نفين نعيم محمد الدواوسة، 21 عاما، أعمل مُسعفة وأسكن في بيت لاهيا، شمال غزة.
عندما بدأت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7/10/2023، كنت أسكن مع عائلتي واخواني وعائلاتهم وأعمامي وعائلاتهم في بناية من 5 طوابق. مع اشتداد وتيرة الحرب والقصف الجوي بواسطة الأحزمة النارية، عدا عن القذائف العشوائية وتحديداً على المنطقة المحيطة، قررت النزوح إلى مستشفى كمال عدوان في 20/10/2023، خاصة وأنني أعمل مسعفة وطبيعة عملي خصوصاً فترة الحرب تتطلب تواجدي بأي وقت مما اضطرني للمبيت والنزوح داخل المستشفى، ناهيك أنني سأتواجد بمستشفى، أي في مكان آمن نسبياً.
بتاريخ 22/11/2023، وأثناء تواجدي بالمستشفى سالفة الذكر حضر لي أحد الزملاء يفيد بأن هناك مجزرة تم ارتكباها في أنحاء المنطقة – مشروع بيت لاهيا، فقمنا كطاقم بالتوجه إلى مكان الحدث لأتفاجأ بأن المجزرة مُرتكبة بحق عائلتي (الدواوسة) والصاروخ كان قد استهدف منزلنا سالف الذكر لأجد البناية قد دُمرت بالكامل وتحولت لكومة من الركام، وجثث أفراد عائلتي متناثرة بالشارع وفى محيط المكان، حيث استشهد أكثر من 80 شخصا من داخل البناية جميعهم أقاربي من عائلتي الأساسية وإخواني وأخواتي وأعمامي وعماتي وعائلاتهم وبعض النازحين بالبناية.
الاقتحام الأول لمشفى كمال عدوان
في بداية شهر12/2023، أثناء عملي داخل مستشفى كمال عدوان، بدأنا نسمع أصوات انفجارات وإطلاق نار يتزايد شيئاً فشيئاً، حيث كان ذلك تمهيدا لتقدم الآليات العسكرية وجنود الاحتلال نحو مستشفى كمال عدوان ومحيطها. أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها الكامل على محيط المستشفى من جميع الجهات، وتم محاصرتنا قرابة اليومين. أذكر أنه تم قصف الباب الخلفي للمستشفى من الناحية الجنوبية، وقد كانت عبارة عن غرفة لنا كطاقم اسعاف وقد استشهدت زميلتي آنذاك واسمها آية الجبل.
بعد قرابة اليومين من الحصار داخل المستشفى، تراجعت الآليات من محيط المستشفى، دون أن تقوم باقتحامها، حيث تمكنت من الخروج من المستشفى وتوجهت للنزوح لمنزل أحد جيرانا من عائلة أبو العيش الكائنة في معسكر جباليا. وبتاريخ 21/12/2023، حوالي الساعة 1:00 فجراً، تم قصف البناية التي تواجدنا بها على رؤوس ساكنيها، بصاروخ مباشر وتم تدمير المنزل علينا بالكامل، حيث تم انتشالي من تحت الركام، وكنت مصابة برضوض بسيطة، إلا أن هذا الاستهداف خلف أكثر 30 شهيداً من تلك العائلة وأكثر من 20 إصابة.
الهجوم البري الثاني
بتاريخ 18/3/2024، أعلنت قوات الاحتلال بدء عمليتها العسكرية الثانية في محيط مجمع الشفاء الطبي، بعدما اقتحمته بصورة مفاجئة، تزامن ذلك مع بدء اقتحام مخيم جباليا ومحيطها. كما أعلنت قوات الاحتلال عبر منشورات ورقية أوامرها بإخلاء منطقة شمال غزة والنزوح تجاه جنوب القطاع، لحظتها ومن صعوبة ما مررت به قمت بالنزوح إلى منطقة حي الشيخ رضوان في مدينة غزة.
