تم تحرير الافادة بتاريخ: 22/01/2025
مكان تحرير الافادة: مخيم المجدل، مخيم للنازحين في دير البلح
أنا سلمى يوسف محمد السدودي، 19 عامًا، سكان غزة، الكرامة، آنسة. بدأت الحرب وبدأت معها المعاناة منذ لحظاتها الأولى. تلقينا اتصالاً من جيش الاحتلال الإسرائيلي ليلة الثامن من أكتوبر 2023 يطالبنا بإخلاء المنطقة. انتظرنا حتى الصباح، وامتثلنا للأوامر وأخلينا المنزل، متوجهين إلى مدرسة الشاطئ الإعدادية “أ” للبحث عن ملاذ مؤقت، تحركنا كعائلة ممتدة كانت تقيم في طوابق متراصة فوق بعضها. وفي الثاني عشر من أكتوبر، لم يبقَ للعمارة أي أثر، مما أصابنا بصدمة مبكرة جدًا.
في الثاني من نوفمبر 2023، تعرضت المدرسة لقصف مدفعي وصواريخ من طائرة استطلاع، مما أسفر عن إصابة مولد المياه الموجود قرب بوابة المدرسة. في ذلك اليوم، فقدنا عم والدي، مصباح علي طافش، واستشهد إلى جانب وقوع العديد من الإصابات بين الموجودين. وبحلول الرابع من نوفمبر، أجبرتنا الظروف القاسية، من جوع شديد وشح في المياه، على مغادرة شمال مدينة غزة والتوجه نحو الجنوب. في ذلك الوقت، كنا ما يقارب 42 فردًا من أعمام وعمات وأقارب من مختلف الأعمار. لم يكن خوفي في ذلك الحين من الجيش الإسرائيلي، بل كان أعظم مخاوفي أن أفقد أحدًا من أفراد عائلتي، وهو ما كان يرعبني أكثر من أي شيء آخر.
أثناء عبورنا الحاجز الفاصل بين الشمال والجنوب على طريق صلاح الدين، واجهنا مشاهد تفوق الوصف. سرنا مضطرين فوق أشلاء وأمتعة شخصية تعود لأشخاص لم يتمكنوا من أخذها معهم، أو فقدوا حياتهم عند نقطة العبور، لتنتهي قصتهم عند هذا الحد. كان الزحام هائلًا، أشبه بالطوفان البشري، حيث رأينا كبار السن والنساء الحوامل يفقدون وعيهم من الإرهاق والمشاهد المؤلمة. حتى تمكنا أخيرًا من عبور الحاجز.
أتذكر بوضوح أنهم أعدموا شخصين أمام أعيننا، بلا سبب واضح، وفجأة سقطوا على الأرض. لم يتوقف أحد لانتشال جثتيهما، وكأن حياة الناس أصبحت بلا قيمة، رخيصة إلى حد مؤلم. شعور المذلة كان يخيم علينا، خاصة مع صوت الجندي الإسرائيلي عبر مكبر الصوت وهو ينطق كلمات مهينة، يصفنا بالجبناء ويدّعي أنهم أصحاب الأرض. لم يكن أمامنا أي خيار سوى أن نقف بلا حيلة، نرفع أيدينا، نحمل هوياتنا، وننظر باتجاه الجنود بانتظار الإذن للعبور إلى ما كانوا يسمونه “المنطقة الآمنة”.
عندما قررنا الانتقال إلى الجنوب، كانت نيتنا الوصول إلى رفح، لكن أجسادنا المنهكة لم تسعفنا. تمكنّا من الوصول إلى مدينة دير البلح بفضل حافلة وفرها لنا فاعل خير، ومن هناك نقلنا إلى مدرسة الشيخ نمر حمدان في خان يونس. لم نختر المكان بمحض إرادتنا؛ كنا نسير بلا وجهة واضحة، نستجيب لما يقوله الناس حولنا، ونتبع المجهول. ساعدتنا العائلات القريبة من المدرسة بتوفير أغطية ووسائد وفرش للنوم. قضينا الأيام الثلاثة الأولى في الممر، قبل أن ننتقل إلى غرفة في المدرسة كانت مغلقة، ولم يكن لها مفتاح. تدخل الدفاع المدني لمساعدتنا على فتحها، ومن ثم أصبح هذا المكان مأوانا المؤقت في ظل ظروف قاسية لا تزال تلاحقنا.
عندما بدأنا نحاول تشكيل إطار لحياتنا وسط الفوضى، بدأت العملية البرية في خان يونس مع بداية ديسمبر 2023، مما أجبرنا على النزوح مرة أخرى، هذه المرة باتجاه حي الشابورة في مدينة رفح. وجدنا مأوى في بيت قديم جدًا يعود لأحد أقاربنا، يتكون من غرفتين فقط، رغم أننا كنا عشرين شخصًا. بقينا في رفح حوالي ستة أشهر، لكن توسع العمليات البرية لتشمل رفح أيضًا دفعنا إلى مغادرتها في 11 مايو 2024، حيث انتقلنا إلى مدرسة الشيخ جميل قرب مستشفى ناصر في خان يونس.
في 3 يوليو 2024، وبينما كان والدي يسير بالقرب من مستشفى ناصر، قُصف مبنى قريب منه، وأدى استنشاقه دخان القصف الإسرائيلي إلى وفاته على الفور. لقد شعرت حينها وكأنني أفقد جذوري، سندي، وملجئي. كان والدي دائمًا مصدر الأمان والحب في حياتي، وفقدانه ترك فراغًا لا يمكن ملؤه. كنت أتساءل كيف يمكن للحياة أن تستمر من دونه، وكيف يمكنني أن أجد القوة لمواجهة كل هذا الألم.
في 15 ديسمبر 2024، تعرض الصف المجاور لنا في المدرسة لقصف بصاروخ. كان ذلك اليوم مأساويًا، حيث دُفنت والدتي تحت أنقاض حزام باطون. عندما أخرجناها، كانت قد فارقت الحياة، وعظامها تهشمت بالكامل. في تلك اللحظة، أدركت أن أمي استشهدت. بينما كنت أحاول استيعاب ما حدث، لاحظت أن أختي، منى يوسف السدودي، 17 عاماً، مصابة بجروح خطيرة. لم أفقد وعيي بعد القصف مباشرة، وطلبت من طاقم الإسعاف أن يتركوا والدتي ويسارعوا لإنقاذ منى. قلت لهم: “ماما استشهدت، اتركوها وساعدوا منى“. كانت منى تعاني من صعوبة في التنفس ورهاب الأماكن الضيقة، وكنت خائفة للغاية من فقدانها أيضًا.
وصلت إلى مستشفى ناصر وأنا أعاني من رضوض في ظهري وصدري، لكنني فقدت الوعي فور وصولي بسبب الإصابات التي تعرضت لها. عندما استعدت وعيي، بدأت البحث عن منى في جميع أنحاء المستشفى. في ظل القصف المستمر والفوضى الناجمة عن العدد الكبير من المصابين والشهداء، كانت المعلومات غير واضحة. أُخبرت بأن منى قد فارقت الحياة ونُقلت إلى المشرحة. طُلب مني، وأنا فتاة في التاسعة عشرة من عمري، أن أذهب وحدي إلى المشرحة للبحث عن أختي. القصف وقع في الليل، ولم يتمكن أقاربنا في دير البلح من الوصول إلينا إلا في صباح اليوم التالي.
دخلت المشرحة وأنا غارقة في الخوف. لم أتعرف على منى بين الشهداء، لكن كان هناك ثلاث جثث مجهولة الهوية، عبارة عن أشلاء متناثرة. أحد موظفي المشرحة أخبرني ببرود أن منى قد تكون بين هذه الأشلاء.
في نهاية المطاف، وجدنا منى على قيد الحياة في المستشفى. كانت حالتها خطيرة لكنها لم تفارق الحياة. تعاني منى الآن من بتر في قدمها اليمنى، وتحتاج إلى تحويلة طبية للعلاج في الخارج لتركيب طرف صناعي. أجرت ما يقارب عشرين عملية، شملت تنظيف الجروح وتركيب بلاتين وعمليات بتر، ولا يزال وضعها الصحي والنفسي حرجًا.
لم أتمكن من وداع أمي كما يجب، لكنني شعرت بالسكينة عندما وجدت منى، التي كانت بمثابة أمي الثانية وأكبر داعم لي في هذه الحياة. أتذكر أول كلمات نطقتها منى عندما استعادت وعيها وتمكنت من الاتصال: “سلمى وين ماما؟”. عجزت عن إيجاد الكلمات المناسبة لإخبارها بخبر وفاة والدتنا، وقلت فقط: “ماما راحت عند ربنا، واحنا بس بقينا لبعض”. لم أستطع كبح دموعي، لكنني حاولت أن أبدو قوية من أجلها. عندما تقرر بتر قدم منى، واجهنا معضلة كبيرة؛ كان لا بد من توقيع موافقة من أولياء الأمور. لكن كيف نخبرهم أنه لم يعد هناك أم ولا أب؟ أصبحنا وحدنا في هذا العالم، خمس أخوات، نحمل أعباء تفوق طاقتنا. كان شعورنا بالعجز يتضاعف مع كل إجراء طبي نواجهه.
في الصف المجاور لنا في المدرسة، استشهدت عائلة طافش بأكملها. فقدوا 14 شخصًا، من بينهم سامر طافش، خطيب أختي بيسان. كانت الخسائر فادحة، وكلما حاولنا التأقلم مع المآسي، جاءت الحرب لتسرق منا ما تبقى من شعور بالأمان.
بعد خسارتنا الموجعة ورحيل أبي، شعرنا بكسر عميق في حياتنا؛ فقد كان العمود الذي نستند عليه. وعندما لحقت به أمي، تضاعف الألم، وأصبح الحزن أشد قسوة، محولًا حياتنا اليومية إلى مزيج من الخوف والقلق. اضطررنا للانتقال إلى دير البلح للعيش مع عمي، الذي كان يقيم مع زوجته وأبنائه الثلاثة وأختين في خيمة صغيرة. بانضمامنا نحن الخمس اخوات، حلا ومنى، 17 عاماً، بيسان، 21 عاماً، سمر 22 عاماً، بات الوضع أكثر اختناقًا وتعقيدًا. كنا بلا معيل، نحاول التكيف مع واقع مرير مليء بالخسائر والصدمات. وسط تلك الظروف، سعينا للبقاء متماسكين رغم أن الجراح النفسية والجسدية جعلت حياتنا كابوسًا لا ينتهي.
الحياة داخل الخيمة أشبه بمعركة يومية، حيث تقاسمنا نحن الاثني عشر شخصاً مساحة ضيقة وسط برد قارس يحيط بنا من كل جانب. فقدنا معظم ملابسنا، وزاد غياب البنية التحتية من معاناتنا. خاصة في فصل الشتاء، نغرق تحت الأمطار التي تتسرب إلى الداخل فنستيقظ جميعًا ونتجمع في زاوية واحدة بانتظار توقفها. وكان بئر المياه العادمة المؤقت يغمر المكان، مضيفًا عبئًا آخر على كاهلنا. في الليل، كان صوت طائرات الهليكوبتر يرعبنا، وكنت أشعر بالخوف الشديد كلما احتجت الذهاب إلى الحمام. عمي كان دائمًا يسهر ليصاحبنا ويخفف من خوفنا. غابت عن حياتنا أي خصوصية، وتحول كل يوم إلى صراع مستمر من أجل البقاء.
أثر الحرب حاضرًا في كل زاوية من حياتنا. صحيح أننا لم نعد نعيش تحت تهديد الموت كل لحظة، لكن الألم الذي خلفته الحرب في قلوبنا لا يمكن أن يزول بسهولة. فقدنا منازلنا، أحبّتنا، وحتى جزءًا من أنفسنا، لكنني أتمسك بالأمل. أمنيتي الآن أن نتمكن من إعادة بناء ما دمرته الحرب، وأن نعيش حياة كريمة، مليئة بالسكينة والأمان، دون أن نخشى صوت طائرة أو سقوط قذيفة.