يونيو 21, 2025
الاحتلال الإسرائيلي سلب قدميّ ومستقبلي فهل يمكن للحياة أن تعود كما كانت؟
مشاركة
الاحتلال الإسرائيلي سلب قدميّ ومستقبلي فهل يمكن للحياة أن تعود كما كانت؟

تاريخ أخذ الإفادة: 20/6/2025

نور بشير محمد الدلو، 17 عاماً، سكان الشجاعية، طالبة

أسكن مع عائلتي في منزل مستأجر من الأسبست بحي الشجاعية. مع بدء الحرب في 7 أكتوبر 2023، اضطررنا سريعًا للنزوح، إذ لم يكن المنزل يوفر أي حماية من القصف، مما جعل البقاء فيه خطرًا كبيرًا وسط الصواريخ التي لا تهدأ.

تنقلنا في رحلة نزوح شاقة من الشجاعية، كانت رحلتنا بين الموت والتشرد، من مجزرة إلى أخرى. استقر بنا الحال أخيرًا في منزل شقيقي حامد، حيث مكثنا قرابة خمسة أشهر نحاول التعايش مع واقع الحرب والنزوح. لكن فجر 16 مايو 2024، عند الساعة الثالثة والنصف، تحولت تلك الجدران التي احتمينا بها إلى كفن لنا.

بصاروخ أطلقته طائرة إسرائيلية، استُهدف المنزل مباشرة. كان مكونًا من طابقين، في الطابق الأول كنا 10 نساء، بينما كان الرجال السبعة في الطابق الثاني. اخترق الصاروخ الطابق العلوي وانفجر في الطابق السفلي، حيث كنا جميعًا. في لحظة واحدة، تلاشى كل شيء. استشهدت والدتي، وشقيقتي إلهام، وابنة شقيقتي.

أما أنا، فقد حدثوني لاحقاً أنه: قُذف بي من شدة الانفجار لمسافة عشرة أمتار، حتى وصلت إلى نهاية الشارع. لم يكن جسدي كاملًا كما كنت قبل لحظات، بُترت ساقاي، وكان الجزء المبتور في مكان، وبقية جسدي في مكان آخر. كنت مغيبة تمامًا، غارقة في غيبوبة لم أفق منها حتى بعد نقلي إلى مستشفى المعمداني، حيث استمرت حالتي عشرة أيام.

عندما انتشلني الناس من تحت الركام، حملوني إلى سيارة الإسعاف دون أن يدركوا أنني ما زلت على قيد الحياة. لم أشعر بشيء، لم أدرِ أن قدميَّ بُترتا، ولا سمعت الصرخات من حولي. بقيت ملقاة على أرضية مستشفى المعمداني ساعة كاملة وسط الجرحى والشهداء، بلا سرير ولا مكان وسط الفوضى والدماء. بعد ساعة، أدخلني الأطباء غرفة العمليات ليبتروا أجزاء أخرى من ساقي، إذ كانت تالفة ومحترقة بالشظايا. كنت بين الحياة والموت، غائبة عن الوعي، بينما ضخوا في عروقي 15 وحدة دم خلال العملية التي استغرقت ساعتين.

وعندما بدأت أستفيق، واجهت الصدمة الأولى، أين ساقاي؟ أين بقيتي؟ نظرت إلى جسدي، لكنني لم أتعرف عليه، وكأنني لست أنا. لم أستطع أن أصرخ، لم أستطع أن أبكي كما يجب، كان الألم أكبر من أن يُحول إلى كلمات. لكن الطعنة الأشد كانت في الفقد. لم أودع أمي، لم ألقِ نظرة أخيرة على أختي، ولا على من استشهد من عائلتي.

مكثتُ في مستشفى المعمداني أكثر من شهر، حيث كان عليّ أن أتحمل تبديل الضمادات والجروح التي تأبى الالتئام. في البداية، كانوا يستخدمون التخدير، فالألم لا يُحتمل، لكن شيئًا فشيئًا بدأ كل شيء ينفد، الأدوية، المسكنات، وحتى التخدير لم يعد متوفرًا. حينها، لم يعد هناك خيار. كانوا يبدلون لي الضمادات وأنا بكامل وعيي، وكان الألم أشبه بالموت الذي يتكرر في كل مرة. جسدي كان يرتجف، أنفاسي تتقطع، وأشعر انني سأفقد الوعي.

قبل الإصابة،كنت أعيش حياتي بشكل طبيعي، أمشي، أتنقل، أفعل كل شيء بمفردي، ثم فجأة، أصبحت عاجزة، أحتاج لمن يأخذ بيدي إلى الحمام، احتاج لمن يساعدني على أدنى الحركات. أرى فتيات في مثل عمري يعشن حياتهن، يتحركن بحرية، وأنا عالقة في كرسي متحرك، مقيدة بمساعدة الآخرين. أفكاري تقتلني: كيف كنت، وكيف أصبحت؟ ماذا لو لم يحدث كل هذا؟ ماذا لو كنت أعيش حياة طبيعية مثل الجميع؟

بعد الإصابة، لم أعد قادرة على التنقل بحرية، وإن تعرضنا للقصف مجددًا، سأكون عالقة وسط الدمار، بلا قدرة على النزوح، بلا مأوى يحفظني من نيرانهم. لم يعد لي منزل، أصبحت نازحة في مكان غريب، بلا خصوصية، بلا أمان، أعيش في قلق دائم من أن يُفرض عليّ نزوح آخر، إلى مدرسة مكتظة أو خيمة هشة، لا أعلم كيف سأحتمل ذلك.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد حُرمت حتى من إكمال دراستي. لا كتب، لا هاتف محمول، لا إنترنت، لا سبيل للعلم أو الأمل. الاحتلال لم يكتفِ ببتر قدميّ، ولم يكتفِ بتدمير منزلي وقتل عائلتي، بل سرق مستقبلي أيضًا. كم من الأشياء فقدتها؟ حتى أبسط الأمور، حتى اللعب، حتى كرة القدم التي كنت أعشقها، لم تعد جزءًا من حياتي. ومن المضاعفات للإصابة، أصبت بجلطة في الرئتين، أعاني الآن من ضيق في التنفس، وأحيانًا أفقد الوعي. الصداع يلازمني، وكنت أحتاج إلى علاج للسيولة، لكن الدواء غير متوفر في المستشفيات والصيدليات. وضعي يزداد سوءًا، والاختناق يلازمني، أنتظر من يساعدني في تأمين العلاج، أنتظر أن أعيش حياة تشبه ولو قليلًا ما كانت عليه حياتي قبل أن تقصفنا الصواريخ الإسرائيلية.

تمر عليّ أيام طويلة يثقلها التفكير، كيف حرمني الاحتلال الإسرائيلي من العيش كإنسانة طبيعية؟ كيف حوّلني في لحظة إلى شخص من ذوي الإعاقة؟ إنه شعور يفوق الوصف، موجع لفتاة في مثل عمري، أن أُحرم من قدميّ، من حريتي، من حياتي كما كنت أعرفها. ما زلت بحاجة إلى كرسي متحرك لأتمكن من التنقل، لكن رغم الألم، رغم المعاناة، لدي أمل أنني سأتمكن يومًا ما من تركيب طرف صناعي، وأنني، رغم الإعاقة، سأحقق جزءاً مما كنت أحلم به، أن أعيش مثل صديقاتي وإكمال تعليمي. بدأت رحلة العلاج الطبيعي في نهاية سبتمبر 2024، لكنني لا أزال أنتظر سفري للعلاج في الخارج، لا أزال أنتظر فرصة للنجاة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *