يعرب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن بالغ إدانته واستنكاره للجرائم المروّعة المتواصلة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد السكان المدنيين في قطاع غزة، والتي تُمثل نمطًا ممنهجًا من جرائم التهجير القسري والقتل الجماعي وتدمير المدن والأحياء بالكامل، في إطار أكبر وأوسع جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين تجري على سمع العالم بأسره منذ نحو 21 شهرًا، دون جهد فعال لوقفها.
وفي تطور خطير يعكس سعي ونية دولة الاحتلال لتفريغ أغلب أحياء قطاع غزة من سكانه وتدمير ومحو ما تبقى منه، كثفت قوات الاحتلال خلال الأيام القليلة الماضية غاراتها الجوية وأحزمتها النارية على مدينة غزة، وأصدرت أوامر تهجير جديدة واسعة للسكان شرقي المدينة، في استنساخ واضح لما جرى سابقًا في أحياء ومناطق أخرى، حيث فُرض على مئات آلاف المدنيين مغادرة منازلهم والتوجه نحو غرب المدينة وجنوب القطاع تحت القصف والتهديد.
ورغم استجابة غالبية السكان لهذه الأوامر، إلا أنهم يُستهدفون مجددًا في أماكن نزوحهم، بالقصف المباشر للخيام والتجمعات، ويواجهون ظروفا إنسانية كارثية في الخيام البالية ومراكز الإيواء، ويتعرضون للتجويع الجماعي والاستهداف المباشر على أبواب نقاط توزيع المساعدات التي تُقام داخل مناطق يسيطر عليها الاحتلال.
وفي هذا السياق، يؤكد المحامي راجي الصوراني، مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، أن التصعيد الإسرائيلي في استهداف المدنيين، وتدمير المنشآت المدنية، والقتل المتعمد للمواطنين أثناء محاولتهم الوصول إلى مراكز توزيع المساعدات، إلى جانب عمليات الإخلاء الواسعة والتهجير القسري للسكان، ما هو إلا جزء من خطة منهجية تهدف إلى حصر السكان قسرًا في منطقتين فقط داخل قطاع غزة.
ويضيف الصوراني أن هذا المخطط يشكل تمهيدًا فعليًا لتنفيذ جريمة التهجير القسري الجماعي لسكان القطاع، وتفريغه من أهله تحت ذرائع واهية، في إطار مشروع لتطهيره ديموغرافيًا وخلق نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، في استمرار واضح لجريمة الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الفلسطينيين على مرأى ومسمع من العالم.
وفي أحدث أوامر التهجير، أصدرت قوات الاحتلال صباح يوم الاثنين 30/6/2025، أوامر جديدة وواسعة بتهجير السكان شملت المواجودينفي منطقة مدينة غزة وجباليا وفي أحياء الزيتون الشرقي، البلدة القديمة، التركمان، اجديدة، التفاح، الدرج، الصبرة، جباليا البلد، جباليا النزله، معسكر جباليا، الروضة، النهضة، الزهور، النور، السلام وتل الزعتر،1 تبعتها هجمات دامية مكثفة.
وشنت طائرات الاحتلال غارة جوية مروعة عند حوالي الساعة 14:50 اليوم ذاته، على مقهى الباقة الواقع على شاطئ بحر مدينة غزة، المعروف باكتظاظه بالمواطنين، ما أدى إلى مقتل 34 مواطنًا، بينهم الصحفي إسماعيل حسين أبو حطب، مصور قناة الجزيرة مباشر، و10 أطفال و5 نساء، بالإضافة إلى إصابة 98 آخرين، وصفت حالات40 منهم بالخطيرة.
ووفقًا لشهادة إحدى المواطنات النازحات التي تقيم بخيمة قريبة من الموقع، لباحثة المركز، فقد وصفت المشهد بالقول:
“سمعت صوت انفجار ضخم، وغطى الغبار المكان… هرعت باتجاه القصف، تفاجأت من هول المشهد، أجساد ممزقة، أشلاء متناثرة، وجثث طافية في البحر من قوة الانفجار. كان هناك جرحى يصرخون طلبًا للمساعدة… المشهد كان مروعًا ولا يُحتمل.”
