أمل شحادة سلامة عويص، 54 عاما، أرملة عمر غازي علي عويص، أم لعشرة أولاد، سكان غزة الزيتون.
تاريخ الإفادة: 6/3/2024.
أنا من سكان غزة الزيتون، نزحت الى أكثر من مكان داخل غزة، من الزيتون للصبرة ثم لمنطقة الثلاثيني رجوعاً للصبرة مرة اخرى ثم الى شارع 8 ثم النزوح جنوباً الى خانيونس ثم الى مدرسة الصفوة في خانيونس في منطقة قيزان رشوان وانتهى بنا المطاف بخيمة في رفح على الحدود المصرية.
في 7 أكتوبر، بدأ الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة، وتعرض الخط الشرقي لقصف عنيف وحِزَم نارية كثيفة. كان صوت القصف يبدو وكأنه بجوار منزلنا، مما خلق جواً من الخوف والرعب، حيث تجمعنا حول أبنائنا خوفاً من أن يخرج أحدهم من المنزل.
وفي 9 أكتوبر 2023، جاء اليوم الذي قلب حياتنا رأساً على عقب. لم نستطع النوم تلك الليلة بسبب القصف المستمر حولنا. وفي الصباح، استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي الاستطلاعية المنازل المجاورة لنا بصواريخ، حيث طال القصف عدة بيوت في المنطقة المحيطة. خشيت أن تكون هذه صواريخ إنذار، فطلبت من أبنائي الخروج لتفقد الوضع، وللأسف اعتقدت أن زوجي قد نزل معهم، لكنني لم أعد أراه.
بينما كنت أرتدي ملابس الصلاة وأبحث عن عباءتي، سمعت صراخ أبنائي يحثونني على النزول فوراً، حيث كان هناك تهديد بقصف المنزل المجاور لنا ومنازل أخرى في المنطقة. نزلنا إلى الشارع بسرعة بعد الضربة الأولى، وأخذت أسأل عن زوجي بين أبنائي والجيران، حيث لم نعرف مكانه.
بدأ أبنائي في البحث عن والدهم في الشارع وعند المنزل المستهدف، كما بحثوا في كل أرجاء منزلنا باستثناء الشرفة في غرفة نومي، إذ لم يخطر ببالنا أنه قد يكون فيها، فهو نادراً ما يدخلها لأنها تطل على بيوت الجيران وتكشفها.
تكرر القصف أكثر من مرة في المنطقة، بينما كنت أنا وبناتي في الشارع، وطلب منا الجيران الاحتماء في منازلهم، لكنني رفضت حتى أطمئن على زوجي. وسط هذا الخوف العارم، استمر أبنائي في البحث حتى وصل ابني بلال، البالغ من العمر 30 عاماً، وأحمد، البالغ 21 عاماً، إلى الشرفة، ليكتشفا والدهم غارقاً في دمائه وقد أصابته شظية من جراء استهداف المنزل المجاور، حيث فارق الحياة على الفور.
أصيب بلال بحالة هلع وبدأ يصرخ ويلطم وجهه ويبكي، في حين دخل أحمد في نوبة من البكاء والانهيار، حتى أصابهما شلل الحركة وسقطا أرضاً من شدة الصدمة. وعندما دخل ابني الأكبر محمد، 32 عاماً، إلى الغرفة ورأى إخوته في تلك الحالة، أدرك أن أمراً مريعاً أصاب والده. حاول الدخول إلى الشرفة وجمع قواه ليتمكن من سحب والده، لكن قوة الصدمة حالت دون قدرته على القيام بذلك.
في هذه الأثناء، كانت سيارة الإسعاف قريبة من المنزل، فقام ابني محمد بفتح النافذة واستدعاء طاقم الإسعاف للصعود لنقل والده. حملوه إلى سيارة الإسعاف، بينما بقيت في الشارع في حالة من الصدمة، معتقدة أن زوجي قد أُصيب فقط وسيتم علاجه. لكن بعد قليل، جاء ابني محمد وأخبرني بأن والده استشهد.
