يونيو 10, 2025
كيف تحول التفوق الدراسي إلى معاناة بعد الهجوم الإسرائيلي!
مشاركة
كيف تحول التفوق الدراسي إلى معاناة بعد الهجوم الإسرائيلي!

تاريخ أخذ الإفادة: 31/5/2025

راما الدحدوح، 16 عاماً، آنسة

في 7 أكتوبر 2023، كنا في بيتنا بحي الزيتون في مدينة غزة، نعيش لحظاتنا الأخيرة فيما ظنناه ملاذًا آمنًا. بعد أسبوع، أصبحت المنطقة بؤرة موت، فهربنا إلى منزل جدي في البلدة القديمة. لكن النزوح لم يتوقف، تنقلنا أكثر من ست مرات، نركض من موت إلى آخر. في أغسطس 2024، مع الهدوء النسبي، قررنا العودة رغم الدمار.

بتاريخ 12 سبتمبر 2024، كنت ألعب كرة السلة عند الجيران، وعدت إلى المنزل في الساعة العاشرة والثلث. تحمّمت، صليت العشاء، ورتبت فراشي استعدادًا للنوم. إلى جانبي كانت أختاي تالا ومرام، واخوتي عبد الكريم وفؤاد، بينما كان أحمد في غرفة أخرى، وأبي في غرفة منفصلة. أمي كانت تصلي في الصالون، في ذات المكان الذي كنا ننام فيه. وعند الساعة 11:10 مساءً، اخترق صاروخ العمارة ذات الخمسة طوابق، مدمّرًا الطابق الأول والثاني حيث كنت أنام. شعرت بالارتطام، وسقط عليّ حزام من الخرسانة والحجارة، لكن طاولة الرخام المجاورة لي حالت دون سقوطه عليّ مباشرة وسحق جسدي بالكامل. كنت عاجزة عن الحركة، لكني لم أفقد الوعي.

وسط الدمار والدخان، سمعت صوت أمي تنادي، وصوت أخي فؤاد يصرخ، ناديت أمي وأخبرتها: “أنا عايشة، ورجلي مقطوعة”، فردّت عليّ: “أنا أيضاَ رجلي مقطوعة.” التفت إلى جانبي، فوجدت الحجارة تغطي المكان الذي كان إخوتي نائمين فيه. نظرت إلى قدمي اليمنى، كانت متدلية، لا يمسكها سوى الجلد، ورأيت إصبعي الصغير في يدي اليسرى ممزقًا بشكل مروّع. كنت أشعر أن جسدي كلّه مصاب، وكان الألم يعصف بي، خاصة في قدمي حيث كنت أشعر بالدماء تتدفق بلا توقف. وسط الخوف الذي لا يمكن وصفه، بدأ الجيران بالوصول، حملوني إلى سيارة الإسعاف، لكن عندما رفعوني، سقطت قدمي المبتورة في الشارع، فالتقطوها وأخذوها معي في الإسعاف.

نُقلت إلى مستشفى المعمداني، حيث خضعت لعملية بتر في القدم اليمنى، واحتجت إلى 16 وحدة دم. أصبت بجروح وحروق شديدة متفرقة، بحاجة إلى عمليات تجميل. كما تعرضت لتمزقات حادة من الحوض حتى الركبة، ولا يزال جرح الفخذ الأيمن مفتوحًا بسبب سوء التغذية وضعف المناعة الناتجين عن المجاعة خلال الحرب.

في تلك الليلة المشؤومة، لم يكن الدمار وحده ما حلّ بنا، بل الموت أيضًا سرق أغلى ما أملك. استشهد أبي، واخوتي الأربعة. جميعهم رحلوا في لحظة واحدة، تاركين خلفهم الفراغ والألم. وفي صباح اليوم التالي، دُفنوا، لكنني لم أستطع رؤيتهم أو توديعهم، بينما كنت غارقة في إصاباتي البليغة، أتنقل بين غرف العمليات، ينهكني النزيف والعلاج.

أجريت عمليتي الأولى فور وصولي إلى المستشفى، لكن البتر كان خاطئًا، مما استدعى إجراء عملية ثانية في اليوم التالي. حتى هذه المرة، لم تنجح العملية، لم تكن هناك إمكانيات طبية كافية في غزة لإنقاذ ما تبقى مني. كما خضعت لعملية ترقيع في الصدر، حيث تم أخذ قطعة من الفخذ لمحاولة تغطية الحرق العميق، لكن العملية فشلت، وأصبحت بحاجة لعلاج في الخارج.

بعد 14 يومًا من المعاناة في المستشفى، خرجت، لكن لم يكن هناك منزل لأعود إليه. نحن الآن نعيش في منزل أقاربنا في البلدة القديمة، نحاول البقاء على قيد الحياة وسط ألم الفقد وألم الإصابة الذي لا يُحتمل. ليس الألم وحده ما يقتلني، بل الكوابيس التي تأتي في نومي، تتجسّد فيها وجوه أبي وإخوتي، كأنهم يعودون إليّ كل مرة ليذكروني بأنني الوحيدة التي بقيت. أرى مشاهد مرعبة، أصحو مرتجفة، وغارقة في الخوف والحزن. في المستشفى، انزويت في عزلة قاتلة، أرفض الطعام والشراب، بالكاد أتناول القليل بعد إلحاح شديد. كان الحزن يخنقني، وشعور الفقد يقتلني من الداخل. بعد خروجي، ازداد الأمر سوءًا، صرت أكره الحديث، أهرب من أي تجمع، لا أقوى على مشاركة أحد في ألمي. حين أسرح، يغمرني الاختناق، تغرقني الذكريات، وتنهار الدموع دون إرادة مني. لم يكن فقط رحيل أبي وإخوتي ما يمزقني، بل أيضًا عجز أمي وإصابتها، وعدم قدرتي على مساعدتها. أخي فؤاد، الذي هو بحاجة لرعاية، اضطررنا لإرساله إلى عمتي، لأننا لا نستطيع تلبية احتياجاته.

جزء مني قد نقص. كنت من المتفوقين في دراستي، لكن بعد إصابتي، اجتاحني الخوف من المستقبل، من إكمال تعليمي، من أن أمضي في الحياة بهذا الجسد المبتور، وهذا القلب المكسور. لم أعد أرغب في العودة إلى المدرسة، فأنا خائفة من مواجهة المجتمع، خائفة من نظرات الشفقة، ومن أن يراني الآخرون ناقصة. خالتي وجدتي هما من يعتنيان بي الآن، لكني أحتاج إلى دعم نفسي.

قدمت تحويلة للعلاج في الخارج، أملاً في الحصول على طرف صناعي وإجراء العمليات التجميلية اللازمة، لكنني لا زلت أنتظر… أنتظر فرصة للعلاج، وربما للحياة من جديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *