تاريخ الإفادة: 9/8/2025
هبة توفيق أحمد بارود المشهورة عزام، 58 عاماً، متزوجة، سكان غزة، تل الهوى، شارع الدحدوح، بجوار المدرسة البريطانية سابقاً، حالياً نازحة في غزة، النصر، شرق مول استبيس.
في 13 أكتوبر 2023، اضطررت أنا وأسرتي إلى النزوح من منزلنا في تل الهوى مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر، متجهين نحو منطقة الزيتون هربًا من القصف المكثف لطائرات الـ F16 الذي استهدف منازل الحي.
كنا نظن أن النزوح لن يتجاوز أسبوعًا واحدًا، لكن سرعان ما أدركنا أن الواقع أكثر قسوة، إذ لم يعد القصف مقتصرًا على الغارات الجوية، بل اتسع ليشمل “أحزمة نارية” دمرت أحياء كاملة واستهدفت المدنيين العزل، ليتصاعد المشهد إلى مأساة متواصلة.
انتقلنا لاحقًا إلى مخيم النصيرات، حيث أقَمنا في منزل أقارب لمدة 35 يومًا، قبل أن تتجدد الغارات العنيفة ويترافق معها اقتحام بري للجيش الإسرائيلي، مع أوامر إخلاء عبر المناشير في نوفمبر 2023. دفَعنا ذلك للنزوح مجددًا إلى مدينة حمد في خان يونس، حيث بقينا 18 يومًا فقط، ثم أُجبرنا مرة أخرى على الإخلاء، فانتقلنا إلى حي السلام في رفح وبقينا هناك ثلاثة أشهر، قبل أن نُرحَّل قسرًا في مايو 2024 إلى جامعة الأقصى، لنقيم في خيمة لمدة تسعة أشهر حتى تاريخ عودتنا إلى غزة.
خلال هذه التنقلات القسرية، عشنا أوضاعًا إنسانية بالغة السوء: انعدام مياه الشرب، ارتفاع الأسعار، الطهي على النار، غياب المواد الأساسية للنظافة، وانعدام الخصوصية في استخدام المراحيض التي كانت بعيدة عن الخيمة خاصة في الليل، وسط خوف دائم من الطائرات المسيّرة التي كانت تحلق وتستهدف المدنيين. النوم على الأرض كان مؤلمًا، والاستحمام داخل الخيمة كان معاناة يومية، بينما جسدنا يرهقه النزوح المتكرر وأعصابنا تتآكل من التوتر المستمر. افتقرنا للأغطية والفرشات، وعانينا الحر الشديد في الصيف، والبرد والأمطار التي كانت تغرق الخيام في الشتاء، وانتشار الحشرات والصرف الصحي. ومع فقدان مصدر دخلنا، أصبحت تكاليف النزوح الباهظة عبئًا مضاعفًا.
في 30 يناير 2025، وبعد إعلان وقف إطلاق النار، عدنا إلى منزلنا في تل الهوى رغم الأضرار، على أمل أن نجد فيه استقرارًا وأمانًا. لكن ذلك لم يدم طويلًا، ففي 18 مارس 2025، استؤنفت الحرب واضطررنا للنزوح إلى منطقة النصر شرق مول “ستيبس”. بقي بعض أبنائي في شقتنا في تل الهوى، بينهم ابنتي ديانا وزوجها وأولادها، حيث كان لدينا أربع شقق في عمارة ناهض عزام.
في 14 يوليو 2025، استهدفت طائرات الـ F16 الإسرائيلية عمارة ناهض عزام وبجانبها عمارة أخرى مكونة من أربعة طوابق وبها ثمانية شقق سكنية في شارع الدحدوح – تل الهوى، وقيل إن قنبلة ضخمة أو “برميل متفجر” أسقط عليها، مما أدى إلى تدميرها بالكامل على من فيها من المدنيين، دون أي إنذار مسبق. كان داخـلها ابنتي ديانا وزوجها وأولادها، إضافة الى بعض ابنائي الآخرين.
وصلني الخبر حوالي السابعة وعشر دقائق مساءً، فاتصل بي أحد أصدقاء زوجي ليبلغنا، فانطلق زوجي مسرعًا إلى المكان بينما لم أتمكن من الذهاب لصعوبة التنقل ليلًا. كنت أتمسك بأمل أن يكون الخبر كاذبًا، لكن الفاجعة كانت أكبر من أي تصور: جميعهم استشهدوا، باستثناء حفيدتي جودي التي أصيبت إصابة خطيرة، وابني علاء وزوجته وأطفاله الذين أصيبوا بجروح متفاوتة.
في تلك الليلة السوداء، فقدت أسرتي ثمانية من أعز من أملك، بينهم ابنتي ديانا ناصر حسن عزام، 35 عامًا، الحاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم والتي عملت في جامعة الأقصى، وزوجها المهندس حسام ناهض عزام، 43 عامًا. كما استشهد ابناؤهم حفيداي لانا، 16 عامًا، وعبد الرحمن، 13 عامًا ونصف، إلى جانب ابنتي مي ناصر حسن عزام، 32 عامًا والحاصلة على ماجستير في إدارة الأعمال، وابنتي لارا ناصر حسن عزام، 31 عامًا والحاصلة على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي، وابني عمر ناصر حسن عزام، 24 عامًا والمتخصص في الهندسة المدنية، وكذلك حفيدتي الصغيرة ديانا علاء عزام التي لم تتجاوز عامها الأول.
أما الناجون، فقد كانوا أيضًا بين الألم والمعاناة؛ إذ نجا ابني علاء ناصر حسن عزام، 37 عامًا، رغم إصاباته في الظهر والرجلين والرقبة، ونجت زوجته إيمان سمير ناجي، 35 عامًا، رغم بتر أصابع يدها. كما أصيبت ابنتاهما، هبة، 21 عامًا في قدمها، وزينة، 3 سنوات بحروق في وجهها. أما حفيدتي جودي، ابنة ابنتي الشهيدة ديانا، ذات التسع سنوات، فقد نجت من الموت بأعجوبة، لكنها تعرضت لإصابات بالغة كادت تودي بحياتها.
في اليوم التالي للمجزرة، ذهبت إلى مستشفى الشفاء لوداعهم، وكانت أصعب لحظة في حياتي أن أفقد أربعة من أبنائي دفعة واحدة. رأيت لارا ومي أشلاء ممزقة، وعبود ولانا جثامين كاملة لكنها مليئة بالحروق والإصابات، أما ديانا فلم أرَ سوى وجهها. بعضهم دُفن في مقابر جماعية.
فقدان أربعة من أبنائي وأحفادي في لحظة واحدة بفعل صواريخ الطيران الحربي الإسرائيلي قلب حياتنا رأسًا على عقب. توقفت حياتي عند تلك اللحظة، وأصبحت أتمنى في كل لحظة اللحاق بهم.
الألم النفسي لم يقتصر على الحزن وحده، بل امتد إلى معاناتي المستمرة من اضطرابات النوم، والقلق، والاكتئاب، التي اشتدت مع مرور الوقت، وتفاقمت نتيجة انعدام الموارد وظروف النزوح المتكررة التي عانيناها قبل استشهاد أبنائي وبعده مما يزيد حاجتنا إلى الدعم النفسي والقانوني والإنساني.
إلى جانب الحزن، أعيش عزلة اجتماعية، فقد تغيرت قدرتي على التواصل مع الآخرين. وأتحمل الآن مسؤولية رعاية حفيدتي جودي ومساندتها في رحلة علاجها، بدعم من ابنتي هناء التي ترتبط بها عاطفيًا وتشرف على طعامها وعلاجها والعناية بجروحها. نحن نحاول معًا توفير الحنان والأمان وسط أجواء الحرب والنزوح.
وجود جودي في منزلي يمنحنا شعورًا بالحياة، فأحمد الله أنها بقيت على قيد الحياة، فهي جزء من روح ابنتي الشهيدة ديانا التي ما زالت بيننا. ورغم كل ما مررنا به، تبقى مسؤولية رعايتها واجبًا نتحمله جميعًا، فنقدم لها الدعم في كل الجوانب. نأمل أن نتمكن من مساعدتها على إجراء تحويلة واستكمال علاجها في الخارج لزرع شبكية، حتى تستعيد بصرها.