حرر بتاريخ 12/5/2025
أنا رسمية تيسير علي العجوري، أبلغ من العمر 26 عامًا، أرملة وأم لطفلتين: ماريا (عامان) وإيمان (عام واحد). أعيش في بيت لاهيا، بالقرب من دوّار أبو الجديان.
منذ بداية الحرب، كنت أعيش مع زوجي في شقتنا الواقعة في الطابق الثاني في منطقة بيت لاهيا، قرب سجن أبو عبيدة، والتي صُنّفت كمنطقة “حمراء” منذ الأيام الأولى للعدوان بسبب كثافة القصف وشدته. بتاريخ 10 أكتوبر 2023، استُشهد شقيق زوجي، عبد اللطيف ماهر الحو، أثناء قيادته دراجة نارية في منطقة السلاطين، حيث تم استهدافه مباشرة. كان عبد اللطيف مدنيًا لا ينتمي لأي تنظيم سياسي، وكان في طريقه إلى أرض زراعية تملكها العائلة.
في اليوم التالي، بدأت تصلنا اتصالات مسجلة من جيش الاحتلال تتضمن تهديدات بالإخلاء. على إثر ذلك، اضطررنا لمغادرة المنزل، وتوجهت مع عائلتي إلى منزل والدي في دوّار أبو الجديان، ظنًا منا أن المكان أكثر أمانًا، خاصة لقربه من المعسكرات.
بقينا هناك قرابة ثلاثة أسابيع، وخلال تلك الفترة كان جيش الاحتلال متمركزًا في منطقة السلاطين. وفي فجر يوم 18 نوفمبر 2023، كنت في الطابق الثاني من منزل والدي، ومع اشتداد القصف قررنا النزول ومحاولة الوصول إلى منزل جدي القريب، لكننا لم نتمكن من الخروج بسبب القصف العنيف. لجأنا إلى الطابق الأول في منزل عمي “شقيق والدي”، الذي استضافنا بسرعة، خاصة وأن الشظايا كانت قد بدأت تصل إلينا بسبب قرب الاستهداف من منطقة التوبة.
وبعد نحو ساعتين إلى ثلاث ساعات، نفذت طائرات الاحتلال الإسرائيلي قصفًا عنيفًا بـ “حزام ناري” على المنطقة، مما أدى إلى تدمير عشرات المنازل بشكل كامل في لحظات. لم أتمكن من استيعاب حجم الكارثة. فقدت في هذا الهجوم شقيقتي إيمان تيسير العجوري (27 عامًا)، وعمّي ياسر علي العجوري (47 عامًا)، وطفلتي الصغيرة ماريا محمد الحو (عامان). كما أُصبت أنا ووالدتي لبنى العجوري (47 عامًا)، وزوجة عمي لونا العجوري (43 عامًا). علمًا أنني في تلك الفترة كنت حاملًا في الشهر الرابع.
في تمام الساعة الثالثة والربع فجرًا، بعد ليلة عصيبة لم نتمكن فيها من النوم بسبب شدة القصف الذي بدأ منذ الساعة العاشرة ليلًا واستمر حتى ساعات الصباح، كانت أصوات الانفجارات مرعبة، وكأننا نعيش أهوال يوم القيامة. لم نتمكن من الخروج أو الاحتماء في مكان أكثر أمنًا، فالقصف كان ينهال من كل الجهات. ومع اشتداد الخطر، نزلنا إلى الطابق الأول من المنزل، حيث أدخلنا عمي إلى بيته. جلست النساء في غرفة، والرجال في غرفة أخرى. كان المنزل نصفه مبنيًا من ألواح الإسبست، والنصف الآخر من الباطون.
قُصف المنزل المجاور لنا بالطائرات الحربية وقذائف المدفعية، إضافة إلى طائرات الاستطلاع، فانهار كل شيء فوق رؤوسنا. سقطت البيوت على ساكنيها، والجيران علقوا تحت الركام لا يستطيعون الحركة. نجونا بصعوبة، وخرجنا من بين الجثث المتناثرة والأشلاء الممزقة. أثناء محاولتي النجاة من تحت الأنقاض، وأنا مصابة، اخترق سيخ باطون قدمي. كنت أحمل طفلتي ماريا بين ذراعي، وقد استشهدت وهي بين يدي، رأسها مفتوح ودماغها ظاهر أمامي. لم أستوعب ما حدث، شعرت وكأن الزمن توقف.
أُصبت في أنفي وظهري، واعتقدت في لحظة ما أنني فقدت الجنين الذي كنت أحمله في بطني، فقد كنت في شهري الرابع من الحمل. لم أكن أفهم إن كانت ابنتي قد أصيبت بشظية، أم ماذا حدث لها، فقط رأيت جسدها الصغير وقد ارتخى تمامًا بين ذراعيّ، في مشهد لا يمكن وصفه. المكان كان غارقًا بالركام، والشظايا، والغبار، وصيحات المصابين وأنين الشهداء.
تمكّنا من الخروج إلى منزل جدي، ونحن ننزف. توجه بعضنا إلى مستشفى كمال عدوان، لكنني لم أذهب رغم إصابتي. وصلت إلى بيت جدي وأنا ما زلت أحمل ماريا على قدمي المصابة، أصرخ: “أسعفوا بنتي، بنتي لسا فيها نفس”. حملها والدي بسرعة وتوجه بها إلى المستشفى، ثم عاد ليبلغني بخبر استشهادها. لم أستطع استيعاب ذلك، كل ما نطقت به كان: “الله يرحمها… إنا لله وإنا إليه راجعون”.
عند بزوغ الصباح، وصلت سيارات الإسعاف وبدأت بنقل المصابين، لكن كانت هناك مجازر بحق عائلات كاملة، مثل عائلة الشمالي التي استُشهد منها 16 شخصًا دفعة واحدة. ذهبت بعدها إلى المستشفى، وأخبروني أن الإصابة في ظهري كانت ناتجة عن شظية سطحية. لم يتمكنوا من معالجة جرح أنفي بخياطة بسبب كثرة الإصابات الخطيرة، لكن الإصابة الأشد كانت في قدمي، حيث بقيت عاجزة عن تحريكها لثلاثة أشهر، أتنقل على كرسي متحرك.
أما والدتي، فقد كانت إصابتها في الرأس، وأجريت لها عملية خياطة بـ 20 غرزة، وتم استخراج الشظية من رأسها. كنا نحو 50 شخصًا داخل ذلك المنزل عند وقوع القصف، وعشت بعدها في حالة صدمة، لا أستوعب ما يجري من حولي. بعد أيام قليلة من استشهاد طفلتي ماريا، جاء خبر فقدان شقيقتي إيمان، ثم اختفاء شقيق والدي.
وبعد أسبوعين من البحث تحت الأنقاض، تم العثور على جثة شقيقتي إيمان، أما جثة عمي، فلم يتم التعرف عليها بسهولة، إذ أُخرج جسده مقطعًا لأشلاء، وكانوا في كل مرة يجدون جزءًا جديدًا منه.
في اليوم التالي للقصف الذي تعرضنا له، قررنا النزوح إلى مستشفى اليمن السعيد بسبب خطورة المنطقة التي كنا فيها وخوفًا من تعرضنا لقصف جديد. عندما جاء زوجي لاصطحابي، سألته عن ابنتنا “ماريا” لأودعها، لكنه أخبرني بأنه اضطر إلى دفنها. تم دفن طفلتي دون أن أراها أو أودعها للمرة الأخيرة. بعدها، أخذني زوجي إلى منزل عائلته، وكان القصف في كل مكان. كانت قوات الاحتلال تطلق القنابل الدخانية والفسفورية بكثافة.
بعد انتهاء الهدنة، خرجنا في السابعة صباحًا إلى مستشفى اليمن السعيد. كنا نحو 83 شخصًا في غرفة لا تتجاوز مساحتها 6×6 أمتار، دون أي خصوصية، ولا مياه، ولا طعام. كنت أعاني كثيرًا، إذ كنت مصابة وحامل، وأنام مع أكثر من 8 أشخاص على فرشتين فقط، وفي أغلب الأحيان كنت أنام جالسة على الأرض الخشنة بسبب ضيق المكان. كنت وحيدة؛ عائلتي وعائلة زوجي نزحوا جميعًا إلى الجنوب، وزوجي لم يكن قادرًا على البقاء إلى جانبي لعدم توفر مكان، فكان يقيم عند أحد أقاربه قرب المستشفى.
في نهاية شهر نوفمبر 2023، أُبلغنا بوجود عملية عسكرية في معسكر جباليا، فنزحنا إلى منطقة التفاح، إلى منزل شقيقة زوجي، ومكثنا هناك أسبوعين. لاحقًا، ومع تصاعد العمليات العسكرية في المنطقة، انتقلنا إلى مستشفى الشفاء، الذي كان يُعتبر آخر ملاذ آمن في غزة. ولكن كانت تلك الليلة من أصعب الليالي في حياتي، فالمكان كان مكتظًا، ولم نجد مكانًا داخل المستشفى، فبحثنا عن بيت مجاور ووجدنا منزلًا مهجورًا، لكن مالكيه عادوا وطلبوا منا المغادرة. رجوناهم أن نبيت ليلة واحدة فقط بسبب التعب الشديد، فوافقوا. لكنها كانت ليلة مرعبة، لم نذق فيها النوم بسبب شدة القصف وقرب صوت القذائف، كما كانت طائرات الاستطلاع تحوم فوقنا طوال الوقت. ومع أول ضوء للصباح، غادرنا المكان عائدين إلى منزل شقيقة زوجي في التفاح.