في تلك اللحظة، لم أكن مدركة لما يحدث حولي، وكانت لدي آمال ضعيفة بأن يخبرني أحد بأن زوجي بخير. إلا أن صراخ أبنائي وبكاء بناتي الذي عم المكان أخرجني من وهم أن زوجي ما زال حياً، وانهارت قواي تماماً.
نُقل زوجي إلى المستشفى عبر سيارة الإسعاف، ثم وُوري الثرى في مقبرة البطش. قمت بالاتصال بإخوتي لإخبارهم بما حدث وطلبت منهم اصطحابي من المكان. جاء أخي وأخذنا إلى منزل عائلتي في منطقة الصبرة.
بقينا في منزل عائلتي في منطقة الصبرة من 9 أكتوبر 2023 حتى 17 أكتوبر 2023، حين استهدفت طائرات الاحتلال مسجد الإيمان المجاور دون سابق إنذار حوالي الساعة 11 صباحاً. في ذلك الوقت، كان العديد من الأطفال يشحنون هواتفهم داخل المسجد بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن غزة بأكملها، مما أدى إلى استشهاد جميع الأطفال الذين كانوا في الداخل، إضافةً إلى عدد من الجيران المحيطين بالمسجد والمارة في الشارع، وإصابة آخرين.
أما نحن في منزل عائلتي، فقد سقط علينا الركام، وانهارت بعض جدران المنزل، وتناثر زجاج النوافذ فوق رؤوسنا. أصيب ابني وأشقائي وأبناء شقيقي في هذا القصف، ولكن، ولله الحمد، كانت الإصابات طفيفة ولم نفقد أحداً.
اختنقنا بغبار الركام يوم القصف، فركضنا هاربين إلى منطقة الثلاثيني، حيث لجأنا إلى منزل شقيقة زوجي. كان المنزل صغيراً، مكوناً من غرفتين وصالة ومطبخ وحمام، ومع ذلك كان يؤوي 25 نازحاً. بقينا هناك حتى تمكن إخوتي من تنظيف بعض الغرف في منزل عائلتي وإزالة الركام، فعُدنا مرة أخرى إلى ما تبقى من منزل العائلة في الصبرة.
بعد أسبوع من عودتنا، استهدفت طائرات الاحتلال المسجد مجدداً، هذه المرة قصفوا الممر الفاصل بين المنزل والمسجد، مما زاد من دمار المنزل. مزقت الشظايا ملابسنا التي كنا قد أحضرناها معنا، لكن الحمد لله لم يصب أحد منا أو من أهلي بأذى، وإن كان هناك شهداء بين جيراننا. مرة أخرى، ركضنا هرباً من القصف والرعب، وتوجهنا إلى منزل أهل زوجة أخي في شارع 8، قرب منطقة دلول. مكثنا هناك ثلاثة أيام، وكانت دبابات جيش الاحتلال قريبة جداً منا، يفصلنا عنها شارع واحد فقط، بينما تصل رسائل الإخلاء والتهديد على هواتفنا كل دقيقة.
في النهاية، اضطر جميع سكان المنطقة إلى الإخلاء، وخرجنا متجهين إلى الجنوب عبر الممر الآمن. أوصلنا أحد إخوتي إلى منطقة “دولة”، ومن هناك صعدنا على عربة يجرها حمار حتى اقتربنا من حاجز على خط صلاح الدين.
في 10 نوفمبر 2023، توجهنا نحو جنوب القطاع عبر حاجز تمركز عليه جنود الاحتلال. تم إيقافنا عدة مرات وسط إطلاق نار كثيف، وذلك للسماح بمرور شاحنات الحصمة والرمال التي كان الجيش ينقلها لإقامة قاعدة عسكرية عند الحاجز في المنطقة الوسطى.
كان من بين النازحين معنا أطباء ومرضى ومصابون من مستشفى الشفاء. أثناء عبورنا الحاجز، وقبل وصولنا إلى وادي غزة، قامت قوات الاحتلال بإطلاق قذائف مدفعية باتجاه النازحين، مما أدى إلى استشهاد عدد من الأشخاص على الطريق. كان المشهد مرعباً، فقد تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، فهرعنا هاربين من هول المنظر ومن القذائف، واستمررنا في السير حتى وصلنا إلى ما بعد مدخل البريج والبنك الوطني الموجود على طريق صلاح الدين. هناك جاء أقاربنا ونقلونا إلى خانيونس، حيث بقينا لمدة شهر تقريباً.
فيما بعد، وصلتنا تهديدات بالإخلاء عبر مكالمات لأصحاب المنزل الذي كنا نقيم فيه، والذي كان يضم حوالي 50 نازحاً رغم أنه مكوّن من غرفة، وصالة، ومطبخ، وحمام. تعرض المنزل المجاور للقصف، وسقطت الحجارة والركام علينا، لكن نجونا من الموت بأعجوبة.
بعد ذلك، انتقلنا إلى مدرسة الصفوة في منطقة قيزان رشوان. من المدرسة، كنا نشاهد القصف والأحزمة النارية من مسافة، في حين كانت رسائل الإخلاء تصلنا على هواتفنا باستمرار. وصل بنا الحال إلى درجة من الرعب من طائرات الاحتلال لدرجة أننا لم نكن نستطيع الخروج من باب الصف خوفاً.
أصبح القصف يحيط بالمدرسة، وأصبحت المنطقة خطرة جداً. بدأ النازحون في المدرسة بالهرب تدريجياً، وبقي عدد قليل منهم. خرجنا من المدرسة واتجهنا إلى رفح، إلى منطقة الخيام القريبة من الحدود المصرية. هناك، قمنا بتركيب خيمة للاحتماء من العراء، ولكننا وصلنا إلى رفح بدون أي فراش أو غطاء. اشترينا فرشة وبعض الأغطية وحاولنا التكيف مع أقل الإمكانيات. قمنا بالتسجيل في مدرسة للحصول على بعض المعلبات لسد جوعنا. كان علينا الذهاب إلى التكيات للحصول على الطعام عندما كانت موجودة في المنطقة. حيث لا وجود معيل لنا بعد استشهاد زوجي.
كنا ننام بجانب بعضنا البعض للتدفئة. وينام أغلبنا على حرامات من الرمل. وأنشأنا حماماً بدائياً من النايلون وبداخله جردل. أصبنا بالنزلات المعوية بشكل متكرر بسبب البرد وقلة الدفء. في النهار كانت الخيام شديدة الحرارة، لا تُطاق، وفي الليل كانت شديدة البرودة. وكأننا ننتظر الموت داخل تلك الخيمة. علمنا لاحقاً أن منزلنا قد تم حرقه ولم يتبق فيه شيء سليم.
بعد التوغل البري في رفح في مايو 2024، الحياة أصبحت أشبه بكابوس لا ينتهي. تركنا خلفنا كل شيء، وبحثنا عن مكانٍ آخر يأوينا من الموت الذي يلاحقنا في كل زاوية. وصلنا إلى مدرسة خانيونس بالقرب من مجمع ناصر الطبي بعد رحلة نزوح طويلة ومريرة. لكننا لم نجد الراحة. لا يزال النزوح يطاردنا، ونحن نعيش معاناة مستمرة في المدرسة. المكان مزدحم بالنازحين. وأكافح للحصول على لقمة تسد جوع ابنائي، وقطرة ماء تروي عطشهم. الانتظار في طوابير طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة أصبح جزءًا من حياتي.
لم أتمكن من تصديق ما جرى حتى الآن، فكيف يمكن أن تُسرق الحياة، وينتزع الأمان بهذه السرعة؟ كان زوجي هو الأمان، والمعيل الوحيد يحمل عن كاهلنا هموم الحياة ويوزع الضحكات على وجوه أبنائنا. أرى في عيون أبنائي نفس الصدمة التي أعيشها، لكنهم، سيتعلمون أن الحياة تستمر رغم قسوتها.
كل ما نتمناه هو أن نجد الأمان في مكان بعيد عن هذه الحرب التي لا ترحم.