونا منها، ليبدأ الجنود يرددون كلمات باردة كالسكاكين:
“Welcome to Hell”، “Welcome to Israel”.

مع اقتراب ساعات الصباح، وصلنا إلى منطقة قريبة من البحر، كانت الأرض رملية، وعرفت لاحقًا أنها منطقة زكيم. هناك جاءت مجندة، نزعت البلوزة التي كانت تغطي وجهي، ثم وضعت عصبة على عيوني، وأنزلونا أنا والشبان الثلاثة، وأدخلونا إلى خيمة. قالوا لنا: ناموا. ثم أحضروا لنا بطانيات مبتلة بالماء، ورغم ذلك اضطررنا إلى تغطية أجسادنا بها من شدة البرد القارس، فالجو كان أقرب إلى الأربعينية. لم نتمكن من النوم إلا ثلاث ساعات متقطعة، كنت خلالها أرتجف بعنف، حتى شعرت أن قلبي سيتوقف من البرد. بينما نحن في الخيمة، كان الجنود يجلسون غير بعيد وهم يتسلون بتمثيل مشاهد قتلنا، وكأنهم يستمتعون بمشهد رعب إضافي لنا.

بعد ذلك جاءت مجندة، أخذتني في سيارة، وأجبرتني على الجلوس في وضعية منهكة: رأسي للأسفل، ممنوعة من رفعه. بقيت على هذه الوضعية المؤلمة قرابة ثلاث ساعات في الطريق، حتى كدت أنهار من التعب الجسدي والنفسي. وعندما توقفت السيارة، اقتادوني إلى مكان داخل “كونتينر” من “الزينكو”، حيث كانت هناك مجندات إسرائيليات. طلبن مني تغيير ملابسي، وأعطوني “ترينك” رياضي بلون رمادي، ثم أعادوا تغميتي.

بعدها أخذوني إلى طبيب لفحص السكر والضغط. كان ضغطي منخفضًا جدًا بسبب ثلاثة أيام من دون طعام أو ماء، وبسبب حالتي النفسية المدمرة. طلب مني الطبيب أن أشرب ماء، فاستجمعت قوتي وطلبت منه بعضه، لكنه رد قائلًا إنهم سينقلونني إلى مكان فيه طعام وماء.

ثم وضعوني في سيارة أخرى، ونُقلت إلى معتقل عناتوت في القدس، حيث مكثت ثلاث أيام كاملة. المعتقل لم يكن سوى مساحة واسعة محاطة بأسلاك شائكة، سقفها زينكو، وجوانبها كلها أسلاك معدنية، أشبه بحظيرة للحيوانات. عند وصولي، رفعوا العصبة عن عينيّ، وهناك التقيت بسبع نساء أخريات من غزة. الظروف كانت قاسية إلى حدّ لا يُحتمل؛ برد شديد ينخر في العظام، مكان مفتوح بلا حماية، ونوم على “مشطاح” خشبي بفرشة رقيقة جدًا وبطانية صغيرة لا تقي من الصقيع.

قضيت ثلاث أيام هناك، لكنها بدت لي وكأنها ثلاثون سنة. كنت مكبلة اليدين طوال الوقت إلى الأمام، أرتدي “ترينك” خفيفًا لا يقي من البرد. منذ اللحظة الأولى كنت جائعة بعد ثلاثة أيام دون طعام، وحين أحضروا لنا وجبة، كان المشهد كله إذلالًا. الجندي يضع الطعام على الباب، فتأتي “الشاويشة” – معتقلة أخرى – وهي مكبلة اليدين أيضًا، لتحمل كرتونة الطعام وتضعها على الطاولة. كانت الوجبة لا تتجاوز القليل من اللبنة واللبن، خبز “فينو”، وتفاحة.

حتى أثناء الأكل والشرب، كنت مجبرة أن أبقى مكبلة اليدين. وعند الحاجة إلى قضاء حاجتي، كان يتم اقتيادي إلى المرحاض وأنا مقيدة. هذا الإذلال النفسي كان أشد من الجوع والبرد معًا.

بعد أن أكلت قليلًا، غفوت لفترة قصيرة على ذلك المشطاح الخشبي، جسمي يرتجف من البرد القارس، غير قادر على الدفء. ومع أن عينيّ كانتا مغمضتين، إلا أن النوم كان مستحيلًا، بسبب القيود التي تشل حركتي، والبرد الذي كان يفتك بجسدي المتعب.

في اليوم الثاني من وجودي في معتقل عناتوت، استيقظت وأنا في حالة صحية سيئة، أصابني الاستفراغ والدوخة، وشعرت أن جسدي تجمد كليًا من شدة البرد. لم أكن قادرة على الوقوف على قدمي، وكان كل شيء من حولي يدور. لاحظ أحد الجنود حالتي فأحضر لي بطانية إضافية وزجاجة ماء، لكن ذلك لم يكن كافيًا أمام إحساسي بالانهيار الجسدي. قضيت يومين كاملين هناك كانت بالفعل الأسوأ في حياتي، إذ شعرت أنني على وشك الموت.

وفي تلك الأثناء جاءتني الدورة الشهرية، ولم يكن في المعتقل أي فوط صحية. كنت أطلب من المجندات، لكن الطلب كان يُقابل دائمًا بالإذلال. أحيانًا كانت مجندة تعطيني فوطة واحدة فقط، وأخرى قد تمنحني قطعتين على الأكثر، بينما بعضهن كن يرفضن نهائيًا، وكن يوجهن لي الشتائم والكلمات البذيئة الحاطة بالكرامة الإنسانية. اضطررتُ للتوسل في كل مرة للحصول على ما يلزم، بينما كانوا يعاملوننا وكأننا مذنبات بسبب أحداث 7 أكتوبر، ويكيلون لنا الإهانات بألفاظ مخجلة لا أستطيع حتى ترديدها.

كنت أدخل الحمام وأنا مكبلة اليدين، فأحاول أن أسحب يدي من القيود مؤقتًا لأتمكن من استخدام المرحاض، ثم أعيدها كما كانت. كل دخول للحمام كان معركة صغيرة في حد ذاته. ومع كل هذا، بقيت مكبلة طوال الوقت، محرومة من أبسط احتياجاتي كإنسانة وامرأة.

قضيت ثلاثة أيام كاملة في عناتوت، شعرت خلالها أنني أعيش العذاب بكل تفاصيله: البرد القارس، الجوع، المرض، الذل، والإهانة المتكررة. ثم، في صباح اليوم الرابع، جاء الباص لنقلنا. قُيِّدت أيادينا وأرجلنا بالكلبشات الحديدية فوق البلاستيكية، ليضاعفوا الألم والمعاناة، ثم صعدنا إلى الباص منذ الصباح الباكر حتى ساعات المساء، في رحلة طويلة منهكة.

خلال الطريق إلى معتقل الدامون في حيفا، أجبرونا جميعًا على إبقاء رؤوسنا منحنية لأسفل، ومنعونا من رفعها للحظة واحدة. ومع كل حركة بسيطة كانوا ينهالون علينا بالضرب على رؤوسنا باستخدام مؤخرات البنادق، مصحوبة بالشتائم والإهانات. استمر الضرب طوال الطريق، حتى أصبنا جميعًا بالدوار والدوخة الشديدة، إلى أن وصلنا في النهاية إلى سجن الدامون.

كانت العصبات لا تزال على أعيننا والقيود على أيدينا وأقدامنا، حتى رفعوها هناك. فور وصولنا اقتادتنا المجندات إلى تفتيش عارٍ، رغم أنني أخبرتهن أنني في فترة الدورة الشهرية، إلا أنهن أصررن أن أخلع كل ملابسي. بعد ذلك خضعنا لتحقيق سريع لم يتجاوز بضع دقائق، كانت أسئلتهم باردة ومقتضبة: اسمي، عمري، لون شعري، رقم هاتفي، كلمة سر حسابي على “فيسبوك”، وماذا كتبت أو شاهدت في يوم 7 أكتوبر. أجبتهم بأنني كنت نائمة، لم أرَ شيئًا ولم أكتب شيئًا. لم يقتنعوا ولم يبالوا، ثم أخذونا لالتقاط صور “كرنيه” السجن، حتى منديلي الذي سقط في الطريق رفضوا أن يعيدوه لي.

بعد التحقيق نزلونا إلى ساحة السجن. هناك استقبلتنا أسيرتان من الضفة، آية الخطيب وتمارا أبو لبن من القدس، وقد جرى الإفراج عنهما لاحقًا في صفقة التبادل. كانتا كالأخوات لنا، طمأنتانا بأننا لسنا وحدنا، ووزعتانا على الزنازين مع باقي المعتقلات. شعرت لوهلة أنني التقطت أنفاسي، لكن سرعان ما أدركت أن المجهول لا يزال ينتظرنا.