عقب انسحاب جيش الاحتلال من معسكر جباليا، عدنا إلى مستشفى اليمن السعيد، وبقينا فيه من شهرين إلى ثلاثة أشهر. عانيت من غياب خدمات الصرف الصحي، وغياب النظافة، ونقص المياه، وكنت بحاجة دائمة للحمام بسبب حملي، ما جعل الأمر أكثر صعوبة. وعندما دخلت الشهر السابع من الحمل، استأجر زوجي شقة للانتقال إليها، لكنني كنت خائفة من البقاء وحيدة بسبب تجربتنا السابقة مع القصف. فانتقلنا إلى منزل أحد جيران عائلتي، حيث أقمت مع والدي وزوجي. رغم استمرار القصف، كان أقل حدة من السابق.
لم يكن لدينا طعام إلا القليل من حلوى الأطفال والمصاص والعجوة والمكسرات، وكنا نأكلها لتسكين الجوع. كان لدي بعض الطحين، فكان زوجي ووالدي يتركونه لي لأني بحاجة إلى الغذاء، ومع ذلك لم أتناول أكثر من رغيف كل يومين حتى لا ينفد. أصبت بسوء تغذية، وما زلت أعاني من آثاره حتى الآن، من دوخة وآلام في العظام.
عندما علمنا بتوافر الطحين في دواري الكويت والنابلسي، كان زوجي يذهب لإحضاره، وكنت أعيش في قلق وخوف طوال فترة خروجه، أخاف ألا يعود. في إحدى المرات، ذهب إلى الشجاعية ليشتري السكر، وأصيب برصاص طائرة استطلاع في يده، وكانت حالته خطيرة وهددت ببتر يده، لكنه رفض إجراء العملية.
بتاريخ 24 أبريل 2024، أنجبت طفلتي “إيمان” بعد ولادة ميسرة. وبعد أسبوعين فقط، نزحنا مجددًا إلى مستشفى اليمن السعيد بسبب التصعيد العسكري على معسكر جباليا. ونظرًا لخطورة الوضع، انتقلنا في اليوم التالي إلى منطقة التفاح ومكثنا أسبوعين، وكان زوجي يسير يوميًا من التفاح إلى بيت لاهيا مشيًا على الأقدام لعدم توفر وسائل النقل.
بعد انتهاء العملية العسكرية، عدنا إلى منزل جيران عائلتي في بيت لاهيا، وبقينا هناك حتى أكتوبر 2024، حين بدأت قوات الاحتلال جولة جديدة من القصف وألقت منشورات تطلب الإخلاء. رفض زوجي الخروج، رغم منع الاحتلال التنقل في غرب مدينة غزة، ونشره للحواجز.
في 8 أكتوبر 2024، حوالي الساعة 11 صباحًا، كان زوجي ووالدي وأشقاء والدتي يجلسون على ركام منزل عائلتي تحت سقف متبقٍ. كنت مع شقيقة والدتي نحضر لإشعال الفرن للخبز. طلبت شقيقتها من زوجي إشعاله، لكن دبابات الاحتلال أطلقت قذائف عشوائية على المنطقة. خرج زوجي ليرى ما يحدث، فتم استهدافهم بصاروخ من طائرة زنّانة.
استشهد في هذا القصف زوجي محمد ماهر الحو (29 عامًا)، وشقيق والدتي أحمد زهير العجوري، وأُصيب شقيقها الآخر عبد الرازق زهير العجوري ببتر في اليد، وأُصيب أبناء شقيقها محمد فريد العجوري في عينيه وفقد بصره، وشقيقه يوسف بإصابة طفيفة، واستُشهد شخصان آخران لا أعرف هويتهما.
ركضنا نختبئ تحت درج المنزل، ومع هدوء القصف نسبيًا، جاءت جارتنا لمساعدتنا على الهروب إلى مستشفى كمال عدوان الذي كنا نظنه آمنًا. قبل أن أغادر، جاء والدي يصرخ: “كلهم استشهدوا!” سألته عن محمد، لكنه لم يجب مباشرة.
