تاريخ الإفادة 8/6/2025
المعتز بالله محمد الكفارنة، 38 عاما، متزوج ولدي 5 أطفال، سكان بيت حانون شمال غزة، ونازح حاليا غرب غزة.
(تم نشر هذه الإفادة على مواقع التواصل الاجتماعي، ونظراً لأهميتها تواصل المركز مع السيد المعتز بالله الكفارنة وحصل على موافقته لنشرها على موقع المركز).
كنت أسكن في بيت حانون شمال غزة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، نزحت 8 مرات، من بيت حانون إلى جباليا، ومنها إلى تل الهوى في غزة، ومنها إلى مخيم النصيرات في وسط القطاع، ومنه إلى خان يونس، ومنها إلى رفح، ثم رجعنا إلى خان يونس، وبعد وقف النار عدت إلى لبيت حانون وبعد استئناف العدوان نزحت مجددًا إلى غزة.
دمرت قوات الاحتلال بيتي المكون من طابقين، عانينا كثيرا من النزوح والعيش في الخيام، والمجاعة. زوجتي خلود صلاح الكفارنة 38 عاما، هي أكاديمية ومريضة كبد، نعاني كثيرا حتى نوفر العقار العلاجي الخاص بها منذ بداية الحرب. أما أبنائي فأكبرهم طفلتي الكبرى 12 عاما، وأصغرهم طفلي 5 سنوات، فرضت عليهم الحرب أوضاعا قاسية نتيجة القصف والنزوح والحرمان من التعليم والطامة الكبرى الجوع.
أنا كنت أعمل مراقب امتثال وتدقيق في شركة تحويلات مالية وكيل لويسترن يونيون، وبسبب الحرب فقدت عملي وهذا زاد من صعوبة الحياة مع الغلاء الفاحش في القطاع.
أكثر من ثلاثة أشهر نعاني من أوضاع كارثية نفد فيها الدقيق وأغلب المواد الغذائية، وإذا توفر شيء فهو محدود جدًا وأسعاره مرتفعة، لذلك قررت الذهاب إلى مركز المساعدات الأمريكي الذي أقامته قوات الاحتلال جنوب قطاع غزة، رغم إدراكي للمخاطر وما سمعته عما حدث من سقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى منذ افتتاح مركز التوزيع. لكن اضطرتني الظروف أن أسير في طريق الألم تماماً كطريق عذابات المسيح في نكرانه وبشاراته وعذابات محمد في تخلي القريب عنه ومحاربته ومحاصرته وعذابات ابراهيم بإلقائه في النار دون شفيع. حقيقة أن العذابات التي يعيشها أهل غزة لا تقل عن عذابات أنبياء أولي العزم.
طريقي بدأ يوم وقفة عرفات 05-06-2025 والانطلاق للوصول إلى مركز المساعدات الإغاثية في رفح. بدأت السير أنا وآخرين على أقدامنا من منطقة الأزهر، حيث أنزح غرب مدينة غزة بعد صلاة مغرب اليوم المذكور، وكلنا أمل أن نجد أي وسيلة مواصلات تنقلنا باتجاه جنوب قطاع غزة عبر شارع الرشيد، سواء دراجة نارية ثلاثية العجلات (توكتوك-تروسيكل) أو عربة تجرها الدواب، حيث تمنع قوات الاحتلال السيارات من السير على ذلك الطريق، لكن للأسف لم نجد أي وسيلة نقل باي شكل من الأشكال، فامتدت رحلتنا الشاقة مشيا على الاقدام من غرب مدينة غزة، مرورا بالمحافظة الوسطى وخان يونس، وصولا إلى منطقة فيش فريش في أقصى جنوب غرب خانيونس، وهي نقطة الانطلاق تجاه مركز المساعدات الأمريكي GHF. وصلنا بعد طول سير امتد من الساعة 7:30 مساء يوم عرفة حتى 2:30 فجر أول أيام عيد الأضحى، وما أن وصلنا حتى بدأ فصل جديد من العذابات بعد عذاب السير 8 ساعات لمسافة تزيد عن 35 كيلو متر حيث كان يتوجب السير بحذر شديد وصولا لمسجد في المنطقة يدعى مسجد معاوية لنستقر في تلك النقطة حتى يتم فتح الحاجز لندخل إلى مركز المساعدات .
عند وصولنا أدركنا أنه يتوجب علينا محاولة الدخول وفعلا بدأنا نقترب من الحاجز الإسرائيلي وهو عبارة عن ساتر رملي تتواجد خلفه قوات الاحتلال ولم تكن منظورة لنا. كان لدينا أمل أن نجد الحاجز مفتوحا فنستطيع الدخول لنحصل على الطعام لكن سمعنا صوتا إسرائيليا من خلف الساتر الرملي ينادي عبر الميكروفون: إن مركز المساعدات مغلق ولا يوجد توزيع ويتوجب علينا أن نذهب الى بيوتنا.
أصحاب الخبرة السابقة أخبرونا أن هذا اسلوب إسرائيلي لتخفيف عدد الناس المتواجدين، ودفع الغالبية للمغادرة وإحباط الناس فلا تغادروا، وهذا فعلا ما حدث. عدنا الى مكان تجمعنا السابق قرب مسجد معاوية وجلسنا حتى قررنا إعادة المحاولة السير باتجاه الحاجز الاسرائيلي مرة أخرى علّهم يسمحوا لنا بالدخول فاقتربنا رويدا رويدا وكان عددنا يتخطى الخمسة آلاف شخص.
عند وصولنا إلى قرب الحاجز نادى الميكروفون الاسرائيلي مرة أخرى أن عودوا فالمركز مغلق وبدأوا بشتمنا وسبنا، منها يا كلاب، وهددونا أنهم سيطلقون النار علينا خلال ثلاث دقائق إن لم نغادر المكان، وقبل ان يكملوا تحذيرهم وقبل أن نستطيع التحرك بدأ إطلاق النار بشكل مباشر علينا دون أي رحمة أو شفقة، من موقع تمركز قوات الاحتلال الذي كان يبعد حوالي كيلو متر عن تجمعنا .التفت حولي لأجد عشرات الاصابات وأصوات صرخات المصابين ينادون بأن ينقذهم أحد لكن لا أحد يستطيع رفع رأسه من كثرة إطلاق النار وصوت الأزيز فوق الرؤوس، لكن ما إن هدأ إطلاق النار قليلا حتى استطاع للشباب إخلاء المصابين لأقرب نقطة، وهي مركز كبير ومركزي للصليب الأحمر الدولي قريب من المكان لكن الألم الأكبر كان أن من بين المصابين أناس فارقوا الحياة .عدنا ونفوسنا مكسورة مطأطئي الرؤوس يركبنا الحزن والخوف والألم في نفس الوقت فبعض من كان معنا في نفس الطابور إما أصيب أو رحل إلى غير رجعة في يوم العيد … هذا العيد الاسود الذي دفعنا جوعنا فيه أن نخرج لنحصل على الطعام من يد عدونا … طعام مغلف بالذل والمهانة بعد أن كنا كراماً.
عدنا وحاولنا النوم على التراب أمام شاطئ بحر رفح الحزين ننتظر وقت دخولنا المركز حتى جاءت الساعة السابعة إلا ربع صباحاً وبدأ إطلاق النار بشكل مجنون مباشر ومكثف وسريع ومخيف من جهة تمركز قوات الاحتلال وكان ارتفاع إطلاق النار لا يزيد عن متر عن سطح الأرض فما عليك إلا الانبطاح على وجهك أو التقوقع في وضعية الجنين. يمر شريط حياتك كلها أمام عينيك تتذكر من يحبوك، تقول يا ويلي ليس الموت آخر همومي هذا اليوم إنما كيف لي أن أموت وألا أعود لأطفال بطعام يسد جوعهم. فهم ينتظرونني في مركز الإيواء جوعى متأملين عودتي حياً وببعض الطعام .. تتذكر ضحكاتهم معك وقت تناول الطعام وكيف تحولت هذه الضحكات إلى بكاء ونظرات تشعرك بأنك مقصر ومشارك في جوعهم فهم أطفال أبرياء سذج لا يدرون الحقيقة إنك جائع أكثر منهم وأن لا حيلة بيدك وأن ذهابك لهذا المكان الموحش المليء بالموت ليس إلا محاولة لإطعامهم فقط لا غير.
استمر إطلاق النار من الساعة السابعة إلا ربع حتى الساعة الثامنة. ساعة وربع من إطلاق النار على كل حركة من مختلف صنوف الأسلحة متزامن ذاك مع أصوات الطائرات المختلفة رعب في كل جانب، ليس عل لسانك غير الشهادتين وحسبنا الله ونعم الوكيل. عندما وقف إطلاق النار قال أهل الخبرة: إن هذا هو وقت الدخول . الدخول مشهد سينمائي في قمة التراجيديا لم تصوره ملاحم الرومان أو اليونان أو الكوميديا الإلهية بالمطلق .. يجب أن تخرج جرياً من المكان الذي تحتمي فيه من إطلاق النار، الجري أساس الوصول، مسافة تزيد عن 2 كيلو متر لا يجزعك أن ترى شباب ملقون على الأرض، مفرود على وجوههم الكيس البلاستيكي الذي كان في يدهم ليحملوا فيه ما سيحصلون عليه من مركز المساعدات، الجرحى بعضهم مرمي على الأرض يصارع نزفه ومنهم من يحاول إسعاف ذاته إذا كانت الإصابة في قدمه مثلا. رغم أصوات النعال على الطريق لكنك ستسمع أنين الجرحى. ضميرك سيتمزق كورقة انتهى استخدامها فلا نفع منها إنسانيتك ستطير كرماد تم ذره في الريح. أنت تجري كالدواب للحصول على طعام ترى الضحايا والمصابين فلا تستطيع أن تنظر إليهم أو أن تساعدهم لأسباب أولها أنك ما إن تتوقف حتى سيدفعك من خلفك من حشود الجائعين وسيدوسونك تحت أقدامهم بلا رحمة أو شفقة أو سيتم إطلاق النار عليك أو أنك لن تصل إلى المساعدات. يجب أن تجري رافعا ًيدك ورافعاً الكيس الأبيض الذي ستحمل فيه المساعدات كإشارة استسلام وأنك مدني لم تأت إلا للحصول على حصتك من الطعام كدابة تنتظر فتح معلف الطعام في حظيرة بلا اخلاق ولا مشاعر .