داخل سجن دامون كانت الظروف قاسية تفوق الاحتمال. كنا 68 معتقلة، بيننا قاصرات ونساء مسنات، إحداهن تبلغ 85 عامًا وتعاني من الزهايمر، وأخرى في الستينات أُعدم زوجها الكفيف أمام عينيها حين اقتحم الجيش بيتها. بيننا طفلات مثل تقى أبو الخير (15 عامًا) وأخرى من نفس العائلة لم يتجاوز عمرها الخامسة عشرة، خرجن بعد 45 يومًا فقط من هذا الجحيم.

عشنا جميعًا الحرمان من العلاج والرعاية الصحية، ومنعونا من الحصول على الأدوية حتى في حالات المرض الشديد أو أثناء الدورة الشهرية. الطعام قليل ورديء: فطورنا علبة لبن (شمينت) وحبة بندورة أو خيارة، والغداء مغرفة أرز أو برغل مع قليل من الشوربة، وأحيانًا نقانق. لم يكن يكفينا، فكنا جائعات طوال الوقت، ومع مرور الأيام أصبنا جميعًا بأمراض معوية وبواسير نتيجة سوء التغذية.

كنا نتعرض لاقتحامات ليلية مفاجئة تثير الرعب وتنهك الجسد، والجنود لا يكفون عن التفتيشات المفاجئة والضرب والشتائم المهينة ذات الطابع العنصري. أُجبرنا على إجراء تحليل DNA من دون أي تفسير، وكان هذا الإجراء مخصصًا فقط لبنات غزة، مما أثار في داخلي خوفًا وقلقًا شديدين.

أما الماء فكان ملوثًا بنسبة عالية من الكلور، والبرد القارس ينخر عظامنا دون أي وسائل تدفئة. كنت أخرج يوميًا لساعة الفورة، فقط كي أستحم وأجد بعض ما توفره الأسيرات من صابون وشامبو وملابس بديلة. ومع ذلك، ظل الليل في السجن طويلًا، مثقلًا بالخوف، والجوع، والبرد، والمهانة.

لم يكن يعرف أحد من أهلي عن مصيري، ولا أنا كنت أعلم إن كنت سأخرج يومًا حيّة من هذا المكان.

قضيت خمسين يومًا في سجن دامون، وثلاثة أيام قبلها في معتقل “عناتوت”، وكل تلك الأيام عشتها مثقلةً بالهموم والقلق على عائلتي التي لم تكن تعرف عني شيئًا. كان تفكيري مشغولًا ليلًا ونهارًا بأمي وأبي وإخوتي وأخواتي، وكنت أبحث بأي وسيلة عن طريقة أوصل لهم خبر أنني ما زلت على قيد الحياة.

داخل المعتقل كانت التعليمات صارمة: ممنوع مقابلة المحامين، ممنوع معرفة المصير. كنا نعيش في عزلة تامة، يقتلنا الانتظار كل يوم، ويستهلكنا التفكير في المستقبل المجهول. لجأت للقرآن والدعاء، وأمضيت ساعات طويلة بالبكاء والصلاة، وأحيانًا بالنوم هربًا من وطأة التفكير.

مع ذلك، حاولنا نحن الأسيرات أن نخلق أجواء تخفف عنا القسوة المحيطة بنا؛ كنا نجتمع معًا، نغني الأغاني الوطنية، ننشد، ونبكي أحيانًا أخرى. مشاعر متناقضة تختلط في الزنزانة: لحظات فرح صغيرة ممزوجة ببحر من الخوف والقلق.

كنا نتساءل دائمًا: لماذا اعتُقلنا؟ ما التهم الموجهة إلينا؟ إلى متى سنبقى هنا من دون محاكمة؟ الخوف كان ينهشني من أن يطول هذا الوضع إلى ما لا نهاية.

بتاريخ 1/2/2024، وبعد خمسين يومًا من الاعتقال، أُفرج عني مع مجموعة من الأسرى عبر معبر كرم أبو سالم.

في اليوم الخمسين، وأنا في المعتقل، دخل الجندي الإسرائيلي الغرفة ونادى على أسمائنا، أنا والسبعة المتواجدين معي، وأخرجونا إلى مكان آخر داخل المعتقل في الساعة الواحدة ليلاً. كلبشونا بالمرابط، وأمسكوا أيدينا ورجلينا وجعلوا أيدينا للخلف، وكان معنا شباب آخرون، ثم أخذونا على الباص.