هذا الاستهداف يأتي ضمن سلسلة من الهجمات الممنهجة التي تشنها قوات الاحتلال ضد المدنيين وأماكن تجمعهم. فقد قصفت الطائرات الحربية فجر اليوم ذاته ثلاث مدارس تتخذ مراكز إيواء تضم آلاف النازحين، وهي: مدرستي الحرية والفلاح في حي الزيتون، شرق غزة، ومدرسة زينب الوزير، جباليا البلد، شمال غزة.
ووفق المعلومات التي توفرت لباحثة المركز، فإن قوات الاحتلال أجرت اتصالات مع عدد من النازحين داخل هذه المدارس وطالبتهم بالإخلاء الفوري تمهيدًا لقصفها وتدميرها، ما أدى إلى حالة من الذعر والهلع في صفوف المدنيين، الذين غادروا الموقع وهم يجرّون أمتعتهم ودموعهم، فيما كانت النساء يركضن بأطفالهن وهن يجهشن بالبكاء، وعبارة “وين نروح؟” تختصر حجم المأساة التي يعيشها السكان في كل لحظة.
ومنذ يوم 18/3/2025، أصدرت قوات الاحتلال 50 أمرًا بالإخلاء القسري غير القانوني، أخضعت غالبية القطاع لأوامر النزوح. وتشير المعلومات الميدانية وتقديرات منظمات دولية إلى أن ما نسبته 82.6% من مساحة قطاع غزة تقع حاليًا تحت واحدة من التصنيفات التالية: مناطق عسكرية إسرائيلية مغلقة، أو مناطق تطالها أوامر إخلاء قسري، أو كلاهما معًا، ما يعكس مستوىً غير مسبوق من القيود المفروضة على الحركة والوصول الإنساني،2 ويعني أن نحو 2.3 مليون فلسطيني، معظمهم نازحون قسرًا، يتكدسون داخل مساحة صغيرة غير آمنة لا تتعدى 17.4 % من باقي مساحة القطاع، يعيشون في بقايا منازل مدمرة، أو خيام مهترئة، أو مدارس تحوّلت لمراكز إيواء لم تسلم هي الأخرى من القصف.
ويعكس هذا النمط سعي قوات الاحتلال الممنهج لتدمير ما تبقى من مبانٍ وأعيان مدنية في قطاع غزة، ومحوها بالكامل، كما فعلت في رفح التي دمرتها بالكامل، وتواصل النهج التدميري الشامل حاليا في خان يونس وشمال غزة، وشرقي غزة، حيث تجري الكثير من عمليات القصف والنسف والتجريف الشاملة دون أي ضرورة حربية في مناطق لا تشهد أي أعمال قتالية، بما يدلل أن الهدف هو التدمير وإعدام فرص العيش حاليا وفي المستقبل.
إن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان يُجدد تأكيده أن ما يجري في قطاع غزة هو جريمة إبادة جماعية متكاملة الأركان تُرتكب على مرأى ومسمع العالم، دون أي جهد فعّال أو موقف دولي جاد لوقفها أو محاسبة مرتكبيها. إن الاستمرار في هذا النهج القائم على التهجير القسري والاستهداف الجماعي للمدنيين وتدمير البنى التحتية يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الاحتلال ماضٍ في سياساته القائمة على محو الوجود الفلسطيني من قطاع غزة، ويفعل ذلك بنية معلنة ومعبر عنها، وبتنفيذ فعلي ومكثف وغير إنساني.
وبناء عليه، يطالب المركز مجددًا، المجتمع الدولي، بتحمّل مسؤولياتها القانونية والإنسانية تجاه سكان القطاع، والعمل الفوري على وقف الإبادة الجماعية، وإنهاء الحصار، وتوفير الحماية الدولية العاجلة للمدنيين الفلسطينيين، والعمل على محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام العدالة الدولية.