تصل إلى الحاجز الاسرائيلي ثم تنعطف بعدها يسارا لتجري مسافة كيلو متر إضافي ثم ستنعطف يمينا لتجري كيلو متر ثالث لتصل إلى الحاجز الأمريكي (عناصر الشركة الأمنية الأمريكية الخاصة)، ستجدهم كما صورتهم أفلام هوليود محملين بصنوف الأسلحة يضعون النظارات السوداء يلبسون الدروع عليها علم أمريكا وخلف آذانهم سماعات يوجهون سلاحهم إلى صدورنا العارية يطلقون النار تجاه الأرض تحت أقدام من يحاول التقدم والوصول إلى المساعدات التي تتموضع خلف تلة يقفون عليها . تراجعوا رويدا رويدا وهم يوجهون السلاح الينا وتركونا تماما كما يفعلوا في حلبات الروديو لتنطلق الثيران.. لكننا بشر حقيقة بشر يحاولون نزع البشرية منا وتحويلنا لكائنات أقل من الدواب مرتبة فلا نظام ولا أخلاق ولا أي شيء هياكل من الجياع تجري لتقتات من أي فتات يصله حتى لو كان من يد قاتله.
بعد تراجعهم وإخلائهم الطريق لنا لنصعد التلة التي يضعون خلفها المساعدات ليتحول كل من في الطابور إلى ذات الصنف سابق الذكر، وحوش تتزاحم للقضم من فريسة ملقاة أمامهم فعليك الجري بكل ما أوتيت من عزم لتلحق بصندوق فيه بعض الطعام فلا تنظيم ولا مساواة ولا عدالة، قانون الغاب يحكم وما أن تحصل على الصندوق يجب أن تفرغه في الكيس الذي تحمله وتهرب من المكان بأقصى سرعة لان القادمين خلفك في حال لم يجدوا صناديق يحملوها سيهجمون عليك ليخطفوا منك ما تحمل وإن استطعت أن تجمع ما يقع على الأرض أمامك من الهاربين مثلك فافعل لكن دون أن تتوقف فإما ستقع وتدوسك أقدام الهاربين مثلك أو سيسرقك الجائعين أو قطاع الطرق يجب أن تحمل أي سلاح أبيض سكين أو مشرط وأن تكون حذرا وتسير ضمن مجموعة من أصدقائك أو معارفك أو اقربائك أو من تتفق معهم ليحمي كل منكم الآخر خلال الطريق، فعلا غابة بكل أوصافها القوي فيها يأكل الضعيف بلا أي رحم، نزعوا منا كل شيء له علاقة بالإنسانية حولونا لمسوخ بدون روح . بعد أن تغادر أرض الموت في مركز المساعدات حاملا بعض الطعام وتفتح الكيس لترى ما حملت وهنا سأذكر ما حصلت عليه : 2 كيلو عدس، ونصف كيلو حمص، و2 كيلو دقيق، و4 كيلو مكرونة، وكيلو طحينة، ولتر زيت قلي (سيرج)، و2 كيلو ملح، وعلبة بازيلاء معلبة، وعلبة فاصولياء معلبة، و2 علبة فول معلب. هنا ستسقط دمعتك تغلبك إن كان لديك شيء من بقايا الإنسانية ستحس بالقهر يمزق قلبك وروحك بلا رحمة ولا شفقة ستتقطع شرايين روحك ستنزف أحاسيسك دون توقف … هل لهذا القدر الضئيل من الطعام ألقي بنفسي في فم الموت أسير عشرات الكيلومترات أزحف على بطني مئات الأمتار أجري آلاف الخطوات أرى جثث الشباب ملقاة على الأرض أرى الجرحى ولا أستطيع أن أمد يدي لإنقاذ اي منهم … يا لسوء ما وصلنا إليه … إلهذا القدر الشحيح من الطعام مات هؤلاء الناس .. شباب يا رب العالمين شباب وأرباب أسر تركوا أطفالهم في يوم العيد جياع وهاهم يعودون إليهم في اكفان ويبقى أطفالهم جياع . يوم عيد اسود جديد يوم عيد مرير جديد يوم عيد باسم عيد لكن في غزة ليس حتى شبيها باي عيد … لغزة عاشت منذ بدء الحرب 4 اعياد كلها سوداء لكن هذا العيد أكثرها سوادا وقتامة.
لا تتركنا يا رب … يموت فينا كل شيء .لا تتركنا نرجوك يا رب فنحن بالعرب والمسلمين وبأنفسنا لا حول لنا إلا بك.