في الطريق، توقفت أبحث عن زوجي والقذائف تسقط من حولي. عندما وصلت إلى دوار أبو الجديان، رأيت الشهداء وقد لُفوا ببطانيات. كنت أحمل طفلتي، وكنت بالكاد أستطيع حملها. شعرت أن زوجي قد استشهد. بعد تجاوز الدوار، أشار لي والدي بيديه المضمومتين، في إشارة إلى أن محمد لم يعد موجودًا.
في تلك اللحظة، تلقيت صدمة جديدة لم أفق بعد من سابقتها؛ لم تمضِ سنة على فقدان ابنتي، وها أنا الآن أفقد زوجي أيضًا. انهرت بالبكاء، وسارع بعض الأشخاص لإمساكي ونقلي إلى مستشفى كمال عدوان. ذهبت لأودع زوجي، وجلست إلى جانب جسده وأنا أحتضن ابنتي، غارقة في البكاء، أتمتم بالدعاء ليمنحني الله الصبر على فقدانه وفقدان صغيرتي ماريا. بقيت في المستشفى ثلاث إلى أربع ساعات، ثم انتقلنا إلى مستشفى اليمن السعيد. لكن الاحتلال استهدف المكان بصاروخ، أدى إلى استشهاد عشرة أشخاص. اضطررنا للعودة في اليوم التالي إلى المنزل الذي كنا فيه في بيت لاهيا. كان ذلك اليوم من أشد الأيام قسوة؛ كنت في حالة صدمة جعلتني غير قادرة حتى على الإحساس الكامل بألمي لفقد زوجي وابنتي.
منذ 8 أكتوبر 2024 وحتى 5 نوفمبر، عشتُ في حالة نزوح دائم، أتنقل من مكان إلى آخر تحت وقع القذائف. خرجت من بيت لاهيا بعدما فجر جيش الاحتلال “روبوت” (دبابة مفخخة) عند الدوار الغربي. مشيت مسافة قصيرة، وكانت دبابات الاحتلال أمامي مباشرة. الناس خرجوا يحملون الرايات البيضاء، وأنا أحمل ابنتي وحقائبي، أسير وسط الشوارع الممتلئة بالردم، وسط الغبار ودخان الصواريخ. عبرت من بيت لاهيا حتى حاجز الإدارة المدنية، وكان فوق رؤوسنا طائرات “كواد كابتر”، وأمضيت ساعتين عند الحاجز وسط أصوات القصف المرعبة وتفجيرات الروبوتات في شمال القطاع.
تابعت المسير إلى منطقة التفاح وبقيت فيها يومين، ثم واصلت طريقي جنوباً مشياً على الأقدام، من دوار النابلسي حتى تبة النويري، وأنا أتنقل بحمل ثقيل، أعاني من الإنهاك الشديد. في 8 نوفمبر، عند وصولي إلى الحاجز، أوقفنا جيش الاحتلال لثلاث ساعات تحت الشمس. من العصر حتى المغرب، بقيت أمشي من الحاجز إلى تبة النويري، حيث وجدت زوج شقيقتي وإخوة زوجي بانتظاري. والدتي لم تكن تعلم بوصولي بعد فراق دام سنة ونصف. انتقلت إلى الجنوب، إلى دير البلح، حيث أقمت مع والدتي وطفلتي في خيمة بنهاية شارع البركة داخل مخيم.
ومع دخول الهدنة حيّز التنفيذ، عدت مع عائلتي مؤقتاً إلى منزل والدتي، ثم نصبنا خيمة فوق ركام منزل عائلتي وبقينا فيها. وعندما تمطر، كانت المياه تغمرنا؛ فخيمتنا لا تحمينا من البرد ولا من المطر.
وقبل العيد بيوم، احترقت خيمتي بكل ما فيها: صور زوجي وابنتي ماريا، آخر ما تبقى لي من ذكريات معهم. كل شيء احترق — الأثاث، الأغطية، الفرش — بسبب أعواد كبريت سقطت من يد ابن شقيقتي وهو يلعب، لتشتعل النيران وتلتهم كل ما لدينا. نجحنا في إخراج الأطفال والهرب، لكن لم تكن هناك مياه لإطفاء الحريق، والخيمة المصنوعة من القماش والإسفنج سهلت انتشار النار. لم يتبقَّ لي شيء.
ومع عودة الحرب، شعرت أن روحي خرجت من جسدي. الخوف من النزوح من جديد يطاردني. كل ما أتمناه أن تنتهي هذه الحرب. تعبت… تعبت من حمل ثوب الصلاة على جسدي طوال الأشهر الماضية، أتمناه أن يُخلع ذات يوم مع توقف القصف… مع عودة الحياة.