مع بداية شهر4/2024، لا أذكر التاريخ تحديداً، تم انسحاب قوات الاحتلال من شمال قطاع غزة، فرجعت لمنطقة شمال غزة ونزحت إلى مدرسة بنات جباليا الإعدادية، الكائنة في مخيم جباليا، وكنت أعمل بها بصفتي مسعفة بنقطة طبية موجودة داخل المدرسة وبقيت بها حتى تاريخ تهجيرنا قسرياً في شهر أكتوبر 2024.
الهجوم البري الثالث
بتاريخ 5/10/2024، وأثناء تواجدي داخل المدرسة سالفة الذكر، تفاجأنا بسماع أصوات سقوط عدد من القذائف والقنابل بشكل مستمر ومتتالٍ على مواقع مختلفة في محافظة شمال غزة، بالإضافة لانتشار مفاجئ لطائرات الكواد كابتر في سماء المنطقة والتي تطلق نيرانها بين الفينة والأخرى بالإضافة لأصوات انفجارات عنيفة وقوية لاستهداف منازل سكنية. هذا الأمر حدث بعد ساعات الظهر حيث تغيرت مجريات الأمور في شمال غزة بصورة دراماتيكية. تزامن ذلك مع قيام قوات الاحتلال وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بنشر العديد من أوامر الإخلاء الجديدة، تطلب من السكان المتواجدين في شمال غزة الإخلاء الفوري لمنازلهم، والتوجه لجنوب القطاع. أوامر التهجير والنزوح التي أعلنها الاحتلال ما هي إلا جزء ومقدمة لتطبيق ما يسمى بـ “خطة الجنرالات” الاسرائيلية التي تهدف الى تفريغ شمال غزة من سكانها، من خلال إجبار السكان على النزوح والتهجير بالقوة، مع قطع ومنع إدخال إمدادات المساعدات الإنسانية، وتدمير المرافق والخدمات المتبقية التي تعين سكان الشمال على البقاء على قيد الحياة.
بقيت متواجدة داخل المدرسة سالفة الذكر حتى تاريخ 20/10/2024. وطيلة مدة تواجدي كنا نسمع أصوات تفجيرية من كل صوب ومن كل اتجاه، وعندما يجيء الليل نسمع أصوات تفجير لمربعات سكنية كاملة. وكانت المدرسة تتعرض لإطلاق نيران مستمر دون توقف بفعل المسيرات “الكواد كابتر” في ساحتها، بالإضافة لتناثر الشظايا على ساحة المدرسة، فذلك كله جعلنا نخشى الخروج ليس فقط من داخل المدرسة بل أيضاً من الفصول الدراسية من شدة النار.
أما الوضع الإنساني داخل المدرسة فقد كان صعباً للغاية. كان في المدرسة أكثر من 400 عائلة نازحة، وكان يسكن كل فصل أكثر من 3 عائلات، أي بالمجمل يتواجد بكل فصل من 30 إلى 40 فرد وأغلبهم من النساء والأطفال، دون وجود أبسط مقومات الرعاية والسلامة الصحية.
بتاريخ 6/10/2024، قصفت قوات الاحتلال بئر المياه الرئيسي المغذي للمدرسة، والمتواجد خلف فصول المدرسة، وأصبحت المياه بعد ذلك شبه معدومة بحيث كان مجموع ما يشربه الفرد يومياً لا يتعدى النصف لتر، وأصبح كل شخص يحاول تأمين مياه لعائلته أو أسرته. أما الطعام فكانت العائلات تحاول الاقتصاد في الأكل، تحسباً للأيام القادمة، وخاصة أن ما يوجد مع العائلات والأسر هو مجرد معلبات بسيطة تكفي ليومين أو ثلاثة فقط.
حاولنا خلال تلك الفترة إبقاء عمل النقطة الطبية على قدر الإمكانات المتاحة لنا، حتى نتمكن من التعامل مع أي طارئ مفاجئ داخل المدرسة، فكنت على رأس عملي داخل تلك النقطة وكنت من المبادرين لخدمة النازحين داخل المدرسة.
هكذا قصفوا المدرسة
حوالي الساعة 9:00 صباح يوم 20/10/2024، جاءت مسيرة “كواد كابتر” إسرائيلية محملة بميكروفون يخرج صوتاً بلغة عربية يقول: (على جميع المتواجدين اخرجوا من مكانكم، أنتم في ساحة قتال خطيرة، جيش الدفاع الاسرائيلي، قد أعذر من أنذر). في تلك اللحظات عمت حالة من الفوضى والرعب والخوف داخل المدرسة وأصبح جميع النازحين يجهزون أنفسهم وأمتعتهم الأساسية للخروج ومن ضمنهم أنا أيضاً، والبعض منهم أصبح يخرج من المدرسة. بعد مرور عشرة دقائق على ما تم تبليغنا به، تفاجأت بسماع أصوات انفجارات عنيفة داخل المدرسة، وأنا لحظتها كنت داخل أحد الصفوف أجهز أمتعتي وشنطة للإسعافات الأولية التزاماً مني بعملي لإسعاف أي حالة تستدعي الإسعاف خلال نزوحنا من المنطقة. خرجت والهلع يعتريني لأجد أن جميع من كان بساحة المدرسة قد تم استهدافه بفعل القذائف التي تم اطلاقها، والحجارة والركام يعم الساحة. كان هناك عشرات الجثث في الساحة والاصابات على الأرض يصرخون ويستغيثون، حيث إن أغلب الاصابات حالات بتر، وأنا لحظتها قمت بتصوير فيديو عبر كاميرا هاتفي المحمول يوثق تلك الجريمة التي تعرضنا لها، حيث استشهد في هذا الحدث أكثر من 10 شهداء واصابة أكثر من 40 شخص. وأنا قمت بإسعاف بعض الحالات على قدر استطاعتي، إلا أنني لم أستطع وحدي العمل ناهيك أنه لا يوجد أي امكانيات طبية سوى شنطة الاسعافات الأولية التي كانت معي.
في حوالي الساعة 10:30 صباح ذلك اليوم، تحركت وحدي صوب شارع المدارس وقد كان بهذا الشارع العديد من الجثث الملقاة على جانبي الطريق، بالإضافة للجرحى. وأذكر أنني وجدت عائلة مكونة من أم وطفليها، حيث كانت الأم قد فارقت الحياة وابنها مقطع إلى أشلاء وقد فارق الحياة مع والدته، أما طفلتها البالغة 4 سنوات تقريباً فكانت على قيد الحياة وأذكر أنهم من عائلة (شحادة)، وقمت بحملها والسير بها بعد تقديم الاسعافات الأولية لها من قِبلي حتى سلمتها لبعض الشباب ولا أعلم اسمهم ونقلوها لإحدى النقاط الطبية.
وصلت بالقرب من صالة بغداد، وأثناء سيري تجاهها وجدت العديد من الأشخاص فأنا مشيت صوبها، ورأيت عند صالة بغداد ما لا يقل عن 30 دبابة وأكثر وعشرات الجنود، من كثرتهم توقعت أنى داخل قاعدة عسكرية، جميع الدبابات متراصات مع الجنود حول أطراف الشارع، ونحن كنّا نمشي بالشارع. ولحظة المشي كان جنود الاحتلال يعتقلون العديد من الأفراد منهم من الرجال ومنهم من النساء وأنا أثناء مشيي قد اعتقلوا قرابة 30 شخص وامرأتين أيضا.
عدد الأفراد الذين يمشون معي كان يفوق الـ 600 وأكثر، كنّا جميعنا نمشي بالشارع المؤدي لشارع غزة القديمة. طوال طريقنا كان يوجد مسيرات (درون) عليها كاميرات تعتلينا، وكل من تقف فوق رأسه يتم اعتقاله والمناداة عليه برمز وليس باسمه مما يوحي الأمر أن الاعتقال عشوائياً، حتى تمكنا من الوصول لمدينة غزة مشياً على الأقدام من شارع صلاح الدين.