الطريق طويلة ومتعبة جسديًا ونفسيًا، وكان الجنود يسبوننا ويستخدمون ألفاظًا غير أخلاقية ومهينة طوال الطريق. كنا نطلب منهم الماء لنشرب، لكنهم كانوا يرفضون. وصلنا إلى معبر كرم أبو سالم حوالي الساعة السابعة صباحًا. هناك استقبلنا الصليب الأحمر والوكالة، وأعطونا هواتف لنتمكن من الاتصال بأهلنا وطمأنتهم. لأول مرة منذ فترة طويلة علمت عائلتي بمكاني بعد انقطاع كامل للأخبار عني طوال فترة الاعتقال.

حين وصلت إلى المعبر وشعرت بالحرية، نسيت كل ألمي وأوجاعي، والأهم شعرت أنني وصلت إلى أهلي. رغم ذلك، شعرت بالحزن لأن الحرب لم تنته بعد، وكنت أعتقد وأنا في السجن أنها قد انتهت. شعرت بالصدمة والحزن أيضًا لعدم قدرتي على العودة إلى بيتي في الزيتون بغزة.

بعد الإفراج، مكثنا في رفح لحين الاجتياح في شهر مايو 2024، ثم نزحنا إلى البريج عند شقيقتي، لحين عودتنا إلى غزة.

اليوم، أعاني من اضطرابات نفسية شديدة تشمل الأرق والكوابيس المتكررة، وخوف دائم من الاعتقال مجددًا، وحالة من الانعزال المستمر، وأشعر دائمًا أني مهددة ومراقبة، مع شعور بالعجز والغربة. أشعر بعدم الأمان حتى بين عائلتي، وفقدت القدرة على التعبير عن مشاعري الطبيعية، حتى بعد وفاة والدي لم أستطع البكاء.

بعد النزوح، فقدت الخصوصية وتعرضت لظروف معيشية قاسية تشمل نقص الغذاء والماء والملابس الأساسية ووسائل النظافة، مما سبب لي انهيارًا عصبيًا واكتئابًا شديدًا. رغم أني شخصية هادئة بطبعي، أصبحت أعاني من عصبية شديدة وانفعال متكرر، مصحوب بخوف دائم من أن يأتي الجيش الإسرائيلي ويعتقلني مرة أخرى، وهو هاجس يسيطر على تفكيري ويؤدي إلى أرق وكوابيس متواصلة.

أتمنى الخروج من قطاع غزة لتلقي العلاج النفسي في الخارج، إذ لم أستطع حتى الآن البكاء والتعبير عن مشاعري، حتى بعد وفاة والدي بتاريخ 14 يناير 2025. كما أصبت بنوبات انفعال شديدة وحالة اكتئاب وعزلة عن الناس، خاصة بعد نزوحنا الأخير من الزيتون، حيث أمكث عند أصدقاء وأشعر بأن خصوصيتي مقيدة ومخنوقة، مما ضاعف معاناتي النفسية والجسدية.

اثناء النزوح الأخير، لم نتمكن من أخذ أي شيء من ملابسنا، ولا تتوافر لدي ملابس خارجية أو داخلية، ولا يوجد مصدر رزق لأشتري حاجياتي الخاصة، مثل الفوط الصحية التي أحتاجها بشدة. كما لا تتوفر لدي الموارد الكافية لشراء الدقيق أو باقي السلع الأساسية، ونعاني من شح المياه الصالحة للشرب، ولا يوجد لي مأوى، مما جعل حياتي اليومية معاناة مستمرة.

لقد غيّر الاعتقال مسار حياتي بالكامل، وحرمني من أبسط حقوقي في العيش بكرامة وأمان، لأبقى شاهدة على حجم الانتهاكات التي تُمارس بحق النساء الفلسطينيات داخل معتقلات الاحتلال.

لم يكن الاعتقال مجرد قيود حديدية، بل كان سلسلة من التهديدات النفسية، أبرزها التهديد بالقتل والاغتصاب، ما زرع في داخلي خوفًا عميقًا لا يفارقني حتى بعد الافراج عني. أطالب بالإنصاف الكامل لي ولكافة النساء الفلسطينيات اللواتي تعرضن لانتهاكات مشابهة، بتوفير الرعاية النفسية، وضمان الحماية والأمان، واستعادة الحقوق الأساسية والكرامة الإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *